«اعتُبر القرن التاسع عشر هو ذروة مراحل تأثر المسلمين بالحداثة، بعد جملة من التفاعلات بين الدولة العثمانية وأوروبا، أدار الإصلاحات في هذا القرن رجال متخصصون ومتدربون شكلوا بيروقراطيةً إداريةً، مدنية وعسكرية، تجمعهم قيم مشتركة كالولاء للدولة والإيمان بالحضارة الأوروبية الحديثة والبحث عن قيم الأصالة»، يمثل حوارنا مع الدكتور خالد زيادة ترسيمًا لجوانب من الإصلاح وماهية العلمنة في بنية الدولة السلطانية الآخذة في الانتقال نحو الدولة الحديثة.

يشغل خالد زيادة حاليًا منصب مدير «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – فرع بيروت» وهو مؤرخ لبناني حاصل على إجازة في الفلسفة من الجامعة اللبنانية ودكتوراه من جامعة السوربون الثالثة.

حاوره محمد عثمانلي، مترجم وباحث الدكتوراه في التاريخ العثماني الحديث، جامعة باموكّلِه (Pamukkale).

أسأل بدايةً بالحديث عن نظرة خالد زيادة لبنية الدولة السلطانية قبل القرن التاسع عشر، تحدثتم عن «حكم السياسة وحكم الشرع» في كتابكم «سجلات المحاكم الشرعية»، شبّه العروي دولة الإسلام السلطانية بالبيزنطية كإمبراطورية شرقية للمسيحية، وأكّد السوسيولوجي فالح عبد الجبار أن السياسي هو من وجّه الديني فيها على عكس المسيحية الغربية، أين يقع ترسيمكم لهذا الأمر ضمن إطار القوى المتنافسة في مركز الدولة؟

– لا بدّ في البداية من تعريف الدولة السلطانية أو الدولة التقليدية السابقة للحداثة، لم تكن الدولة تملك اختصاصات واسعة، فالدولة التقليدية في كل الأمم تختص بأمرين: جمع الضرائب وامتلاك السلاح للدفاع أو الأمن، ومن هنا لا يمكن مقارنة الدولة التقليدية بالدولة الحديثة التي تُشرف على كل شؤون رعاياها أو مواطنيها، من التعليم، إلى الصحة، إلى الأمن، والإشراف على المرافق العامة.

وفي كل الدول التقليدية من الدولة العثمانية إلى الدولة البيزنطية إلى الدولة في أوروبا الغربية الكاثوليكية،  كان هناك علاقة بين الديني والمدني أو بين الديني والعلماني، وكذلك انفصال وتحديد للصلاحيات. وحين نرجع إلى حقبة الدولة المملوكية نجد لدى المؤرخ المقريزي كلامًا صريحًا عن الانفصال بين الشرعي والسياسي، بحيث إن أمراء المماليك كانوا يحتكمون بأمورهم إلى أعرافهم (الياسة)، أما الشريعة فمنوطة بالعلماء، فهو لا يتحدث عن خليفة يقبض على شؤون الدولة باسم الشريعة، كان الخليفة في زمن المماليك منصبًا شرفيًا ولا يملك أي سلطة.

التقاليد السلطانية في الدولة العثمانية لم تتأثر بالتجربة المملوكية مباشرة، والتأثير أتاها من التجربة السلجوقية التي عرفت بناء المؤسسة المدرسية التي يشرف عليها العلماء بطبيعة الحال، وقد لعب رجال الدين والمتصوفة بوجه خاص دورًا في صياغة مفاهيم أثرّت في بناء الدولة العثمانية مثل فكرة الجهاد.

المقصود أن انفصال الديني عن السياسي قائم في التجربة التاريخية للدول ذات العقيدة الإسلامية، ومع السلطنة العثمانية أصبح هذا الانفصال واضحًا بشكل صريح مع إنشاء مؤسسة شيخ الإسلام، باعتباره الأول بين العلماء، والمؤسسة الدينية تخرّج المدرسين وكذلك القضاة الذين يُناط بهم تطبيق الشرع في أحكامهم. وكان الوالي هو حاكم السياسة. ونعلم أن السلاطين العثمانيين قد سنّوا القوانين التي لم تستمد من الشريعة وإن كانت تراعي عدم مخالفتها. وفي السجلات الشرعية إشارات واضحة إلى انقسام الأحكام بين حاكم الشريعة وحاكم السياسة.

