عرض فيلم «كيرة والجن» في السينمات في نهاية شهر يونيو الماضي، الفيلم مقتبس عن رواية «أحمد مراد»، تحت عنوان 1919. يأتي الفيلم بسيناريو وحوار «مراد» نفسه ومن إخراج «مروان حامد».

اندلعت الثورة المصرية عام 1919 في جميع أنحاء البلاد ضد الاحتلال البريطاني لمصر والسودان، واشترك فيها مصريون وسودانيون من مختلف مناحي الحياة في أعقاب أوامر بريطانية بالنفي للزعيم الثوري سعد زغلول وأعضاء آخرين في حزب الوفد عام 1919. سيطرت السلطة العسكرية البريطانية على سياسة الحكومة المصرية. جُنّد الفلاحون قسرًا لخدمة الجيش البريطاني كعمال في حملته للاستيلاء على سوريا وفلسطين من الإمبراطورية العثمانية. أُرسل العديد للعمل على الجبهة الغربية في أوروبا. بنهاية الحرب كان أكثر من مليون ونصف المليون رجل قد حفروا الخنادق ومدوا الأنابيب وشيدوا سككًا حديدية. استولى الاحتلال على الحيوانات والأعلاف، وعانت العائلات من مجاعات بلا نهاية.. حظرت الأحكام العرفية الاجتماعات العامة والتجمعات لأكثر من خمسة. أدّت الثورة إلى اعتراف بريطانيا باستقلال مصر عام 1922، وتنفيذ دستور جديد في عام 1923. ومع ذلك، رفضت بريطانيا الاعتراف بالسيادة المصرية الكاملة على السودان، أو سحب قواتها من منطقة قناة السويس، تلك العوامل التي تسببت باستمرارها في توتر العلاقات الأنجلو-مصرية في العقود التي سبقت ثورة مصر 1952.

أدب أحمد مراد

نحتاج أن نبدأ الحكاية من حيث يأتي أدب «مراد» نفسه. يقع تصنيف ما يكتبه «مراد» تحت مصنّف «البوب آرت»، وهو ما يعرّف بالروايات المسلّية الخفيفة وذاك لا يعني على الإطلاق أن تفتقد عنصر الاهتمام بمحتواها. القضية بين العمق والتسلية مثار جدال طويل في واقع الأمر، فلا يصح أن تفتقد الرواية الجادة إلى عنصر المتعة، ولا يجب أن يخضع أدب البوب آرت للاستسهال في تفاصيله. في كلتا الحالتين أنت راوٍ: قاص للحكاية عليك أن تمنحني شيئًا مهمًا مؤثرًا ممتعًا أيضًا، هكذا تعلمنا من حكايات الجدّات.

تكمن المشكلة في أن بعض القراء، يقيّم «مراد» نفسه مقارنة بروايات لا تخضع لنفس تصنيف ما يكتب، حتى هو نفسه ومعجبوه يخضع نفسه لنفس المنافسة بالخطأ، كأن تقارنه ببهاء طاهر مثلًا، ثم تمتعض قائلًا إن «مراد» بالمقارنة ليس كاتبًا جيّدًا. أثيرت تلك المشكلة حين رُشّحت إحدى رواياته ضمن سباق البوكر العربية، التي نعلم عنها اختياراتها لنوع مختلف من الأدب عمّا يقدمه مراد.

كانت تلك مقدمة مهمة قبل بداية الحديث عن فيلم «كيرة والجن»، لنفس المشكلة تقريبًا. يخضع الفيلم لتصنيف الفيلم الجماهيري لمشاهدي سينما العيد، جزء من نزهة اليوم، مشاهد المعارك، واللعب على المشاعر الوطنية، وقصص الحب، والنوستالجيا المؤثرة وصداقة الرجال.

