يعد الاحتكار بمعناه الحديث هو أحد أنواع الأسواق الاقتصادية، وهو ذلك النوع الذي تقوم فيه جهة واحدة بالسيطرة على السوق سيطرة كاملة بدون وجود منافس لها، وربما تعود أسباب هذا الاحتكار لأسباب إنتاجية، كأن يكون محتكر السلعة هو الشخص الوحيد الذي يقوم بإنتاجها، لذلك فهو الوحيد الذي يبيعها؛ أو أسباب شرائية، كأن يكون هو الوحيد الذي يقوم بشراء هذه السلعة ويقوم بتوزيعها على المستهلكين؛ أو أسباب إلزامية، كتلك التي تتدخل فيها الدولة في طبيعة السوق، وتُحدِّد البائع والمشتري، وهذه هي الحالة التطبيقية التي سنتحدث عنها، وهي حالة الدولة المصرية الحديثة تحت حكم محمد علي ومناقشة سياسته الاحتكارية في ضوء الفكر الخلدوني، لنرى كيف تحققت رؤى ابن خلدون المتعلقة بالاحتكار.

أورد «عبد الرحمن ابن خلدون» في مقدمته الشهيرة العديد من الفصول والأفكار، ولعل أهم ما يُميِّز مقدمة ابن خلدون أنها جاءت شبه جامعة لمختلف مناحي الحياة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما جعلها محط اهتمام مختلف الباحثين والقرّاء، ولهذا السبب يمكن تفسير الشهرة الواسعة التي حظيت بها، إلى جانب براعة ابن خلدون بالطبع في طرح هذه الأفكار.

الاحتكار عند ابن خلدون

كره ابن خلدون الاحتكار كرهًا شديدًا، لدرجة أنه أعتبره أكبر أنواع الظلم، وأنه سبب من أسباب التلف والخسران وفساد العمران، حيث جاء ذلك في مقدمته واضحًا صريحًا، حين قال:

ومما اشتهر عند قوي البصر والتجربة أن احتكار الزرع لتحيُّن أوقات الغلاء مشؤوم وأنه يعود على صاحبه بالتلف والخسران. [1]

وانطلاقًا من هذه المقولة يمكن القول إن ابن خلدون قد عرف الاحتكار بأنه التسلط على أموال الناس وعلى بضائعهم ثم شراؤها بأبخس الأثمان وبيعها للناس، بل وفرضها عليهم بأسعار باهظة ومرتفعة، وتحدث ابن خلدون على عامل من أهم العوامل الاقتصادية وهو عامل «الحاجة» وهي الأساس الذي يقوم عليه علم الاقتصاد وترجع إليه أهمية الموارد الاقتصادية، إذ نعلم جميعًا أن المورد الاقتصادي يكتسب أهميته من «ندرته النسبية» أي أن وجوده لا يكفي للحاجة إليه، وكلما زادت الحاجة إلى المورد زاد الطلب عليه وارتفعت قيمته، وعلى نفس القياس فإن ما يُحرِّك المستهلك نحو شراء سلعة من السلع هو حاجته إليها، وتختلف الحاجة بالطبع باختلاف السلعة، فنجد أن ابن خلدون قال إن ما يُجبِر الناس على سياسة المُحتكِر هو حاجتهم لما يحتكره، لذلك فإنه يرى أن السياسة الاحتكارية قائمة على استغلال حوائج الناس وظلمهم، وهو بالنسبة له شيء مذموم وينذر بالفساد والدمار.

ولم يغفل ابن خلدون عن تحليل أسباب اتجاه الحُكّام للاحتكار، وقد ذهب في ذلك إلى أنها تعد رغبة من الحاكم في زيادة نقوده واتجاهه إلى حياة الترف، وهي التي رفضها ابن خلدون رفضًا شديدًا باعتبارها أحد العوامل المُفسِدة للعصبيات والعمران، ونهى الحكام عنها نهيًا كبيرًا وقد عقّب أنه بازدياد توجه الحكام إلى الترف ستزداد الجبايات وتشتد حاجة الدولة إلى المال فتتجه الدولة أكثر إلى الاحتكار وهو ما سيفسدها في نهاية الأمر.