في هذا السياق هل استنسخ العثمانيون «مؤسسة شيخ الإسلام» عن تقليد مسيحي ما، أم كان هنالك صيغة مخصوصة فيها؟

– واقع الأمر أن مؤسسة «شيخ الإسلام» غير مسبوقة في تاريخ الدولة الإسلامية، ولكن هذا المنصب المهم الذي يعادل الوزير الأول، يندرج في إطار تنظيم شؤون الدولة، وربما يكون في إنشاء المؤسسة نوع من التأثير البيزنطي، إلا أن هذا التأثير يبقى شكليًا، لأن المؤسسة الدينية في الدولة العثمانية التي يقف على رأسها شيخ الإسلام هي مؤسسة مدرسية، وليست مؤسسة لاهوتية أو إكليركية. وخريجو المدارس لا يشكلون جسمًا متراصًا منعزلاً، فهم ينتمون إلى كل فئات الناس ومنخرطون في الحياة الاجتماعية وبينهم الفقراء ومتوسطو الحال والأغنياء، فهذه المؤسسة لا تشبه بحال المؤسسة الكنسية الشرقية أو الغربية. ولا شك في أن كبار العلماء كانوا أصحاب نفوذ؛ لأنهم يشكلون جزءًا من الهرم الاجتماعي. ولا ننسى هنا التصنيف التقليدي القديم الذي يقسم أعمدة الدولة إلى ثلاث فئات: العلمية أي: «علماء الدين» و«القلمية» أي كتّاب الإدارة و«السيفية» أي الجنود. وهذا التقسيم يعود إلى أزمان سابقة للدولة العثمانية.

كيف يمكن تفسير شرعية ومدى السلطة الدينية لفتوى شيخ الإسلام التي كان لها إمكانية قتل وخلع السلطان بالنظر إلى المؤسسة الدينية المسيحية؟

لم يكن لشيخ الإسلام صلاحية خلع السلطان، ولكن لديه صلاحية إصدار الفتاوى في الشؤون التي يُستفتى بها. وينبغي أن نلاحظ بأن أول فتوى أصدرها شيخ الإسلام تتضمن خلع السلطان كانت في حق السلطان عثمان الثاني 1922، أي بعد أكثر من ثلاثة قرون على تأسيس الدولة العثمانية، هذا السلطان الشاب الذي أراد أن يجري (إصلاحات) تدعم سلطته على حساب القوات العسكرية (الانكشارية) وإزاء الإجراءات التي كان يريد إقامتها، والتي بدت أنها تمس النظام التقليدي المستقر، انحاز العلماء إلى قوات الانكشارية في تمردهم على السلطان وأصدر شيخ الإسلام الفتوى، التي هي جواب على سؤال، وليس حكمًا يصدر عن هيئة، والمقصود هنا أنها فتوى ذات طابع (سياسي) بحت، ولا تمتُّ إلى صلاحيات شيخ الإسلام ولا إلى خروج السلطان عن أسس الإيمان. وهي مثل الفتاوى القليلة المشابهة بحق السلطان أحمد الثالث (1730) والسلطان سليم الثالث (1807).

تحدثتم في كتابكم «المدينة العربية والحداثة» عن وظيفة العالِم المدينية والعلمانية غير المتعلقة بالتشريع الفقهي، فما سبب عدم تطور وظيفة هذه الطائفة مع القرن التاسع عشر، كما حصل لحرفة الكاتب التي تحولت إلى بيروقراطية حديثة؟

– كان الكتّاب وهم رجال الإدارة على اتصال بمشاكل الدولة المالية وعلاقاتها الخارجية، وكان كبارهم على اتصال بأهل السلطة، وعمل بعضهم مستشارين للسلطان، بينما كان العلماء رجال علم بالدرجة الأولى ينقلون التعليم الديني إلى طلاب المدارس الدينية ويقوم بعضهم بالوظائف الدينية مثل الخطابة والإمامة وغيرهما، وكانوا على اتصال بعامة الناس ويعبرون أحيانًا عن مشاكلهم ومطالبهم. وهذا فارق أساسي بين المؤسسة الدينية وجهاز الكتّاب، يُضاف إلى ذلك أن المؤسسة الدينية كانت محافظة، وتعتقد أن دورها تعليمي وأخلاقي. وحين بدأ أعضاء من جهاز الكتّاب البيروقراطي يبحثون عن حلول لمشاكل الدولة. كان العلماء بعيدين عن هذه الهموم. فضلاً أن كبار الكتّاب بحكم عملهم كانوا على اتصال بالدول الأوروبية بصفتهم موفدين، لهذه الأسباب لم يكن العلماء على احتكاك بمسائل العصر، وعلى العكس من ذلك كانوا يعتقدون أن وظيفتهم تقتضي الحفاظ على التقاليد الموروثة.

