أتى اقتحام أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر المنطقة الخضراء شديدة التحصين، وسط العاصمة العراقية، ليربك حسابات المشهد السياسي العراقي، فقد دخلت الجموع الغاضبة القصر الجمهوري، وانتشرت فيديوهات لهم وهم يتقافزون في حمام السباحة بالقصر، وخاض الصدريون، يومي الاثنين والثلاثاء، قتالًا عنيفًا ضد الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، سقط فيه العديد من القتلى والجرحى، وشهدت المعارك اشتباكات بالأسلحة الرشاشة وقذائف الهاون، وأعلنت مؤسسة الجيش أن المنطقة الخضراء التي تضم مقرات الحكومة والسفارة الأمريكية وبعثات دبلوماسية، تعرضت لقصف بأربعة صواريخ، وفقًا لوكالة الأنباء الحكومية.

وعلَّق رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي اجتماعات الحكومة، ودعا لاجتماع أمني طارئ في مقر القيادة العسكرية، وتم فرض حظر التجول وتسيير دوريات شرطية في شوارع العاصمة، بينما تواصل دوي الانفجارات، مع إقدام ميليشيات «سرايا السلام»، الموالية للصدر، على استهداف مواقع داخل المنطقة الخضراء عسكريًّا، ورد الجيش والميليشيات الولائية على مصادر النيران.

أزمة الحائري

تفجر العنف في بغداد على خلفية أزمة تقليد المرجع الشيعي كاظم الحائري، الذي أصبح فجأة محط اهتمام إعلامي كبير بسبب هذه الأحداث، وهو مرجع ديني يقيم في مدينة قُم المقدسة لدى الشيعة الاثني عشرية في إيران، وكان من أبرز تلامذة محمد صادق الصدر، والد مقتدى، الذي يقال إنه زكاه قبل موته وأوصى مريديه باتباعه.

وقد بلغ الرجل من الكِبر عتيًا، فهو في العقد التاسع من عمره، ويعاني من أمراض كثيرة، وقد صدر بيان على لسانه يوم 28 أغسطس/آب يعلن فيه اعتزال العمل المرجعي وتخليه عن كل متعلقاته بسبب ظروف تقدم العمر، ودعا مقلديه إلى طاعة المرشد الأعلى للثورة في إيران، علي خامنئي، ووجه نقدًا حادًّا إلى مقتدى قائلًا: «على أبناء الشهيدين الصدرين أن يعرفوا أن حب الشهيدين لا يكفي ما لم يقترن الإيمان بنهجهما بالعمل الصالح والاتباع الحقيقي لأهدافهما التي ضحيا بنفسيهما من أجلها، ولا يكفي مجرد الادعاء أو الانتساب، ومن يسعى لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدرين، أو يتصدى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية، فهو -في الحقيقة- ليس صدريًّا مهما ادعى أو انتسب.

ويطعن كلام الحائري بشكل مباشر في شرعية قيادة مقتدى للجماهير الشيعية على اعتبار أن مؤهلاته العلمية تقصر عن إدراك مرتبة المرجع الديني الذي يقلده العامة، وأن كل مؤهلاته أن والده، محمد صادق الصدر، وابن عم والده، محمد باقر الصدر، كانا مرجعي تقليد، وأن المكانة العلمية لا تورث كالنسب، وتتمثل خطورة هذه الكلمات في أنها تنزع الغطاء الشرعي عن مقتدى؛ لأن العديد من أنصار التيار الصدري يقلدونه، ومقتدى نفسه يتخذه مرجعًا دينيًّا له.

وقد شكك مقتدى الصدر في أن يكون الحائري هو الذي أصدر هذا البيان، وأنه قد يكون تعرض لإكراه أو ما شابه في إيران، قائلًا: «على الرغم من تصوري أن اعتزال المرجع لم يكن من محض إرادته، وما صدر من بيان عنه كان كذلك أيضًا، إلا أنني كنت قد قررت عدم التدخل في الشئون السياسية، فإنني الآن أعلن الاعتزال النهائي وغلق جميع المؤسسات إلا المرقد الشريف والمتحف الشريف وهيئة تراث آل الصدر الكرام».

وأوضح في بيانه المنشور على حسابه بموقع تويتر: «ما أردت إلا أن أقوم الاعوجاج الذي كان السبب الأكبر فيه هو القوى السياسية الشيعية، باعتبارها الأغلبية، وما أردت إلا أن أقربهم إلى شعبهم، وأن يشعروا بمعاناته، الكل في حل مني، وإن مت أو قتلت فأسألكم الفاتحة والدعاء»، في إشارة إلى أن حياته مهددة، مذيلًا بيانه بتوقيع «ابن الشهيدين الصدرين مقتدى الصدر».

وأغلق المتحدث الدائم باسم زعيم التيار الصدري، صالح محمد العراقي، المعروف بـ «وزير القائد»، حسابه الشخصي على «تويتر»، وأصدر مكتب مقتدى بيانًا يمنع منعًا باتًّا استخدام اسم التيار الصدري في جميع الأمور السياسية والحكومية أو رفع الشعارات والأعلام والهتافات السياسية وغيرها باسم التيار.

سياسة حافة الهاوية

يعد الصدر من رجال الدين الشيعة الذين تشهد علاقتهم بإيران توترات كثيرة، ويقف بالمرصاد لمحاولات طهران اختيار رئيس الوزراء العراقي، ويريد أن يختاره هو بحكم فوز الكتلة البرلمانية التابعة له بالأكثرية في البرلمان بعد الانتخابات التي أجريت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلا أنه لم يستطع حكم البلاد عن طريق تشكيل حكومة أغلبية بالتحالف مع قوى سياسية سنية وكردية، بسبب العراقيل الدستورية التي وضعتها قوى الإطار التنسيقي الموالية لطهران، التي جعلت «المحكمة الاتحادية العليا» تقرر لأول مرة أن الأغلبية البسيطة لم تعد تكفي لتشكيل الحكومة، واشترطت حضور ثلثي النواب لكي ينعقد المجلس لاختيار الحكومة، وأصدرت المحكمة أيضًا سلسلة من الأحكام التي يجمع بينها عامل مشترك واضح؛ وهو أنها تستهدف النيل من الصدر وحلفائه وتدعم الإطار التنسيقي الموالي لإيران.

