ربما لا يعرف هذا الجيل الكثير عن الدكتور خيري الأغا؛ لأنه من الأعلام الذين عملوا بصمت ورحلوا بصمت.
رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية

ولد خيري حافظ عثمان مصطفى الأغا (أبو أسامة) في مدينة خانيونس مطلع يناير/ كانون الثاني من عام 1934. وتوفي في جدة مطلع يونيو/ حزيران عام 2014. وبين التاريخين، لا شيء على السطح يبدو مختلفًا عن آلاف الفلسطينيين: حصل على دكتوراه إدارة الأعمال من الولايات المتحدة. عمل مدرسًا في مدارس الأونروا، ثم انتقل إلى دائرة المعارف الحكومية، قبل أن يطير إلى جدة لإدارة أعمال حرة قادته في النهاية ليصبح رجل أعمال معروف في السعودية وخارجها.

لكن ما تحت السطح يكشف أن الرجل كان المؤسس الحقيقي لحركة حماس، التي انطلقت فكرتها وقرار تأسيسها ودعمها السياسي والمالي والإداري بعيدًا من غزة، من نفس النقطة التي توسعت منها تجارته: جدة السعودية.

الإخوان الفلسطينيون

بعد أقل من عقدين من تأسيس جماعة الإخوان في مصر، رأى حسن البنا فرصة لمد نشاط تنظيمه خارج القطر المصري، فتشكل مكتب الاتصال بالعالم الإسلامي، ضم دائرتين لفلسطين وحدها. وبعد الحرب العالمية الثانية، أوفد – ضمن نشاطه – بعثة إغاثية إلى بلاد الشام، وصلت فلسطين في 15 يوليو/ تموز 1945، بقيادة سكرتير عام الجماعة عبد الحكيم عابدين، لاستكشاف فرص التوسع فيها، تلتها زيارة خاصة من القيادي الشاب سعيد رمضان في أكتوبر/ تشرين الأول، التي أعلن فيها تأسيس الفرع الأول للجماعة هناك، ليتوسع التنظيم حتى يشمل 29 شعبة حين اندلعت الحرب في 1948.

انتهت الحرب، وتقسمت الأراضي غير المحتلة بين قطاع غزة الذي انتقل إلى الإدارة المصرية، والضفة الغربية التي أشرفت عليها الأردن، ومعها فرع الإخوان في فلسطين، فاندمج إخوان الضفة مع شرق الأردن، بينما كان إخوان غزة على موعد مع ظروف أصعب؛ إذ أعلن تنظيم الضباط الأحرار في مصر ثورة 23 يوليو 1952، ومعها بدأت الفجوة مع الإخوان في القاهرة، ليضطر إخوان غزة للعمل السري تحت اسم «التنظيم الخاص» بين عامي 1952-1954 بقيادة أبو جهاد خليل الوزير، في مدينة غزة وشمال القطاع، ومحمد يوسف النجار، في رفح ومنطقة الجنوب، والشاب أبو أسامة خيري الأغا في خان يونس والمنطقة الوسطى، الذي كان حديث عهد بالجماعة؛ إذ انضم إليها مع بدايات الخمسينيات.

لكن الهوة اتسعت بوصول جمال عبد الناصر للسلطة في القاهرة، وهنا كانت بوادر الانشقاق الأهم في تاريخ الجماعة خصوصًا، والعمل الوطني والإسلامي عمومًا؛ فبعد قرار حل الإخوان، ثم حادث المنشية في مصر، وما تلاها من توسع دائرة القمع، حاول عدد من قيادات الجماعة والمقربين منها إنشاء إطار وطني جامع يتجنب الملاحقة الناصرية بإخفاء الهوية الإسلامية، وهو ما تكلل بمشروع خليل الوزير في 1957، لكنه لم يجد الاستجابة من قيادة الإخوان، فانصرف إلى إكمال مشروعه بمساعدة عدد من المقربين من الإخوان، بينهم ياسر عرفات، وعدد من شباب الإخوان مثل سليم الزعنون ومحمد يوسف النجار وكمال عدوان، فكانت حركة تحرير فلسطين (فتح)، بينما قرر الإخوان التريث لحين إطلاق مشروعهم الإسلامي الخاص.