كيف يمكن فهم «انتقال مفهوم الإصلاح من الديني إلى المجال العام» في القرن السابع عشر عبر طائفة الكتّاب، أي كيف وعى الكُتّاب هذا الإصلاح بينما لم يعِه العلماء مع إشارتكم لوجود وظيفة «مدينية ثقافية» للعلماء؟

– مصطلح «إصلاح» هو في الأصل مصطلح إسلامي، ومرجعيته الحديث النبوي عن ظهور مصلح أو مجدد كل مئة سنة. لكن هذا المصطلح أو المفهوم لم يكن يحض علماء الدين على الإصلاح وينبغي أن نقر بأن الجمود قد أصاب الفقهاء، مع انحسار علماء الكلام وانحسار التفكير الفلسفي. وانتقال المصطلح إلى فضاء السياسة في القرن السابع عشر كان سببه الأزمة متعددة الوجوه التي عصفت بالدولة العثمانية، وأبرز من كتب رسائل في إصلاح السياسة هم: قوجي بيك، وكاتب جلبي، وقبلهما لطفي باشا الذي كتب في نهاية القرن السادس عشر رسالة تحذر من الأزمة التي تمر بها الدولة.

نذكر هنا بأن هذه الرسائل تنتمي من حيث الشكل إلى نوع معروف في الآداب الإسلامية باسم «نصائح الملوك». فالكاتب أو المستشار يرفع إلى الأمير أو الملك أو السلطان رسالة ذات طابع توجيهي في شأن من شؤون الحكم أو ممارسة السلطة. لكن الرسائل في القرن السابع عشر لم تعد تقتصر على هذا الجانب فقط، وإنما تعدّت إلى معالجة الأزمة أو مظاهرها التي كانت قد أخذت تبرز في الدولة العثمانية، من هنا طابعها الإصلاحي، من حيث مضمون هذه الرسائل، أما من حيث المنهج فإنها ترى أن الإصلاح يكون بالعودة إلى الأسس التي قامت عليها الدولة حين كانت قوية ومرهونة الجانب.

وهذا هو الجانب التقليدي لهذه الرسائل، التي لم تكن تقترح أفكارًا من خارج التقليد المتبع ولم تكن تبتدع معالجات من خارج التجارب السابقة. وهذا هو الفارق بين الإصلاح والتحديث، لأن التحديث في التجربة العثمانية وغيرها من التجارب المعاصرة لها، كان يستلهم خبرات من تجارب مغايرة (أوروبية في ذلك الوقت) وهي التي أدّت إلى تبديل في الأسس التي قامت عليها الدولة ومؤسساتها التعليمية أو الإدارية أو العسكرية.

وصفتم تنظير إبراهيم متفرقة -الذي نشأ مع استفاقة العثمانيين في بداية القرن الثامن عشر- أنه فريد من نوعه؛ فما مكانة هذا التنظير في ظل الثقافة السائدة في تلك الفترة؟

– إبراهيم متفرقة غير معروف لدى المؤرخين العرب، وعادة يعطى حيّزًا ضيقًا في الدراسات التي تتناول الإصلاحات باعتباره المشرف على أول مطبعة في إستامبول عام 1727.، وهذا في حد ذاته أمر في غاية الأهمية من ناحية الموقف من إدخال الطباعة إلى الدولة العثمانية، ومن الناحية الرمزية إذ إن الطباعة كانت تعبيرًا عن حداثة الانتقال من المخطوط إلى النشر المتعدد للكتاب، وبالمناسبة، فإن الكتب التي أنتجها متفرقة كانت في غاية الرقي الفني والنسخ التي يمكن الاطلاع عليها في المكتبة الوطنية في باريس تشهد على ذلك. وكما نعلم فإن إبراهيم متفرقة من أصل هنغاري ولد في كلوج- ترانسلفانيا، وبعد أن وصل في سن مبكرة إلى إستامبول حصل على تدريب ليصبح في الخدمة السلطانية وقد خدم في مهمات دبلوماسية قبل أن يعين مديرًا للمطبعة التي تعرف باسمه.