الظاهرة السياسية في النظرة الخلدونية للاحتكار

كشف ابن خلدون عن براعته في التحليل السياسي، حيث إن أفكاره دائمًا كان لها بعد وخلفية سياسية، وقد أضاف ابن خلدون للعلوم السياسية كثيرًا من خلال تناوله للظاهرة السياسية وتحليلها في وعاء مجتمعي، وفي هذا الصدد يمكن التركيز على مقولة أساسية وردت في فصل الاحتكار عند ابن خلدون وهي مقولة جامعة مانعة استطاع بها أن يضع قاسمًا للفصل بأكمله، إذ إنها تُعرِّف الاحتكار وتوضِّح أسبابه ونتائجه، حيث قال:

ومما اشتهر عند قوي البصر والتجربة أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤوم، وأنه يعود على صاحبه بالتلف والخسران.

ويتضح في هذه المقولة بروز شكل من أشكال الظاهرة السياسية وهو «السلطة» أو «القوة» التي يتمتع بها المحتكر، فهو لن يستطيع أن يُطبِّق احتكاره إلا عن طريق استناده على نمط سلطوي يُخوِّل له ممارسة هذا الاحتكار. ولأن ابن خلدون أولى اهتمامًا كبيرًا بفكرة الأخلاق وجعلها مرجعية أساسية وحاسمة للحكم على الأشياء، فنجد أنه قد عارض كل ما هو غير متسق مع الأخلاق معارضةً شديدة.

وإذا افترضنا في هذه الحالة أن الدولة هي المحتكر -مع أن الفكر الخلدوني جاء أعم من ذلك بكثير- فإن الدولة تستطيع أن تفرض إرادتها على مواطنيها، وهو ما حدث بالفعل في العديد من التجارب القديمة والحديثة، إذ نجد أن بعض الدول تتدخل في الشئون الاقتصادية لمواطنيها وتفرض عليهم بطريقة أو بأخرى نمطًا استهلاكيًا وشرائيًا معينًا، ومن هنا يظهر أن ابن خلدون قد رتب أفكاره الاقتصادية استنادًا إلى رؤية سياسية خاصة لظاهرة السلطة التي تتمتع بها الدولة في فكره.

حالة الدولة المصرية العلوية الحديثة (1805-1848)

بعدما توطدت سلطة محمد علي في مصر قام باتباع سياسة اقتصادية قائمة على نظام الاحتكار، وقد تم تبرير هذه السياسة الاقتصادية بالعديد من الأسباب لكن في النهاية ما يهمنا هو أن ثمة سياسة احتكارية اتبعتها الدولة المصرية مُمثلة في نظام محمد علي أثناء فترة حكمه.

وتمثلت سياسة محمد علي الاقتصادية في أن تقوم الحكومة بوضع الخطط الزراعية والصناعية والتجارية كتحديد نوع الغلّات التي تُزرع والصناعات التي تُصنع… إلخ. وقد قام محمد علي باتباع العديد من السياسات التمهيدية قبل هذه السياسة، كأن قام بتغيير أوضاع الزراعة والملكية الزراعية من حيث إلغاء نظام الالتزام وتطبيق الانتفاع واستقدام مدربين، بالإضافة إلى الاهتمام بالتعليم الزراعي وإدخال محاصيل جديدة، ثم بعد ذلك قام باحتكار المحاصيل الزراعية وأصبح هو الشاري الوحيد من الفلاحين بمقابل بسيط، نظرًا لأنه كان يخصم جزءًا كبيرًا من ثمن المحاصيل مقابل الضرائب التي كان يجب على الفلاحين دفعها للدولة، وبذلك أصبح الفلاحون لا يحصلون إلا على مقابل بسيط. [2]

وامتد نظام الاحتكار أيضًا إلى الصناعة والتجارة، فقام محمد علي بإنشاء العديد من المصانع، وكان يقوم ببيع المواد الخام التي تحتاجها المصانع (بالثمن الذي تُحدِّده الحكومة)، وبالطبع لم يكن أمام المصانع أي خيار آخر، إذ إن الحكومة كانت هي البائع الوحيد لأنها هي الوحيدة التي تمتلك المادة الخام، ولم ينتهِ الأمر عند ذلك الحد لكن كانت الحكومة تُحدد أيضًا ثمن شراء المنتجات من المصانع، وأيضًا لم يكن أمام المصانع خيار آخر إذ إن الحكومة كانت هي الشاري الوحيد. وفي التجارة أيضًا قام محمد علي باحتكار الواردات، فأصبحت الحكومة هي الوحيدة التي تمتلك صلاحية الاستيراد من الدول الأخرى. [3]

واستمر نظام الاحتكار في مصر إلى أن تحالفت الدول الخارجية لإسقاطه، وعندما تحقق لهم ذلك، وتم عقد وتطبيق معاهدة «بلطة ليمان» وتسوية لندن، سقط نظام الاحتكار، وكان ذلك سببًا رئيسيًا في تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية في هذه الفترة.