في تلك اللحظة، كان إخوان غزة قد خرجوا للتو مهزومين في الحرب الباردة مع نظام عبد الناصر، فلم يبق من التنظيم إلا قليل من الطلبة وبعض الموظفين، الذين لم يتجاوز عددهم المئات، بمن فيهم من خرج للدراسة في مصر، لتظهر أزمة في اختيار المسؤولين والنقباء، ويضطر الإخوان لإعادة التنظيم سريًا، وعنقوديًا، ومن الصفر تقريبًا. وهنا كان لمن تبقى من القيادات صغيرة السن، وعلى رأسهم خيري الأغا، دور مهم في إعادة البناء.

كان خيري الأغا مشاركًا مهمًا في تلك الأحداث؛ إذ شارك في قيادة العمل العسكري في ذروة الأزمة الناصرية بين عامي 1952 و1956، قبل أن يختار الرحيل عن غزة إلى السعودية، بسبب معلن وحيد، هو البحث عن الرزق، لكن مكانه الجديد منحه دورًا مختلفًا في قيادة الأحداث.

بحلول عام 1960، كانت معالم التنظيم الإخواني الخالص في غزة بالأسس الجديدة قد بدأت بالتشكل؛ على الأغلب تخوفًا من انضمام كوادر التنظيم المتفكك إلى فتح، التي كانت تعتبر حينها منتجًا إخوانيًا، فانعقد الاجتماع التأسيسي في القاهرة، تلاه اجتماع حاسم في خان يونس، التي كانت يشرف عليها الأغا.

فكان تنظيم «الإخوان الفلسطينيين» الذي انطلق في صيف سنة 1962، ليغطي غزة والخليج وسوريا، دون تمثيل إخوان الأردن والضفة الغربية بالتبعية. وشارك خيري الأغا في تأسيسه مسؤولًا عن الإخوان الفلسطينيين في السعودية، بمشاركة 14 مندوبًا آخرين.

في تلك المرحلة، كانت شخصية الشيخ أحمد ياسين قد برزت في غزة؛ بعدما تولى قيادة إخوان القطاع منذ خرج من السيطرة المصرية إلى الاحتلال الإسرائيلي في حرب 1967، ليقود جهود الانتشار الشعبي، خصوصًا في الأوساط الطلابية، مستفيدًا من قرار التنظيم الأم بإنفاق ثلاثة أرباع ميزانيته على تفعيل الأجنحة الطلابية.

مع أوائل السبعينيات بدأ التيار الإسلامي يستعيد عافيته سواء في الداخل الفلسطيني أو في الشتات. وبحلول عام 1973، انتخب خيري الأغا نائبًا للمراقب العام، قبل أن يتوفى المراقب العام عمر أبو جبارة، في حادث، بداية صيف 1975، فتؤول القيادة إلى الأغا، ليتوسع التنظيم أكثر، ويؤسس الإخوان الفلسطينيون منذ أواخر السبعينيات روابط طلابية في بريطانيا والكويت وألمانيا والولايات المتحدة.

إخوان «بلاد الشام»

لاحظ خيري الأغا مدى التداخل بين تنظيمه وتنظيم إخوان الأردن، خصوصًا بين المغتربين، مع انضمام أعداد كبيرة من ذوي الأصول الفلسطينية في الخارج إلى التنظيم الأردني، فطرح فكرة توحيدهما في جسد واحد. وبحلول عام 1978، وافق مجلس الشورى العام لتنظيم الإخوان الفلسطينين، بالإجماع، على فكرة خيري الأغا بدمج التنظيمات المحلية في تنظيم إقليمي يوحد الأعضاء في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان، مع الفلسطينيين في الكويت والسعودية وقطر والإمارات، في تنظيم جديد لبلاد الشام.