وبناءً على ذلك قرر الصدر سحب كتلته من المجلس، وطالب بحله وإجراء انتخابات نيابية مبكرة بعد أن تلاشت آماله تقريبًا في الوصول لمقاليد الحكم عبر البرلمان، لكن الإطار التنسيقي المدعوم من طهران حاول تشكيل الحكومة في غيابه، فحشد الصدر أتباعه واقتحموا البرلمان ومنعوا انعقاد جلساته بالقوة، ولم ينجح أي طرف في حسم الأمر لصالحه، فعرض مقتدى، السبت الماضي، مبادرة تقضي بعدم اشتراك جميع الأحزاب والشخصيات التي شاركت بالعملية السياسية في عهد الاحتلال الأمريكي منذ عام 2003 وحتى اليوم وفيهم التيار الصدري، وأمهل جميع الأحزاب الموجودة على الساحة السياسية «72 ساعة» لإفساح المجال للإصلاح.

لكن النظام الإيراني باغته بضربة موجعة في الصميم لم تكن في الحسبان، وهي أزمة تنحي الحائري، المرجع الديني للصدر، ودعوته له باتخاذ المرشد الإيراني مرجعًا دينيًّا له، فجن جنون الصدر وقرر قلب الطاولة وتفجير العنف كرد على هذه المؤامرة الإيرانية، فأعلن اعتزاله للسياسة أيضًا كي لا يتحمل مسئولية العنف، وأطلق أتباعه وميليشياته لمواجهة خصومه عسكريًّا في قلب المنطقة الخضراء، فوجه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي طلبًا إلى زعيم التيار الصدري بسحب أتباعه ووقف الهجوم، فخرج الأخير وألقى كلمة طالب فيها بالانسحاب خلال ساعة واحدة فقط، وهو ما تم فعليًّا.

وأصدر أوامره بمنع أية مظاهرات حتى لو كانت سلمية، وانتقد أتباعه، واعتذر للشعب العراقي عما حدث، وقدم الشكر لقوات الأمن معتبرًا أنها وقفت بحيادية بين جميع الأطراف، وجدد إعلان اعتزاله السياسة، وقال: «القاتل والمقتول في الاشتباكات في النار، ووطننا أسير للفساد والعنف، أسير مطأطأ الرأس الآن، وبئست الثورة التي يشوبها العنف».

وأثبتت الأزمة أن الصدر يستطيع إشعال العراق بكلمة وإطفاءه بكلمة أخرى، وأنه لا يمكن تجاوزه بغض النظر عن تعريفه لدوره السياسي، فقد أصدر قراره الأخير بوقف العنف وهو في مرحلة الاعتزال.

ويحاول الصدر الظهور بمظهر القائد العراقي العروبي الذي يتصدى للتدخل الإيراني، ويسعى دائمًا للحديث باسم العراق وشعبه، وليس فصيلًا محددًا؛ لأنه يرى ذلك انتقاصًا من زعامته، التي لا يستمدها من منصب حكومي، بل من حب الجماهير وولائها، لذلك يترك أتباعه يتصرفون بشكل يبدو عفويًّا على اعتبار أنهم جماهير الشعب من البسطاء، مما يعطي حركتهم زخمًا أكبر ويمنع وجود فواصل نفسية تمنع انضمام الآخرين إليهم، فمثلًا يهدف الصدر إلى اجتذاب نشطاء حراك تشرين المعارضين لإيران رغم أذيته لهم سابقًا، لكنه يراهن على أن قوة خطابه الوطني ومطالبه باستقلالية العراق ومحاربة الفساد قد تجذب إليه أطيافًا أخرى من خارج التيار باعتباره يعبر عن هموم الوطن ككل.

وقد قال الصدر للحائري: «يظن الكثيرون بما فيهم السيد الحائري أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم، كلا، إن ذلك بفضل ربي أولًا ومن فيوضات السيد الوالد، الذي لم يتخلَّ عن العراق وشعبه»، أي إن قيادته للجماهير تنبع من كونه يتبنى خطابًا وطنيًّا جامعًا، خاصة أن كثيرًا من شباب التيار الصدري لا يعرفون الحائري هذا، ولا يعرفون غير الصدر قائدًا لهم، لو أمرهم بخوض البحر لخاضوه، يغضب لغضبته الآلاف منهم، لا يسألونه فيما غضب، من دون أن يحمل المؤهلات العلمية لتبوء هذه المكانة الدينية.

وبناءً على مواقفه السابقة، يمكننا أن نتوقع استمرار نشاط الصدر السياسي بصورة أو بأخرى، فنحن أمام أكبر تيار شعبي في العراق، وكذلك ميليشيات مسلحة تسيطر على مناطق نفوذ مهمة، وشبكات اقتصادية واجتماعية ودينية لن تختفي من الوجود، بل ستظل تعمل تحت إمرة الصدر، الذي اعتزل العمل السياسي مرارًا سابقًا، وكان يعتبر هذه الفترات بمثابة استراحات المحارب ويعود بعدها ليواصل مسيرته، لكنه يفعل ذلك بطريقة تبدو مزاجية وعفوية، وهو ما يجعل من الصعب التنبؤ بخطواته المستقبلية.