قبل أي شيء، حاول الإجابة معي على هذا السؤال: من هم أفضل مدافعي القارة الأفريقية منذ بداية الألفية الجديدة؟ لدنيا كولو توريه، ريجوبرت سونج، وائل جمعة، مجيد بوقرة، وربما أيضًا مهدي بن عطية.

حسنًا، هل تمكن أي من هؤلاء، في أية لحظة، من دخول قائمة المدافعين الخمسة الأفضل في العالم؟

الإجابة هي لا، كان دائمًا هناك فارق واضح بين هؤلاء، وبين مالديني وكانافارو وجون تيري. الآن حاول أن تضم إليهم اسمًا جديدًا، هذا الاسم هو كاليدو كوليبالي، ولنطرح السؤال مجددًا. هل ستختلف الإجابة؟ نعم بالتأكيد، ﻷن كوليبالي لا يقل أبدًا عن مدافعي التصنيف الأول حاليًا مثل فان ديك، لابورت، وسكرينيار. 

ولهذا تحديدًا نحن هنا، إذ نقف أمام مدافع أفريقي وصل لمكانة فريدة، ولعلها غير مسبوقة أيضًا، لكنه لا ينال في المقابل ما يناله محمد صلاح، ساديو ماني، رياض محرز، وأوباميانج من تغطية ومتابعة وحفاوة.

صحيح أن هذا الرباعي يقدم مستويات رائعة أمام المرمى، لكن أفريقي خامس يقدم أداءً لا يقل روعة في حماية مرمى فريقه ومنتخبه.

سينت ديه فوج معك يا كاليدو

المتأمل في مسيرة كاليدو سيكتشف أن بداياته تشبهنا للغاية؛ هو مثلنا بدأ في لعب الكرة في الحديقة المواجهة لمنزله، وهو مثلنا كان يصنع المرمى من تكويم الملابس بين مسافة يحددها بخطوات قدمه، وهو مثلنا كان يقضي ساعات طويلة في اللعب دون أن يدري، حتى إذ طلبت منه أمه الصعود للبيت استأذنها في خمس دقائق، لكنه يستمر لساعة كاملة. 

الاختلاف الوحيد ربما كان في المكان، حيث ولد كاليدو لأبوين هاجرا من السنغال نحو فرنسا، ونشأ في مدينة سينت ديه فوج التي تقع شرق باريس. هناك انتظم في الدراسة، وتعرف على أصدقاء أفارقة، وأتراك، ومغربيين، وفرنسيين بالتأكيد، وتبلور حلمه بأن يكون لاعبًا محترفًا في عامه الحادي عشر.   

لماذا الحادي عشر تحديدًا؟ ﻷنه تأثر للغاية بمونديال 2002، وشاهد فرحة واحتفالات جيرانه السنغاليين بفوز منتخبهم على فرنسا، فشرع في توزيع أسماء النجوم على زملائه في الفريق؛ هذا هنري، وذاك الحاج ضيوف، وربما هناك خليلو فاديجا، وأيضًا زيدان، تمامًا كما كنا نفعل حينئذ!

بعد ذلك بنحو 16 عامًا، كان مراسل التلفزيون الفرنسي يجري حوارًا مع سكان المدينة. تجمع حوله مواطنون ومهاجرون، وبدا أنهم يعيشون لحظة خاصة.

إنها المشاركة الأولى لصديقهم وجارهم: كاليدو كوليبالي بالمونديال، والكل هنا يفتخر ويفرح من أجله. نشرت القناة فيديو لتلك المقابلة تحت عنوان بديع: سينت ديه فوج مع كاليدو كوليبالي.

16

أحب كاليدو ليليان تورام جدًا، واختاره قدوة داخل الملعب وخارجه. وكما بدأ تورام مسيرته في أكاديمية نادي موناكو الشهيرة، انضم كوليبالي في عامه الثالث عشر ﻷكاديمية ميتز بعدما لفت الانتباه. ودع أباه وأمه، وانطلق نحو مقر الأكاديمية يغمره الحماس، لكنه اصطدم بعد عام واحد بقرار قاسٍ. 

كان القرار هو الاستغناء عن خدماته، حيث وجد مدربو الأكاديمية أنه يعاني وقت الاستحواذ على الكرة، ولم يمنحوه فرصة كاملة للتطور والتعلم. عاد كاليدو أدراجه نحو سينت ديه فوج، لكنه عاد بشخصية مختلفة. كان غاضبًا، يرفض الاعتراف بالفشل كأي مراهق في سنه، وهذا انعكس على سلوكه مع أصدقائه.