كان الوحدوي الذي تذوب أمام وعيه الهويات الصغيرة فيأتي في عام 1978 بمشروع ليوحد تنظيم الإخوان المسلمين الفلسطينيين مع تنظيم الإخوان في الأردن في تنظيم واحد يطلق عليه «تنظيم بلاد الشام».
سالم الفلاحات المراقب العام الرابع لإخوان الأردن

وبعد الاتفاق، حل مجلسا الشورى للتنظيمين نفسيهما، وانتخبا قيادة جديدة موحدة برئاسة محمد عبد الرحمن خليفة، بعدما بادر الأغا إلى التنحي عن القيادة، منتقلًا إلى الولايات المتحدة للحصول على دكتوراه إدارة الأعمال.

قاد التنظيم جهود تنظيم العلاقة بين كوادر الإخوان في فلسطين والخارج، وحمل مهمة إطلاق العمل الإسلامي المقاوم، برؤية اعتمدت على مواصلة تهيئة الأرض، فركز على تأسيس لجنة للروابط الطلابية، ولجانًا عاملة في الدول المختلفة، تطورت لاحقًا باتجاه اقتراح جسم مركزي يتابع العمل لفلسطين في الداخل والخارج ويشرف عليه.

ومن هذا التنظيم برز خالد مشعل، الذي تخرج في جامعة الكويت 1979، ليقود جهود التحضير لإطلاق العمل العسكري؛ اعتمادًا على وجود 350 ألف فلسطيني في الكويت وحدها، بينما قاد أحمد ياسين جهودًا مماثلة في غزة، استمرت حتى اكتشاف أمر الجهاز العسكري وملاحقته في 1984.

كما ظهر التيار في الجامعات المصرية، بقيادة أسماء مثل موسى أبو مرزوق. ومن بينهم تحديدًا، ظهر تنظيم الجهاد الإسلامي في 1980، بقيادة فتحي الشقاقي، الذي انشق عن الإخوان مع مجموعة من رفاقه، بتصور تشكل تأثرًا بالثورة الإيرانية، بأهمية الدفع أكثر نحو العمل الجهادي.

في هذه الظروف، حاول الإخوان اختبار إمكانية إطلاق العمل العسكري على الأرض، فتأسس الجهاز العسكري في قطاع غزة بقيادة أحمد ياسين، لكنه انكشف ولاحقته الضربات حتى سقط في 1984. وبالتوازي، انطلق الجهاز الأمني للإخوان في قطاع غزة (مجد) سنة 1981.

وبحلول عام 1985 تأسس «قسم فلسطين» الذي أصبح يعرف لاحقًا بـ«جهاز فلسطين» بقيادة خيري الأغا، الذي عاد للتو من الولايات المتحدة إلى السعودية. وبات التنظيم الجديد يملك صلاحيات واسعة في إدارة العمل الإسلامي الفلسطيني، تحت راية تنظيم بلاد الشام.

انطلاق حماس

في صيف 1985، اتخذ جهاز فلسطين قراره الأهم بأن الوقت حان لإطلاق العمل الإسلامي المقاوم، فأسس ذراعًا عسكرية جديدة في غزة باسم «المجاهدون الفلسطينيون»، كما أعاد بناء الجهاز الأمني للإخوان وتوسعيه، مع توجيه باستغلال أي فرصة للاشتراك في المواجهة ضد قوات الاحتلال، على أن يمنح قيادة الداخل، ممثلًا في مكتب تنسيق يرأسه راضي السلايمة، صلاحية اختيار التوقيت.

