قوات الأمن الكازاخستانية أعلنت أنها قتلت عشرات وأصابت قرابة 1000 من مثيري الشغب، على حد وصفها، المناهضين للحكومة. القوات الرسمية أعلنت أن عمليات القتل الواسعة هدفها استعادة الأمن في مدينة ألماتي، كبرى مدن البلاد. الشرطة بررت استخدامها الوحشي للأسلحة بأن المتظاهرين حاولوا السيطرة على مراكز الشرطة، فكان لا بد من التصدي لهم. كذلك قُتل 8 من قوات الشرطة في الاحتجاجات نفسها.

الاحتجاجات التي بدأت اعتراضًا على ارتفاع أسعار الوقود، ثم اتسعت لتشمل مطالب سياسية، كانت ذريعةً للرئيس قاسم توكييف أن يوجه نداءً لتكتل أمني تقوده روسيا بضرورة التدخل لحفظ الأمن في البلاد. فالمتظاهرون كما يراهم توكييف ليسوا إلا جماعات إرهابية تلقت تدريبًا وتمويلًا خارجيًا لإسقاط حكومته وتمزيق كازاخستان. وسرعان ما استجابت بوتين للدعوة، فأرسلت قواتها لحفظ الأمن في كافة أرجاء البلاد.

قبل أن يتجه توكييف للخارج كان قد فرض الطوارئ، وأعلن حظر التجوال في كامل البلد، ومنع التجمعات بمختلف أشكالها وأهدافها. كما توعد برد صادم على تلك الاحتجاجات التي وصفها بأنها فترة سوداء تحياها البلاد. خطابات توكييف بدا أنها لا ترى المتظاهرين ولا تؤمن بمطالبهم، فلم يهدأ غضبهم. اقتحم الغاضبون مطار ألماتي، أحد أكبر المطارات الرئيسية في البلاد. اضطر موظفو المطار لمغادرته وتسليمه دون مقاومة للمقتحمين.

الغضب في كازاخستان متراكم ومتشعب، فبينما ينفجر الناس في وجه توكييف إلا أن الواضح أن سلفه نورسلطان نزارباييف هو المقصود الرئيسي بذلك الغضب. توكييف هو ثاني رئيس يتولى قيادة البلاد منذ استقلالها عام 1991. وكانت إرهاصات الغضب تجاهه قد بدأت لحظة انتخابه عام 2019 من كافة المجتمعات الدولية والمحلية. منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أدانت توكييف والانتخابات التي فاز عبرها ووصفتها بأنهما لا يُظهران أدنى احترام للمعايير الدولية للديموقراطية.

المطالبة برحيل الرئيس الراحل

الرئيس السابق، نورسلطان، ترك المنصب ولم يترك الرئاسة. فمنذ تنحيه عن السلطة تولى منصبًا رفيعًا في الأمن القومي. ولما تردد اسمه كثيرًا في المظاهرات الراهنة، وأسقط المتظاهرون تمثالًا له، وثار الناس ضد كل ما يمثله في مدينة تالديكورن، مسقط رأسه، قام توكييف بفصله من منصبه كمحاولة لتهدئة الأوضاع، لكن لا هدوء حتى الآن.

نورسلطان استطاع أن يُخضع كازاخستان في فترة حكمه، وجعلها بلدًا يُوصف بالمستقر، أو المستكين للاستبداد. كما جعل نفسه إلهًا، فسمى العاصمة باسمه، ونصب تماثيله في كافة أنحاء البلاد، وفرض الاحترام والإجلال لتماثيله ولشخصه. ومن السخرية أن الرجل وعد ببناء نموذج شبيه لكوريا الجنوبية، لكن الواقع أنه بنى نموذج كوريا الشمالية. واجه نورسلطان غضبًا شعبيًا بسبب تردي الأحوال المعيشية في بلد أنتج 100 مليون طن من النفط الخام عام 2019، ويحتل المركز 12 عالميًا في احتياطي النفط الخام.

 الغضب الشعبي دفعه للتنحي وتولية حليف مقرب منه في منصب الرئاسة. فالانتخابات في كازاخستان دائمًا ما يفوز فيها الحزب الحاكم بنسبة تقارب 100%. فالانتخابات يتم تزويرها بالكامل، بجانب أنه لا وجود لمعارضة حقيقية وفاعلة في البلاد. لكن نورسلطان لم يخرج من السلطة أبدًا، فظلت كل المفاتيح في يده. حتى أن وسائل التواصل الاجتماعي والصحف المعارضة لا تشير لتوكييف إلا باسم الزوجة الصغرى، أو العشيقة المحرمة، دلالةً على خضوعه لنورسلطان.

لهذا لا يمكن تكوين صورة واضحة المعالم عما يحدث في الدولة الواقعة في آسيا الوسطى.المقاطع المصورة تُظهر أعمدة الدخان تتصاعد من عدة مبان حكومية. كما أظهرت مقاطع مصورة بعضًا من قوات الشرطة تصطف بجانب المحتجين، بينما أظهرت مقاطع أخرى استخدامًا لخراطيم المياه لتفريق المتجمهرين، ومقاطع ثالثة أظهرت الاستخدام المفرط للأسلحة في إرهاب المتظاهرين.