أصبح كوليبالي أكثر عدوانية، يرفض الخسارة في المباريات، ويعنف أصدقاءه كلما استقبل هدفًا. لاحظت أمه هذا السلوك، نهرته متسائلة: لماذا تعامل الآخرين بهذا الشكل الكريه؟ لماذا عليهم أن يتحملوك؟ لم يعرف الصغير إجابة لتلك الأسئلة، لكن نظرته للأمور تبدلت حينها، كانت فعلًا لحظة فارقة في شخصيته.

ظهر الفارق في تركيز كوليبالي على تطوير مستواه، ومعالجة عيوبه، مع حسن معاملة الآخرين بدلًا من توجيه طاقته السلبية ضدهم. لذلك حين جاءت الفرصة للاختبار في ميتز مرة أخرى لفت السنغالي الانتباه، وأحس بدعم كل من حوله، وكأنه يمثل مدينتهم ويعبر عنهم وهو في السادسة عشر. 

تضاعف هذا الدعم بالطبع بعدما حجز لنفسه مركزًا أساسيًا في فريق تحت 19 عام، وساهم في الفوز بكأس جامبرديلا التي تقام لهذه الفئة السنية، ثم قدمت له إدارة ميتز عرضًا احترافيًا في 2010 وقبل أن يتم عامه الـ19، كان ذلك برهانًا على التطور الكبير الذي حققه منذ تخلت عنه الأكاديمية.  

لمدة موسمين، حظي كوليبالي بمشاركات في أكثر من 40 مباراة. ظهر التزامه وقدرته على التطور، لكن كان يعيبه ضعف الشخصية وإصابته بالتوتر كلما أخطأ. هبط ميتز بعد ذلك للدرجة الثالثة، تفكك الفريق وكان على كاليدو البحث عن فرصة جديدة. 

أحمد، كف عن المزاح!

أتته الفرصة في بلجيكا، ذلك الدوري الذي يصنع النجوم وينتشر فيه كشافو المواهب، ومع فريق له اسم وجماهيرية هو جينك. حزم صاحب الـ21 عامًا أمتعته، بنفس الرغبة في التطور والالتزام، وانطلق ليخوض تجربته هناك. لم يستغرق الأمر سوى أسابيع معدودة، وبدأ نجمه في البزوغ. 

أظهر كاليدو قوته البدنية؛ فهو مدافع طويل، قوي في التدخلات الهوائية، ويحظى بقدر جيد من السرعة على الأرض، لكن الأهم أنه تحسن على صعيدين؛ الأول هو التنوع والشمولية، حيث أوكل إليه المدربون مهمة اللعب كظهير أحيانًا بجانب قلب الدفاع. أما الأمر الثاني فهو الشخصية. 

كوليبالي كان خجولًا، لا يجيد توجيه زملائه، ويفقد تركيزه تحت الضغط. في جينك، ومع تراكم الخبرة واكتساب الثقة، بدأ ذلك في التلاشي، بل وأظهر ملامح قيادية دفعت زميله جوليان جوريس لتشبيهه بالمدافع المخضرم فينسينت كومباني. جوليان لم يكن وحده من يرى ذلك. 

في إحدى المرات، كان كاليدو ينتظر صديقه أحمد. رن الهاتف، أجاب: مرحبًا، من يكون؟ أجاب الطرف الآخر: أنا رافا بينيتيز. ضحك كوليبالي وقال: أحمد لا تمزح، أنا أنتظرك. رن الهاتف مرة ثانية، كاليدو: من؟ الإجابة: أخبرتك أني رافا بينيتيز. بنبرة حادة رد كاليدو: أحمد، كف عن المزاح! 

بعد ذلك، اتصل وكيله ليسأل: كولي، هل اتصل بك المدرب بينيتيز؟ طبعًا نزل هذا السؤال كالصاعقة على كاليدو، لقد قام لتوّه بتوبيخ أحد أهم مدربي كرة القدم. وعده الوكيل بأن يصلح الأمر، وبعد دقائق كان رافا يتصل: الآن تأكدت أني لست صديقك أحمد!

تكتيك على العشاء

كان رافا آنذاك مدربًا لنابولي، وأعجب بما أرسله كشافو النادي عن كاليدو. سأله إن كان يحب أن ينضم إليه، فطار السنغالي لإيطاليا مدركًا أنه أمام تحدٍ مختلف، وذلك لصعوبة الدوري، وتطور التكتيك عن السائد في بلجيكا وفرنسا. 

تعزز لديه هذا الشعور خلال مقابلته الأولى مع رافا. كان موعدًا على العشاء، وما أن انتهوا حتى قام المدرب بترتيب الأكواب والكؤوس ليشرح التكتيك الذي يستخدمه مع فريقه، وبدأ في النقاش حوله بكل جدية. هنا أحس كاليدو أنه دخل أجواء مختلفة، وبداية الانخراط بتلك الأجواء بموسمه الأول لم تكن موفقة.