بحلول أكتوبر/ تشرين الأول 1987، اتخذ المكتب قراره بإطلاق المقاومة الشاملة، على أن تختص قيادة كل مدينة باختيار الوسائل التي تراها مناسبة. وبعد شهرين فقط، أتت فرصة غزة، عندما تعرض 4 عمال فلسطينيين لعملية دهس، فاجتمعت القيادة المحلية في غزة، بحضور ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وعبد الفتاح دخان، وتقرر إطلاق المواجهات في مدن القطاع، بداية من جباليا – نقطة الانتشار الأهم للشيوعيين في غزة – فجر التاسع من نفس الشهر، ليسقط الشهيدان حاتم أبو سيس ورائد شحادة، ثم تصدر حماس بيانها التأسيسي من غزة بعد خمسة أيام، ثم تقرر مد الانتفاضة إلى عموم فلسطين في 10 يناير/ كانون الثاني 1988، ثم تصدر حماس ميثاقها في 19 أغسطس/ آب من نفس العام، قبل أن تستبدل تنظيم «المجاهدون الفلسطينيون» بكتائب القسام في مايو/ أيار 1990، مع مسؤولية قيادة العمل العسكري.

ظل خيري الأغا بعيدًا عن الأضواء في تلك الفترة، بدرجة إسقاط دور الرجل تقريبًا من رواية التأسيس رغم توليه رسميًا مهمة الرئيس الأول للمكتب السياسي لحماس؛ على الأغلب لرغبة الرجل في البقاء في الظل، والاحتفاظ بأقصى درجات السرية، التي ساعدته في استغلال علاقاته المشتعبة محليًا وإقليميًا لتذليل العقبات التقنية والإدارية التي واجهت التنظيم في مرحلة التأسيس، واستغلال استثماراته في جدة لتقديم الدعم المالي المطلوب دون لفت الانتباه.

لكن حماس لم تكن الحراك الوحيد الذي رعاه الأغا، إذ ركز أيضًا على الجانبين الإغاثي والتربوي؛ فأدار لهيئة الإغاثة الإسلامية، وأشرف على تأسيس الجامعة الإسلامية في قطاع غزة، التي تأسست باتفاق بين حماس وفتح، أو بالتحديد خيري الأغا وياسر عرفات، لتتناصفها الحركتان إشرافيًا لفترة، قبل أن تختار فتح الانسحاب، وتأسيس جامعة الأزهر، فتتحول الجامعة الإسلامية إلى ذراع حماس التعليمية في القطاع.

بقي الأغا رئيسًا لحماس منذ التأسيس وحتى 1993، حين أعاد مجلس الشورى انتخابه للمنصب، فيعتذر الرجل ويطلب الإعفاء، مسلمًا موقعه لنائبه حينها موسى أبو مرزوق.

رجل المهمات السرية

في السطور السابقة، جمعنا أهم المتاح عن سيرة مؤسس حماس الحقيقي خيري الأغا. لكن الكثير لا يزال مجهولًا؛ فالرجل الذي وصفه القيادي في حماس أحمد يوسف بـ«الصندوق السري» و«حامل الأسرار» و«رجل المهمات السرية»، بدرجة استدعت خلق رواية تقوم على أن حماس تأسست في جدة قبل أن تنطلق في غزة، وإن كان لم يشأ أن يظهر اسمه في الإعلام «كي لا تلاحقه الشبهة» بوصف يوسف.

ربما كان مكان عمله في المملكة العربية السعودية، وحساسية القضية الفلسطينية في السياسة الإقليمية، وانتماؤه الإسلامي الحركي، تفرضان عليه التزام السريِّة والابتعاد بالكلية عن الإعلام، للحفاظ على مكانته وحماية علاقاته مع رجالات المال والأعمال، ليبقى شريان الدعم لكثير من مشاريع العمل الإسلامي في قطاع غزة
القيادي في حماس أحمد يوسف
قليلون هم الزعماء والرموز الذين يُصرّون على البقاء بعيدًا عن الأضواء طيلة حياتهم؛ وقليلة هي الشخصيات التي تحقق منجزات كبيرة، وتحرص أن يبقى ذلك بينها وبين ربِّها. وفي تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر يقف خيري الأغا في مقدمتهم. وأخيرًا، فلعل هذه الشخصية الفذة تحظى بما تستحقه من دراسات علمية جادة وكتابات، تعطيها حقها ومكانتها في تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر؛ بعد أن راعى إخوانه في قيادة حماس رغبته وإصراره على عدم الظهور والبعد عن الأضواء طيلة حياته
محسن محمد صالح مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات