أحسب أننا لو أردنا أن نصوغ في كلمات ماذا يكون الفهم للعقل البشري، لكانت أنسب عبارة: «الفهم هو الوضوح». بإمكانك أن تدرك، بملاحظة السلوك اليومي للناس، أن للتفسيرات الخالية من التعقيد جاذبية هائلة. فإرجاع الفعل إلى فاعل واحد، كعفريت مثلًا، أسهل من النظر في التفسيرات المعقدة التي يقدمها العلم الطبيعي. يُضيء لنا مثال العفريت هذا ناحية أخرى من العقل البشري. ذلك أننا نريد أن نجد تفسيرًا، حتى لو تطلب الأمر اختلاق واحد. فأحيانًا ينسب الناس التغيرات المزاجية أو السلوكية التي أصابت أحدهم إلى فعل قوة فوق طبيعية كالجن. ولا يستطيع العقل، فيما أزعم، أن يتقبّل الفرض بأن التفسير غير ممكن.

أصل الموجودات

يستخدم الروائي والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو (1913-1960) عبارة «الشهوة إلى الوضوح» (Appetite for clarity)، ليصف رغبة العقل في إيجاد مبادئ أولى خالية من التركيب. وإيجاد هذه المبادئ -وهي عقلية بما يقتضيه خلوها من التركيب- بمثابة فهم أو تفسير العالم، أمّا ما عدا ذلك فلا يرتقي لدرجة الفهم.

ففهم ظاهرة ما لا يتأتّى عبر تحليل الظاهرة إلى مكوناتها، كما يفعل العلم الطبيعي، بل يتأتّى عبر إيجاد مبدأ أساسي لا يتصف بصفات الظاهرة المادية، ولا المادة عمومًا. ليست المسألة أن العلم به خلل ما، لكنه مجال دراسته لا يعدوه؛ أي النظر في المادي المحسوس.

لعل المُثل الأفلاطونية أفضل نموذج أسوقه بصدد الحديث عن المبادئ الأولى. يَعتبر أفلاطون (428-348 ق.م) أصل الموجودات هي أفكار مجردة، أو يسميها (Eidos) ومعناها الهيئة أو الشكل. فالبشر كثيرون، ومختلفون فيما بينهم، لكن مثال الإنسان واحد. وكل إنسان هو صورة أو ظل لمثال الإنسان. والحال نفسه مع الأشجار ومثال الشجرة، أو الأشياء الجميلة ومثال الجمال، إلخ. فالمثال معنى كلي معقول للنوع، والمثال جوهر ثابت، وهو كمال مطلق، وهو مفارق، أي خارج الزمان والمكان.

إنما أهم ما في المثال خلوه من التركيب، ومن الامتداد، وممّا تتصف به المادة. قلت إن المُثل أفضل نموذج لقضيتنا هذه، لكن الحق أن هنالك ما هو أوضح دلالة من المُثل، وهو الله الخالق أو المُحرِّك. فإن كانت مُثل أفلاطون متعددة، فالله يتجاوز هذا التعدد، إذ هو واحد.

نستطيع أن نرى تاريخ الفلسفة باعتباره سعيًا وراء المبادئ الأولى. ويُلخِّص الفيلسوف المصري مراد وهبة (1926-) المسألة حين يقول: «قصة الفلسفة هي قصة البحث عن المطلق». والمطلق، كما يوضح وهبة، هو الموجود القائم بذاته، والبسيط غير المركب.

انشغل الفلاسفة الطبيعيون، أو فلاسفة ما قبل سقراط، بدراسة العالم الطبيعي. واقترحوا مبادئ مادية يردون أصل العالم إليها. فأصل الأشياء هو الماء عند طاليس (624-550 ق.م)، والنار عند هيراقليطس (535-475 ق.م)، والعناصر الأربعة جميعًا عند إمبدقليس (495-435 ق.م)، أما ديموقريطس (460-370 ق.م) فالعالم عنده ذرات. غير أن المادة لا تُقدِّم الوضوح والبساطة المطلوبين؛ فالمادة مركبة مهما تناولناها بالتحليل.