ونشأة متفرقة المبكرة عرّفته بلغات متعددة مثل اليونانية والفرنسية وغيرهما، أهّلته للاطلاع على الثقافة اليونانية القديمة والأوروبية الحديثة، والتي ستنعكس في كتابه: «أصول الحكم في نظام الأمم».

كتب متفرقة رسالته عام 1731 ورفعها إلى السلطان محمود الأول، والهدف هو تشخيص الحالة الراهنة في الدولة والدعوة إلى تبني سياسات إصلاحية تتناسب مع التطورات الحاصلة في العالم المحيط بالدولة العثمانية. ومن هذه الناحية، الرسالة تنتمي شكليًا إلى أدب مرايا الأمراء ونصائح الملوك، لكن الفارق الأساسي يكمن في مضمونها. فإذا كانت الرسائل الإصلاحية التي رُفعت إلى السلاطين في القرن السابع عشر تدعو إلى العودة إلى التقاليد العثمانية القديمة حين كانت الدولة في أوّج قوتها، فإن إبراهيم متفرقة يدعو عمليًا إلى تجاوز تلك التقاليد وتبنّي الأنظمة المعروفة في أوروبا.

أنظمة الحكم التي يتحدث عنها هي الأنظمة التي كانت معروفة منذ اليونان القديمة، النظام الديمقراطي والأوليغارشي والمونارشي الملكي. يشير إلى النظام الديمقراطي الذي ما زال معروفًا في بعض الدول كهولندا وبريطانيا بحسب قوله. مما يدل على إلمامه بالأنظمة السائدة في زمنه. والمهم أنه يدعو إلى النظام، وليس المقصود النظام السياسي وإنما المقصود هو النظام الذي يدخل في كل نواحي الحياة. وأهمها النظام العسكري الذي تحتاجه الدولة، ويعطي مثالًا على ذلك روسيا، التي انتقلت من البدائية إلى القوة بفضل التنظيم والتحديثات المأخوذة عن أوروبا. ومن الضروري الاطلاع على المعارف الحديثة وفي زمنه كانت الجغرافيا ومعرفة البلدان بمثابة علم استراتيجي.

كل هذا يعبر عن أفكار حديثة بالنسبة للبيئة السياسية والثقافية في الدولة العثمانية. وقد يكون من أهم ما يذكره قوله: «وعمومًا فإن الأحكام الشرعية لا تكون واجبة ولازمة لأحوال النظام في كتب ملل النصارى (الأوروبيين) والتي يحتجون بها في اعتقاداتهم وعباداتهم ومعاملاتهم، ونظام حال دولهم مبني على مجموعة قوانين وقواعد عقلية… وفي سياق آخر يقول: « فإن الأحكام الآلهية تتعلق بانتظام أحوال أمم النصارى، وهذا يعني في اعتقادهم أن الأوامر والنواحي الواردة والصادرة من الله، جل وعلا، لا تكون مسائل شرعية تفصل في مشكلات الدعاوى والنزاعات، وأحوال النظام منوطة مباشرة بالقوانين والأحكام التي صاغوها استنادًا إلى العقل».

هذه الإشارات توضح إدراكه للتطور السياسي والفكري الذي حدث في أوروبا (وإن كان ينتقد ابتعاد الأوروبيين عن الدين) وإدراكه لسيادة العقلانية في اتخاذ القرارات وتسيير شؤونهم العامة.

كان متفرقة واحدًا من أفراد قلائل يعرفون أوروبا معرفة معاصرة، ويعرفون العوامل التي أدّت إلى تقدمها وتفوقها العسكري، وربما كان تأثير متفرقة الفكري ضئيلاً في زمنه، إلا أنه شكل علامة مميزة ومبكرة على وعي عقلاني لمشكلات الدولة العثمانية.

اعترض فيليب خوري على ألبرت حوراني حول موضوعه دور «الأعيان» كفئة قائمة بذاتها. كيف يمكن تشكل دور العلماء ضمن هذه الفئة؟

– لا شك أن موضوع الأعيان كان موضوع نقاش وتعارض في وجهات النظر، خصوصًا أنهم لا يشكلون فئة لها ذات المصالح والتوجهات والأصول، ولكن الأمر الذي يمكن أن أضيفه هنا، وحسب اشتغالي على سجلات المحكمة الشرعية وغيرها من المصادر هو أن القرن الثامن عشر قد شهد انحسارًا للإدارة العثمانية في الولايات العربية وبروز سلالات حاكمة من أصول مملوكية، وهذا ينطبق على العراق ومصر وتونس، كما ينطبق على الولايات السورية التي برزت فيها عائلة محلية تولت مناصب الولاة في دمشق وحلب وطرابلس لفترات، أما فلسطين فقد برز ظاهر العمر وهو من أهل البلاد وتحكم لمدة طويلة في صفد وولاية عكا. في هذه الظروف برزت عائلات العلماء التي كانت على علاقة مع الحكام المحليين وتعزز دور العلماء كوسطاء بين الأهالي والحكّام، وهذا الأمر منحهم نفوذًا محليًا، وتكرست ضمن عائلات العلماء وراثة الوظائف الدينية. كما أن ظروف القرن الثامن عشر سمحت بتعزيز عائلات التجار الذين أصبحوا جزءًا من أعيان المدن، يُضاف إلى ذلك أولئك المتحدرون من أصول عسكرية والذين اكتسبوا مع الوقت مكانتهم ضمن النسيج المديني، وإذا تابعنا مسيرة فئات الأعيان المذكورة وخصوصًا العلماء سنجد أن عودة المركزية العثمانية بعد القضاء على الإنكشارية، لم تُضعف من دورهم الذي تكرّس، وحين أقرّت التنظيمات مجالس الإدارة أصبح أبناء عائلات الأعيان ممثلين في هذه المجالس.

لماذا كانت بداية التحديث عبر إدخال نظام عسكري جديد؟

– الواقع أن التحديث قد بدأ في الميدان العسكري. لم يكن السلاطين في القرن لثامن عشر يفكرون في التحديث الاجتماعي والفكري أو المؤسساتي، وإنما كانوا يريدون اكتشاف الأنظمة والتقنيات العسكرية من أجل الحصول على قوات مدربة تتصدى للجيوش التي تهدد الدولة وتكبّدها الهزائم. لكن إذا نظرنا إلى تجارب السلاطين مع التحديث العسكري من أحمد الثالث (1703-1730) إلى سليم الثالث (1789-1807) نجد أن إخفاق التحديث يرجع إلى عوامل متعددة: اعتراض قوات الإنكشارية العسكرية على كل تحديث سيؤدي إلى أضعافها وإلغائها في نهاية الأمر، عدم وجود قوى اجتماعية تدعم التحديث.

عدم وجود برنامج تحديثي، إذ إن الأمر كان يقتصر على الاستعانة بضابط أوروبي وإنشاء فرقة ومدرسة للمدفعية. والخطة التحديثية لم تظهر إلا مع سليم الثالث الذي أقرّ «النظام الجديد» المدعوم ببرنامج مالي تحت اسم «إيراد جديد». وفي عهده الذي يتزامن مع الثورة الفرنسية، اتسعت دائرة مؤيدي التحديث من دون أن تشكل ضمانة كافية لنجاح المشروع. ولهذا فإن القوى المناهضة للتحديث الذي أقامه سليم الثالث استطاعت أن تطيح بكل المنشآت العسكرية التي أحدثها، فأزيح عن العرش عام 1807، وقتل في السنة التالية.

ومع محمود الثاني فإن التحديث العسكري ترافق مع اتساع أعداد المؤيدين للتحديث الذي لم يقتصر على الجانب العسكري وإنما شمل التعليم والإدارة، وهذا ما سيتكرس في حقبة التنظيمات ابتداءً من خط كلخانة عام 1839.