حيث ظهر أبطأ من اللازم، وأقل قدرة على التعامل مع إيقاع المباريات المرتفع، بل وارتكب 5 أخطاء دفاعية، لكنه رغم ذلك كان يتعلم، ويفهم كيف ينبغي أن يتصرف في مواقف مختلفة، ويقضي ساعات رفقة المدرب الإسباني ومحلل الفيديو لتحليل أدائه بعد المباريات، بعض الحالات كان يظنها بسيطة ويتفاجأ برافا سعيد بها، وحالات أخرى كان يراها ممتازة ويتفاجأ به يحذره من تكرارها.

أقوى من اللازم

رحل بينيتيز، وجاء ماوريسيو ساري، وكانت هناك شكوك حول استمرار كوليبالي مع الفريق، لكن ساري رأى أن مشكلة نابولي الدفاعية لا تكمن في كاليدو الذي يمتلك الإمكانيات الجيدة ويلتزم بتعليمات مدربه، وهنا قرر أن يستثمر جهدًا ووقتًا في تطوير عدة نواحٍ فيه. 

ركز ساري بداية على قرارات كوليبالي وقت حيازة الكرة، أراده أن يكتسب الثقة ومهارة التمرير الصحيح، ثم عمل على تمركزه أثناء رقابة مهاجم الخصم أو خلال المرتدات، استعان أيضًا بطائرات درونز في التدريبات ليحظى بمعلومات أكثر عن تصرفات مدافعه. 

النتيجة لم تتأخر، ومع موسم ساري الأول برز كاليدو بشدة. احتفظ بمميزاته البدنية، وأضاف إليها وعيًا تكتيكيًا وذكاءً في القرارات. يكفي أنه كان أكثر من مرر كرات صحيحة باليورباليج، وبات أحد أسرع مدافعي الدوري الإيطالي كذلك. كانت هذه فقط بداية مرحلة جديدة لمسيرته، أضاف إليها كثيرًا فيما بعد.   

الآن تأمل ماذا فعل كوليبالي خلال المواسم الثلاثة الأخيرة، ستجد أنه حظي بنسبة عرقلات ناجحة تتراوح بين 63% ل68%، ومعدلات استخلاص الكرة بين 1.2 لـ3 استخلاص/المباراة، أضِف لذلك إحصائية جديدة تقيس تطبيق المدافع للضغط ونجاح فريقه في استعادة الكرة، ستكتشف أن أرقامه في كل ما سبق تقترب بشدة من فان ديك وراموس ولابورت، بل تتخطاهم أحيانًا.

وأرق من اللازم أيضًا

كل ذلك دفع المدرب ديديه ديشامب لمحاولة ضمه لمنتخب فرنسا، وإغرائه بفرص الديوك في الفوز بيورو 2016 ومونديال 2018، لكن كاليدو لم يتعجل. فكر بهدوء، ثم أعلن أنه سيمثل السنغال. لا يزال كوليبالي يذكر ردة فعل أبيه وأمه حين أخبرهما بقراره، كانت هناك لمعة في أعينهما وابتسامة اعتزاز لا ينساها أبدًا. 

طبعًا يحب الكل أن يكون كوليبالي في فريقه، خصوصًا مانشستر سيتي وليفربول اللذان يخططان للسيطرة على كل البطولات الموسم القادم. هو مدافع صلب جدًا، حاد الذكاء ويقرأ اللعبة سريعًا، يبعث الطمأنينة في زملائه، ملتزم لأقصى درجة وليس مغرورًا، هل هناك مدرب عاقل يرفضه؟   

في الحقيقة كاليدو ليس ملتزمًا وغير مغرور وحسب، بل إنه شديد التواضع والبراءة. لا يتسبب في أي مشكلة داخل وخارج الملعب، يقوم بتبرعات مالية كبيرة ولا يذكرها، يقدم مستوى هائلاً ولا يسعى لمزاحمة صلاح وماني على أي شيء.

 كوليبالي بريء لدرجة أنه لا يفهم العنصرية، لا يعرف الفكرة من سب وكراهية إنسان وعدم احترامه بسبب لونه، يرى كل البشر إخوة، ويعيش بالمبدأ الذي علمته له أمه حين كان في الثالثة عشر: أن يحسن للجميع.

لذلك حين تعرض للعنصرية من جمهور إنترميلان، رفض أن تتوقف المباراة، وما إن أنتهت إلا وتذكر أنه وعد أحد ناشئي الإنتر بقميصه. عاد يبحث عنه ليعطيه القميص، اعتذر الولد عما بدر من جمهور فريقه، أجابه كولي: لا عليك، أنا بخير، أراك قريبًا أخي.