القمع نجح عام 2011 في إجهاض مظاهرة بسبب تدني الأجور وضعف الظروف المعيشية وكان أغلب المشاركين فيها من العاملين في مجال النفط، لكن الشرطة على الفور أردت 14 قتيلًا، فخفتت حدة المظاهرة حتى تلاشت. ومنذ ذلك الحين أصبحت الإضرابات والتظاهرات فعلًا غير شائع في كازاخستان. لكن تبدو هذه المرة مختلفة، فإقالة نورسلطان، واستقالة الحكومة بأكملها، بجانب القمع المفرط لم ينجحوا في قمع التظاهرات.

ولاية أميركية بين روسيا والصين

الولايات المتحدة هي أول دولة اعترفت باستقلال كازاخستان عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. ولهذا تقول كازاخستان رسميًا إنها تتبع سياسة خارجية متعددة الأوجه، لكن الواقع أنها تميل إلى الدولتين اللتين تتشارك معهما الحدود، روسيا والصين.

كازاخستان كانت المنطقة الرسمية للتجارب النووية في الاتحاد السوفييتي. فقد أُجري فيها قرابة 450 تجربة نووية طوال 40 عامًا. لذا حين تفكك الاتحاد السوفييتي ترك كازاخستان دولةً صغيرة المساحة لكنها غنية بالثروة النفطية، والأهم دولة تمتلك واحدة من أكبر الترسانات النووية في العالم. 1400 رأس نووي، أكثر من 100 صاروخ باليستي عابر للقارات. فحرصت الولايات المتحدة على الارتباط بكازاخستان طوال الفترة اللاحقة لسقوط السوفييت، من أجل تفكيك منظومتها النووية، ونجحت في ذلك.

بإشراف من الولايات المتحدة نُقل آخر صاروخ باليستي إلى روسيا عام 1995. وقدمت واشنطن قرابة 300 مليون دولار كمساعدات لكازاخستان منذ عام 1991. ووصف جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية الأميركية، العلاقات مع كازاخستان أمام الكونجرس عام 2019 بأنها أنضج العلاقات مع دولة في آسيا الوسطى. يأتي ذلك الوصف في وسط استضافة كازاخستان للعديد من المناورات المشتركة والتدريبات لقوات حفظ السلام.

أما منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان الأمريكية، والأوروبية، لا ترى كازاخستان بتلك الصورة. فتوصف دائمًا بأنها بلد غير حر وغير ديموقراطي. حتى أن الرئيس الأمريكي جو بايدن لم يدعُ البلد للمشاركة في قمته حول الديموقراطية التي عُقدت في ديسمبر/ كانون الأول عام 2021.

موسكو لا تريد أوكرانيا جديدة

موسكو على الجهة الأخرى تواجه معضلة كبرى في كازاخستان. فبسبب الأزمة الأوكرانية فإن علاقات موسكو مع الغرب في أدنى حالاتها. لهذا احتفظت موسكو بحد معقول من الدبلوماسية في التصريحات فيما يتعلق بكازاخستان، فأعربت عن أملها في عودة الأوضاع لطبيعتها في البلد الذي ظل مستقرًا طوال 30 عامًا.

خصوصًا أن كازاخستان أغنى من أوكرانيا، وتتشارك في حدود أكبر مع روسيا، وفيها محطة بايكونور الفضائية والتي تديرها موسكو. ما يعني أن كازاخستان أهم لموسكو من أوكرانيا، لهذا لن تسمح موسكو للبلد بالخروج من نفوذها. لكن التغيير المحتمل الذي قد تحدثه المظاهرات في طبيعة النظام السياسي، يخيف موسكو من قدوم نظام يميل للغرب. كما أن موسكو لا تستطيع الإقدام على خطوة عسكرية كما فعلت في أوكرانيا، لأنها بذلك تكون قد فتحت عدة جبهات على نفسها، وأعلنت نفسها عدوًا للجميع.

كما أعرب عدد من رجال الكرملين عن خشيتهم من تأثير الدومينو. وأن الاحتجاجات في كازاخستان سببها المعلن ارتفاع أسعار الوقود، لكن الأسباب الحقيقية تتعلق بأنظمة الحكم وطريقة إدارة البلاد. وهو ما تتشابه فيه كازاخستان مع العديد من الجمهوريات السوفييتية المجاورة لها، لهذا يخشون من امتداد التظاهرات لدول الجوار.

لكن المعضلة الأخرى أن كازاخستان هي الجائزة الكبرى، من يفز بها يسيطر على آسيا الوسطى. فوجود حكومة تميل للغرب يعني ضمان ولاء آسيا الوسطى بالكامل للغرب، وخلق مشكلة كبرى لروسيا والصين. خصوصًا أن كامل النخبة في كازاخستان قد درست في دول أوروبية مثل بريطانيا. كما تشير العديد من الدراسات إلى وجود فوبيا داخلية بين الشعب الكازاخستاني من روسيا.