كيف يمكن تقييم نجاح أو فشل التحديث في عصر التنظيمات؟

– تجربة سليم الثالث لها أهمية من الناحية التاريخية، وثمة دراسات عديدة تناولتها، وأوجه الأهمية تكمن في أنها عبّرت عن مشروع تحديثي ولو اقتصر على الجانب العسكري بالدرجة الأولى، وعلى الرغم من إخفاقها، فإنها كرّست مبدأ التحديث الذي لا رجعة عنه، وهذا ما استعاده السلطان محمود الثاني الذي تيقن بأنه لا مناص من المضي بما بدأه سلفه، وإن اختلف الأسلوب، الأمر الآخر الذي تجدر الإشارة إليه، هو أن تجربة سليم الثالث كانت تجري في عالم متغير، أي في عصر الثورة الفرنسية التي أدخلت العالم في طور جديد سمتّه «الحرية والمساواة». يُضاف إلى ذلك أن الدولة العثمانية في مطلع القرن التاسع عشر كانت قد بلغت من الضعف إلى الحد الذي سمح للأساطيل الغربية أن ترابط عند سواحل العاصمة إستامبول.

ومن هنا، فإن التحديث لم يكن خيارًا بقدر ما أصبح أمرًا ضروريًا لا مفر منه. وقد واجه محمود الثاني نفس الصعوبات التي واجهها سليم الثالث أي العوائق الداخلية والتحديات الخارجية. ومع ذلك فقد تمكن عام 1826 من الإطاحة بقوات الإنكشارية.

أحد التحديات كانت تتمثل في المؤسسة الدينية التي يتبعها الآلاف من العلماء والطلاب. ولهذا السبب، فإن محمود الثاني لجأ إلى إطلاق اسم «الجيش المحمدي المنصوري» على قواته النظامية. وادعى أنه لا يُقلد الأوروبيين وإنما يُقلد حاكمًا مسلمًا هو محمد علي باشا الذي أسس جيشًا نظاميًا حقق انتصارات على أكثر من جبهة وأكثر من حرب. ومع ذلك، فإن العلماء الذين انصاعوا عن طريق الإغراءات أو عن طريق منح صغار العلماء وظائف ضمن الجيش الجديد، كان لديهم الشعور بأنهم سيتعرضون لما تعرضت له الإنكشارية، أي الإلغاء والملاحقة وحل كل الطرق والفرق التي كانت تتبعهم. لكن هذا لم يحدث، والذي حدث هو أن المؤسسة الدينية قد فقدت تدريجيًا من نفوذها، عبر إنشاء المعاهد التقنية والقضاء المتخصص، وتوارى تأثير العلماء في عصر التنظيمات.

وعلى الرغم من الإنجازات الكبرى التي حققتها التنظيمات في كافة المجالات، والتي استطاعت أن تحظى بتأييد شرائح واسعة من المجتمع، ليس فقط في المجال التركي ولكن أيضًا في المجال العربي. لكنها لم تستطع أن تعبّر عن حركة منبثقة من داخل المجتمع، فقد غلب استيراد النماذج التحديثية وليس ابتداعها، وأتاحت التنظيمات تحت ضغط الظروف للمصالح الأوروبية الاقتصادية أن تتغلغل، الأمر الذي أضرّ بمصالح فئات واسعة من الحرفيين والصناعيين الذين ما كانوا قادرين على منافسة البضائع الأجنبية، الأمر الذي أدى إلى إفقار هذه الفئات، وفي فترة التنظيمات ظهرت النزعات القومية والإثنية، التي كان في الإمكان استيعابها من خلال الدستور، لكن تعطيل الدستور بعد إقراره بفترة وجيزة قد أوقف هذا المسار.

كان السلطان عبد الحميد محدثًا إذا ما أخذنا في الاعتبار الإنجازات التي تحققت في عهده الطويل وخصوصًا في مجال التعليم والبنى التحتية مثل مدّ سكك الحديد، إلا أن السلطان عبد الحميد اعتقد أن التحديث في البنى والتعليم يمكن فصله عن التحديث السياسي والدستوري، وهذا الأمر أدّى في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى مناهضة شرائح واسعة من المتعلمين الكتّاب لنظام السلطان عبد الحميد واتهامه بالاستبداد، وهذا أدى إلى أن الشرائح الواسعة من الذين كان بإمكانهم أن يكونوا جزءًا من عملية النهوض قد انشغلوا واستنفدوا جهودهم في السعي إلى الانقلاب على السلطان.