وتأسيسًا على ذلك، وعند الربط بين أفكار ابن خلدون في الاحتكار وبين تجربة محمد علي الاقتصادية، نجد الآتي:

أولًا

ذهب ابن خلون إلى توضيح سبب قيام الحاكم بتطبيق نظام الاحتكار، فقال إنه يقوم بذلك رغبةً في زيادة نفوذه وإقبالًا على حياة الترف، وبالتطبيق على حالة محمد علي نجد بالفعل أن أحد مبررات محمد علي لاتباع سياسة الاحتكار في مصر هو أن يدخل في السوق العالمية منافسًا لغيره من الدول مما يزيد نفوذه الاقتصادي، لذلك فقد صدقت رؤى ابن خلدون في ذلك، ولعل أي شخص يقرأ التاريخ ويجد أن محمد علي كان يريد أن يصبح قوة اقتصادية عظمى عن طريق الاحتكار فيظن أن ذلك كان شيئًا محمودًا، لكن بالتعمق في تحليل سياسة الاحتكار وكيفية تطبيقها وما تضمنته من سياسات تعسفية ومُجحفة بحقوق الفلاحين وأصحاب المصانع والتجار المصريين تجد بالفعل أن نظام الاحتكار لم يخلُ أيضًا من المساوئ.

ولكن، إحقاقًا للحق يمكننا القول إن الأمر الوحيد المختلف بينهما هو افتراض ابن خلدون أن اتجاه الحاكم نحو الاحتكار هو اتجاه مذموم ذمًا محضًا، لأنه من أجل زيادة النفوذ وحياة الترف، أمّا محمد علي ربما كان يقصد تحويل دولته إلى دولة عظمى، لكن ذلك أيضًا لا يُسقِط من على كاهله سياساته المجحفة أثناء التطبيق.

ثانيًا

بتناول أفكار ابن خلدون عندما تحدث عن الكيفية التي يتم بها تطبيق الاحتكار، وقيام الحاكم بالتسلط على أموال الناس وعلى بضائعهم ثم شرائها بأبخس الأثمان وبيعها للناس، بل وفرضها عليهم بأسعار باهظة ومرتفعة، نجد أن هذا بالفعل ما حدث في عصر محمد علي، إذ إنه كان منْ يُحدِّد أثمان الشراء والبيع، ويحتكر الاستيراد من الخارج، وقد تناولنا ذلك تفصيليًا في الأفكار السابقة.

ثالثًا

عندما تناول ابن خلدون نهاية نظام الاحتكار، وأنه ينذر في النهاية بالخراب والفساد على صاحبه، وبالتطبيق على حالة محمد علي، نجد بالفعل أنه لولا سياسته الاحتكارية لما قامت الدول الخارجية بمعاداته من أجل إسقاط هذا الاحتكار والحد من سلطته، وهو ما تم بالفعل، حيث استطاعوا إسقاط نظام الاحتكار بمعاهدة بلطة ليمان وتسوية لندن وما تبعها من دخول الاستثمارات الخارجية إلى مصر، وصولًا إلى أخذ الولايات التي كانت تابعة لمحمد علي وحصر رقعته في أجزاء محدودة، أي أن نظام الاحتكار بالفعل لم يدم بل وعاد على مُلِك محمد علي بالزوال وعلى نظامه بالخراب، وهو ما قاله ابن خلدون بالفعل.

المراجع
  1. عبد الرحمن ابن خلدون، «مقدمة ابن خلدون: ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، (بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 2001).
  2. عبد العزيز نوار وآخرون، «تاريخ مصر والعرب الحديث والمعاصر»، وزارة التربية والتعليم، القاهرة، 2019، ص 18-32.
  3. جلال أمين، «قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى عهد مبارك»، دار الشروق، القاهرة، 2012، ص 13.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.