أبطال بلا تأسيس وثغرات السيناريو

يستيقظ «الجن» ذات يوم ليجد أباه –الرافض أبدًا لطيشه– قد قُتل على يد لواء إنجليزي بدم بارد، تثور ثائرته فيقرر الانتقام بذات الطيش المناسب لشخصيته، إلى هنا والترتيب في محله، وذلك حتى يتعارض طريقه وفريق المقاومة المصرية فيقررون ضمّه إلى صفوفهم. يتحوّل الفتى في أيام معدودة لشخص بتلك المسؤولية يحمل روحه على كتفه، ثم يقع في الحب فيقرر في أيام معدودة أخرى أن يتخلى عن كل إدماناته، وكأن السيناريو يعتذر، فالمدّة المسموحة له في وقت الفيلم الضيق لا تسمح بتطوّر شخصية أعمق من هذا.

يرسم السيناريو «شلّة» المقاومة من مختلف الطبقات والخلفيات الاجتماعية، ابن الأغنياء، والطبيب من الطبقة المتوسطة، القبطية، واليهودي المصري. خلطة وطنية محفّزة لشعور الوطنية الذي تحدثنا عنه سابقًا، ضمن معارك تقتطع اهتمام الجمهور وصفيرهم كأفلام الفتوات.

حتى شخصية الخائن في الفيلم، والذي إن سلّمنا بأن لكل نقاط ضعفه، وأن هزيمة النفس قد تحدث في لحظة بلا مبررات أو معارك داخلية يشار إليها ولو من بعيد. لا تأسيس ولا تأصيل ولا بادرة، حتى التبرير الذي جاء متأخرًا بدا مبتذلًا للغاية.

تصل رسالة إلى السجين عضو المقاومة تشدّ من أزره فيبتلعها فور شعوره بدخول أحدهم إلى الزنزانة، قبل ثوانٍ معدودة من قراره بالخيانة، في ترتيب مهلهل غير مبرر للمشاهد الذي يحاول السيناريست إرضاءه بالتويستات.

كذا فعل «مراد» في رسم شخصياته، فأتت شخصية المحقق الإنجليزي أشبه بنسخة من «هولمز»، الذي يشمّ الدماء ويحلل الدلائل مستعينًا بوثائق وأرشيفات، ثم ينتهي به الأمر للاستعانة بالفتوّات وشيوخ الحارة والإغراء بالمال ليحصل على المعلومات التي يريد.

أما عن ثغرات الزمن، فبلا حساب، تمر الأعوام بمجرد جملة مكتوبة على الشاشة، فلا تعلم كيف تجاوز الأبطال كل هذا الزمن وهم مطاردون، وقد علم العدو كل ما يريد بالفعل عن أسمائهم ووظائفهم، كيف يجلس البطل في البار يقضي يومه كيفما اتفق، وصوره قد ملأت جدران المحروسة، وكيف سافر الآخر خارج البلاد تحت نفس الظروف، لا تسأل، أنت هنا لتستقبل ما نمنحه لك، التفسير صعب وغير منطقي، ابتلعه وكفى.

لا يفوتنا اختيار المخرج للأبطال، الذي يمكننا أن نقول إنه نجح في اختياره ل «كريم عبد العزيز» و «هند صبري»، شخصيات ذات تاريخ، متناسقة مع خلفياتها. البطل الممزق بين شخصيته الخفية التي تحابي الإنجليز في الظاهر، بينما يترأس فريق المقاومة الشعبية، ينقسم «كيرة» بين ما يعلّمه لابنه عن عداوة المحتلّ، وبين اضطراره في مشهد بديع لأن يعلمه كيف يحيى الجندي الإنجليزي خوفًا على حياة الطفل.

تظهر «هند صبري» في صورة القبطية «دولت فهمي» بطلة المقاومة الصعيدية بصورة مرسومة جيدًا لا تخيب، قلبها المتفهّم لمأساة أخيها دون حكم قاسٍ، خطواتها الحذرة نحو الحب.

أما شخصية «عز» فكانت سقطة السيناريو والإخراج الكبرى، أنت لا ترى «عبد القادر الجن» هنا، أنت تشاهد «أحمد عز» نفسه، بشخصيته المتكررة في معظم أفلامه، الشاب الوسيم الذي تجذبه النساء، فيمازح ويتحرش بوضوح يجلب ضحكات الجمهور، ثم محاولات إبهاره للحبيبة وحكيه عن بطولات طفولته بافتعال وكأنه أحد ممثلي برودواي بخطب لا تناسب سياق القصة.

تكمن المشكلة الحقيقة في ضعف شخصية «الجن» وأهميتها في النص كمعادل متناقض مع البطل المهذّب العاقل، فتكاثرت مشاهد «الجن» وحشوها إرضاء للبطل صاحبها شريك النجومية، وإعادة مشاهد اختلافهما حتى دون مبررات معقولة ليتناطحا قليلًا ثم ينتهي الأمر بأحضان الأصدقاء، الدنيا غادرة بما يكفي فدعنا نمنح الجمهور أملًا في مبادئ الوفاء.

الموسيقى كنقطة قوّة ضعيفة

لا جدال حول قدرة الموسيقي المصري «هشام نزيه» على التميّز بمقاطع موسيقية كانت لتحقق قدرها الملحمي لولا استخدامها المفرط، وعلوّها في لحظات بعينها كأنها تشدد على المشاهد أن يتأثر في تلك اللحظة بالذات، أو تنبهه لتغيير ما قادم لا يتوقعه، الفيلم يوجه المشاهد بالكامل لما يجب أن يفهمه ويشعر به وكذا فعلت الموسيقى للأسف.

الرحلة

يمكنك كمشاهد –غير متخصص حتى– أن تلاحظ أن الفيلم بثغراته كان مستساغًا في ثلثه الأول، حتى حانت لحظة إنهاء رحلات الأبطال، أو غلق القصص المفتوحة، أفسد «مراد» الطبخة متوسطة الجودة في الأصل، التي ساندتها سرعة الإيقاع في الثلث الأول الذي ذكرنا.

ناهيك عن أنك بنظرة نهائية ستجد أن الفيلم عبارة عن مشاهد متتالية للعمليات الفدائية، تتوسطها حياة الأبطال وبعض القصص الدرامية والإنسانية، ثم نعود للعملية الفدائية التالية، ولقطات من ثورة 1919. لا يخبرنا الفيلم عن أثر كل تلك الجهود في الثورة، ما هو قدر إسهامها سوى إثارة غيظ المحتلّ وبحثه المضني عن الفاعلين وكأنها مباريات من الثأر المتبادل، بلا خطّة. يقابل «الجن» صديقه «كيرة» في محاولة لإعادته إلى صفوف المقاومة فيخبره أن الاحتلال قد تقصّد فلاحين في قرية ما واغتالهم، هكذا يقنعه بالعودة، وكأن المقاومة تهدف للثأر، رأس برأس.

كان حماس الأبطال ووعدهم بأن هدفهم هو إخراج المحتلّ من الأرض، لم يقدم السيناريو أي علاقة واضحة بين ما يفعلون وذاك الهدف، لكنه أنهى الفيلم بصور أرشيفية لرحيل الإنجليز فعلًا عن مصر بعد سنوات عديدة.

لوحة وطنية مختزلة

لعبت تيمة الفيلم الرئيسية أو أغراض أصحابه على اعتبار الفيلم لوحة وطنية تؤرخ لثورة 19، لكن اللوحة جاءت مختزلة للغاية، لم توثق المشاهد أي شيء سوى بعض المعارك والأزياء والديكور، والأحداث التاريخية المشهورة بالفعل، والتي ظهرت لدقائق مع جمل قصيرة مقتضبة تصفها. كل ما سيخرج به المشاهد من الفيلم لا يتعدى ال «كان يا ما كان، كان فيه ثورة ومقاومة أبطال وإنجليز أشرار».

كيرة والجن فيلم تاريخ ودراما مصري من إنتاج سنة 2022. الفيلم من إخراج مروان حامد، وتأليف أحمد مراد، وإنتاج سينرجي للإنتاج الفني، ومن بطولة كريم عبد العزيز، وأحمد عز، وهند صبري، وسيد رجب، وأحمد مالك، وهدى المفتي. طرح الفيلم بدور العرض السينمائية في مصر بتاريخ 30 يونيو 2022.

الفيلم هو خامس تعاون سينمائي بين المخرج مروان حامد والكاتب أحمد مراد بعد أفلام: الفيل الأزرق، والأصليين، وتراب الماس، والفيل الأزرق 2.