لقد واجه التحديث في عصر التنظيمات مشكلات بنيوية، تتعلق بقدرة هذا الجسم الذي تمثله الدولة العثمانية على استيعاب التنظيمات، الأمر الذي أدى إلى تصدّع هذه البنية.

وصفتم بناء الدولة الحديثة في مصر بأنها ترتبط بحاكم فرد، كيف تفسرون ذلك؟

-عادة ما يرتبط التحديث في القرن التاسع عشر باسم العاهل أو الحاكم، تحدثنا عن تجربة سليم الثالث ومحمود الثاني في إستامبول، كما يمكن أن نتحدث عن محمد علي باشا في القاهرة، وعن الباي أحمد، والباي محمد الصادق في تونس، وقبل ذلك يمكن أن نشير إلى بطرس الأكبر في روسيا في مطلع القرن الثامن عشر.

وهذا الأمر يفيد أن التحديث لم ينبثق عن حركة المجتمع أو عن قوى اجتماعية دفعت باتجاه الإصلاح والتحديث، وإنما هو نتيجة لإرادة الحاكم الذي كان يرى أن التحديث العسكري (الذي يستتبع تحديثات في مجال التعليم والصناعة..) هو الذي يكسبه القوة والقدرة على التوسع. ومن هنا جاءت فكرة «الحاكم المستنير» أو «المستبد العادل»، وهي أفكار حديثة نجدها في فرنسا في القرن الثامن عشر. فالكلام عن مستبد عادل سابق لعصر الديمقراطية وانبثاق الرأي العام، وظهور السياسة بما هي تعدد التيارات والأحزاب والآراء. فإذا كان لا بد من حاكم، فليكن عادلاً. وكذلك الأمر بالنسبة للاستنارة التي هي فكرة حديثة تحيلنا إلى عصر الأنوار وظهور الأفكار الجديدة التي مهّدت لثورات القرن التاسع عشر.

في فترات التحديث المبكرة، كان رجال التحديث يأتون من أصول عسكرية أو إدارية، ويتلقون تدريبًا عسكريًا وعلميًا في ذات الوقت أو على التوالي. ولا ننسى أن المعاهد التقنية والمدارس الحديثة عامة كانت في نظامها أقرب إلى الثكنات العسكرية: «اللباس الموحد واستيقاظ مبكر، وأوقات محددة للدروس والطعام». إلا أن رسوخ التجارب التحديثية أفضى إلى وجود رجال اختصاص في مجالات الثقافة والعسكرية والمالية الخ. وعلى هذا النحو، فإن عصر التنظيمات لم يعد يُنسب إلى اسم السلطان، وإنما اكتسب اسمه من التحديثات (التنظيمات)التي غلبت عليه، هذا العصر الذي تعود إنجازاته إلى رجال الإدارة.

أضيف إلى ذلك أن التجارب التحديثية في ما يعرف باسم «عصر النهضة»، أو عصر التنظيمات كانت تتشابه في نفس الوقت الذي تنطبع فيه. وقد درست كل تجربة على حدة وحظيت كل تجربة بدراسات عديدة وما زالت الدراسات تتوالى من وجهات نظر متجددة وفقًا لمناهج بحث جديدة أو بالعودة إلى الوثائق التي لم يستنفد البحث فيها. ومع ذلك، فإن أثر التنظيمات العثمانية في تجارب البلدان العربية كمصر وتونس ولبنان، كان أكبر من المعترف به. والمبادئ التي انطوت عليها الخطوط الهمايونية مثل المساواة بين المواطنين وعدم التمييز، ثم تبني الدستور ونشوء فئات إدارية تتولى قيادة التحديث، ودور التعليم في التحديث ونشوء الأفكار الجديدة، وتأثير الغرب، كانت تتشابه.

لكن الاختلافات في التجارب التحديثية أنها كانت تمهّد لنشوء دول حديثة عبر تحديد المجال الترابي لكل منها، ثم نشوء تأريخ محلي (وطني)، والأهم هو ارتبط النهوض باللغة الأم، وإعلاء شأن الانتماء اللغوي، وهذا ما نجده في لبنان ومصر حيث تمت العودة إلى اللغة الفصحى التي كتبت بها المقالات والقصائد والأدب الجديد. وهذا ما حدث في تركيا العثمانية أيضًا، حيث نشأ أدب وفكر بالتركية مع نامق كمال وإبراهيم شناسي، الأمر الذي جعل التواصل بين الأدباء والكتّاب في الضفتين التركية والعربية منعدمًا.