طرح الفلاسفة الطبيعيون أيضًا أولى الفرضيات بخصوص الجوهر اللا مادي للوجود. كان العدد عند الفيثاغوريين «جوهر الوجود وحقيقته». وتحدث هيراقليطس عن الكلمة أو اللوغس (Logos) بوصفه القانون الكلي للوجود. كذلك فإن قوتي الحب والكراهية اللتين يعتبرهما إمبدقليس محركتي المادة، يمكن اعتبارهما قوتين ماديتين، أو قوتين فوق ماديتين.

أمّا المساهمة الأبرز فكانت لأناكساغوراس (500-428 ق.م) الذي يرى العقل (Nous) القوة الدافعة للمادة. تخطّى أناكساغوراس حدود التفكير المادي كما لم يفعل أحد قبله، فقدّم التجريد للفلسفة. ولسنا نجاوز الصواب متى اعتبرناه مُلهمًا لفلاسفة أثينا، خصوصًا وقد استقر بها لفترة، ولعله أول من زرع بها بذور الفكر الفلسفي.

من الشك السفسطائي إلى أفلاطون وأرسطو

يُعتبر السفسطائيون مُخرِّبين بطريقة ما، لكن في حقيقية الأمر، تدين الفلسفة لهم بالكثير. لقد نشأ الشك السفسطائي، فيما أزعم، جزئيًا كرد فعل على الفلسفة الطبيعية؛ فقد ركّز الطبيعيون على الوجود (الأنطولوجيا)، دونما اعتبار للمعرفة. فجاء السفسطائيون وغيّروا السؤال من: ماذا نعرف عن العالم؟ إلى: هل بإمكاننا أن نعرف شيئًا بالأساس؟ وهكذا عرفت الفلسفة طريقها إلى نظرية المعرفة.

كان سقراط (470-399 ق.م) شكّاكًا، لكن بموقف إيجابي تجاه المعرفة. فعلى عكس بروتاغوراس السفسطائي (490-420 ق.م) الذي يعلن: «الإنسان مقياس كل شيء»، يكتفي سقراط بتقرير جهله، دون أن يفترض من ذلك غياب الحقيقة الموضوعية أو استحالة إدراكها.

ما في الأمر هو أن هذه الحقيقة، إن كانت موجودة حقًا، تتطلب بحثًا عقليًا لنصل إليها. البحث العقلي الذي سيُجسِّده الجدل الأفلاطوني، ثم المنطق الأرسطي. وكأن سقراط حلقة بين الشك السفسطائي والاعتقادية عند أفلاطون وتلميذه أرسطو (384-322 ق.م). ليكن في أذهاننا أن الحقيقة التي يتناولها سقراط بالبحث ليست هي الحقيقة الميتافيزيقية (الإلهية)، ولا الإبستيمولوجية (المعرفية)، إنما هي الحقيقة الأخلاقية دون غيرها. فسؤال سقراط هو عن الكيفية التي يحيا بها المرء حياة طيبة.

وجّه أفلاطون وأرسطو البحث الفلسفي من وقتهما حتى الآن. قدّم أفلاطون ما أسُميه نبوءاته العقلانية؛ إذ يعلن، عبر نظامه الفلسفي الجدلي، عن وجود حقائق كلية، وأن التفكير يستطيع الوصول لهذه الحقائق المجردة.

كان على نبوءات أفلاطون أن تخضع للاختبار عبر تاريخ الفلسفة الطويل. لا أقصد حقائق أفلاطون وحسب، بل كل الحقائق الفلسفية التي قدّمتها بعض أفضل العقول باعتبارها الحقيقة الموضوعية. وأمام الاختبار سقطت الحقائق الكلية جميعًا، لا فرق في ذلك بين ميتافيزيقا أفلاطون أو أرسطو، وميتافيزيقا ديكارت أو ليبنتز.

إن الميتافيزيقي وحده -الله عند أرسطو أو المثل عند أفلاطون أو المونادات عند لينتز أو الروح عند هيغل… إلخ- بوصفه البسيط والواضح يفسر العالم ويهبه المعنى. وجاء الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804 م) في محاولته لتجاوز الشك الذي طرحه الفيلسوف الإسكتلندي دافيد هيوم (1711-1776 م)، ليقتل الميتافيزيقا ولو عن غير عمد منه.

قتل الميتافيزيقا

يبحث كانط في عمله الأبرز «نقد العقل المحض» إمكان الميتافيزيقا، وينتهي إلى أنها ممكنة فقط بمعنى أننا نمتلك معرفة مسبقة (A priori knowledge) تفيد بأن العالم الطبيعي يخضع لقوانين معينة. وهذه هي ميتافيزيقا التجربة أو الخبرة الحسية (Metaphysics of experience). أما الأشياء في ذاتها (Things in themselves) أي الأشياء خارج تجربتنا الحسية، وكل ما يقع خارج التجربة الحسية، لا سبيل إلى إدراكها.

نحن لا نستطيع، كما يرى كانط، أن نحسم أمورًا من قبيل: هل العالم محدود أم نهائي؟ أو هل للزمان بداية؟ أو هل الله موجود أم غير موجود؟ فكل ذلك يتجاوز حدود الخبرة الحسية، فتستحيل معرفته، وينتهي كل قول فيه إلى التناقض.

يقبل كانط صورة أخرى للميتافيزيقا، هي صورة أخلاقية. ينظر كانط إلى الحس الأخلاقي كدليل على وجود الله. لكنه معني بالحس الأخلاقي وحسب، لا بأي دليل نظري ليدعمه.

هكذا يترك فيلسوف القرن الثامن عشر أثرين هائلين في الفلسفة الغربية. أول شيء يُقصِي الإلهيات من البحث الفلسفي، فلا مكان للمطلق بعد الآن. وثاني شيء يُقدِّم صورة للإيمان أقرب للتصوف، بحيث لا تضع في الاعتبار الأدلة العقلية على وجود الله.

وجد الفكر نفسه آخر الأمر في عالم غير مفهوم، وأطلّت نسبية بروتاغوراس علينا مُجددًا، لم تعد هنالك حقائق مُطلقة. لم يتوقف الأمر عند هذا، فقد خلقت العقلانية لنفسها أزمة كبرى حين انتصرت للمادية على حساب الإيمان. فالمادة كما قلت لا تفسر نفسها؛ إذ ينقصها عدم التركيب الذي اشترطناه لفهم وتفسير العالم. ثم أزمة أخرى، أزمة أخلاقية هذه المرة. فمع إقصاء الإله، أو قتله، كما سيشير الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900 م) طرحت العدمية الأخلاقية نفسها بقوة. أدرك نيتشه، كما أدرك الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (1821-1881 م)، حجم الكارثة، فحاولوا إيجاد السبيل لتجاوزها، كل على طريقته.

تبنّى الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد (1813-1855 م) إيمان القفزة كما أسماها، وهو قريب مما طرحه كانط سابقًا. لكن الوجودي الأول اختلف عن كانط الذي يجعل المحتوى الأخلاقي للدين معيار قبوله أو رفضه. أمّا كيركغارد فيفصل الدائرتين الأخلاقية والدينية عن بعضهما. اختار دوستويفسكي بدوره الإيمان المسيحي. أمّا نيتشه فقد طرح مفهوم تجاوز الذات، وقيم الحياة ومعنى الأرض كما يقول، كتعبير عن إرادة القوة، في مواجهة القيم المسيحية والعقلانية على السواء.

في القرن التالي يُلخِّص ألبير كامو المسألة فيقول: «إذا كان للتاريخ الفعال للعقل أن يُكتب، فسيكون تاريخ أسفه الدائم وعجزه». ويعلن أيضًا أنه يعرف ما يريده الإنسان وما يُقدمه العالم. أمّا ما يريده الإنسان فالفهم والوضوح، وما يقدمه العالم فالغموض واللا معقولية. وهذه العلاقة بين الإنسان والعالم هي ما يسميه كامو العبث.

ختامًا أقول إن الوضع الذي نجد عليه الفكر في بلادنا لا يحتمل عدم الالتفات إلى الفلسفة كما هو الحال الآن، ولعل النظر في الموقف الفلسفي بداية ننطلق منها لنواجه مشاكلنا الفكرية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.