وهناك فارق لا بدّ من الإشارة إليه يتعلق بتطور العلاقة مع التراث الديني الإسلامي، ففي إستامبول اتجهت الدولة إلى تقنين الأحكام الفقهية في المجلة التي استغرق العمل فيها سنوات طويلة، بينما شهدت القاهرة نشوء حركة إصلاحية مع الأفغاني ومحمد عبده انتقلت أصداؤها إلى بلاد الشام وإلى تونس والجزائر.

بالعودة إلى موقف العلماء من المسائل المتعلقة بالدولة والعلم، لماذا لم يعارض العلماء نظام الدوشرمة في التجنيد وعارضوا الإصلاحات، ولماذا أفتوا بهدم مرصد «ڠلطه». وهل كان موقف العلماء يتسم بالإجماع أو هناك من عارض ذلك؟

– لم يعارض العلماء نظام الدوشرمة الذي يستجلب صبيانًا غير مسلمين، ويخضعهم للتدريب ليتحولوا بعد ذلك إلى الإسلام ويخدموا الدولة كجنود أو كإداريين وغير ذلك، فقد قام هذا النظام في زمن كانت العبودية بالنسبة للفقهاء لا تناقض الشريعة، ففي كل التاريخ الإسلامي كان شراء العبيد أو الحصول عليهم في الحرب قائمًا (مع التذكير بأن العبودية لم تلغ في أمريكا إلا في عام 1865، وقد ألغي في تونس عام 1846)، أما معارضة الإصلاحات فقد بررها بعض العلماء بأنها من عادات «الكفار» وتؤدي إلى التشبه بهم وهي حجة واهية بطبيعة الحال، لأن معارضة الإصلاحات والتحديثات ترجع إلى أسباب عميقة تتعلق بالدرجة الأولى بالسلطة الدينية ومعارضة كل ما يخالفها، فقد نظر العلماء إلى أنفسهم باعتبارهم حراس الشريعة. كذلك فإن معارضة الإصلاحات ترجع إلى الشعور العميق بأنها ستؤدي إلى تقليص سلطة العلماء ونفوذهم كجزء من الهيئات الحاكمة.

أما المسألة المتعلقة بموقف العلماء من العلوم، وفتواهم بهدم مرصد « ڠلطه» الفلكي، فيمكن أن نرده إلى موقف رجال الدين المعارض للنظريات العلمية، التي يعتبرونها مناقضة للبنية الإيمانية. فقد وقف رجال الكنيسة الكاثوليك موقفًا معارضًا من العلوم، وأحالوا غاليليو إلى المحاكمة وأحرقوا جوردانو برونز لاعتناقه نظرية دوران الأرض (1600)، لكن العلم تقدم في أوروبا لأنه وجد بيئة يمكنه أن ينمو داخلها، ثم أثبت العلم أنه نافع في الاكتشافات البحرية، وفي معالجة الأمراض، وفي توسيع أفق التجارة ومعرفة العالم.

وإذا رجعنا إلى إستامبول في القرن السادس عشر، فإننا لن نعثر على بيئة حاضنة للعلم وللأبحاث العلمية، وأن العلم (الطب والفلك) كان يتم بتشجيع من السلطان، الذي يمكنه أن يستخدم الفتاوى لأغراض تتعلق بالسياسة أكثر مما تتعلق بالعلم.

أما لماذا وصلت الأمور إلى حد هدم المرصد، بحجج الاطلاع على أسرار الغيب، فيمكن أن نرجعها إلى ظروف العلم الذي كان في حال تراجع نمو فترات سابقة، وإلى الظروف المتعلقة بظهور تمردات ذات طبيعة دينية وإلى الصراع الصفوي العثماني. كان التشدد سلاح بيد السلطة لقمع الاحتجاجات، وهذا ما نراه بوضوح مع السلطان مراد الرابع (1623-1640) الذي واجه ثورات عديدة قمعها بشدّة، وفرض الأمن ومنع التبغ وبيع المشروبات الروحية. كان التشدد الديني يخدم السلطان في فرض سلطته. وهكذا ساد الانغلاق الفكري في الفترة السابقة للتحديث الذي فرض نفسه كآمر لا مفر منه.