في روايته الجديدة المرشحة على القائمة القصيرة لبوكر 2017 يحكي الروائي العراقي «سعد رحيم» حكاية «محمود المرزوق» بائع الكتب في مدينة «بعقوبة» العراقية الذي يفاجأ برصاصةٍ غادرة تقضي على حياته، وتجعله مثارًا للكثير من الحكايات والأحاديث حول حياته الغريبة، ولماذا جاءت نهايته على هذا النحو المأساوي؟

حادثة قتلٍ لرجلٍ مغمور، قد تبدو عابرة وعاديّة، لكن «سعد رحيم» قرر أن يجعل منها موضوعًا لروايته «مقتل بائع الكتب»، واستطاع أن يدير العالم حول ذلك البطل الإشكالي، الذي يعبّر به ـ كما على لسان أحد رواة الحكاية ـ عن مأساة وانكسارات جيلٍ بأكمله.

على طريقة «التحقيقات الجنائية» تسير خطوط الرواية، ويلجأ المؤلف/السارد إلى تلك الحيلة المألوفة في تجميع خيوط المعلومات حول القتيل المغدور، بدءًا بالسفر إلى المكان الذي قتل فيه، إلى مدينة «بعقوبة» العراقية الموعودة بالكثير من حوادث القتل والتفجيرات غير المحسوبة، حيث يبدأ الصحفي «ماجد بغدادي» بتكليفٍ من رجلٍ غريب اتصل به ذات ليلة، وتعهد بتحمل نفقات وأجر «المغامرة الروائية» في تتبع آثار «محمود المرزوق» لكتابة كتاب عنه كما لو كان «سيرة ذاتية» لذلك الرجل، وبدافع الحساسية والفضول الصحفي يذهب «ماجد» لاستكشاف الحقيقة والاطلاع على الأخبار وجمع المعلومات.

محمود المرزوق وغدٌ برداء مثقف بعدما يعبر مطهّر البارات، يقرأ بضعة كتب، يرسم لوحاتٍ تنم عن ربع موهبة، ويكتب بعض الهراء، ويدلي بآراءٍ عن البروليتاريا الأممية في بلده الذي لا يعيره أدنى اهتمام!

يبدو الصحفي موفقًا بغير كثير جهد، يصادف أن أحد أصدقائه القدامى كان يعرف المرزوق، ثم يعثر بسهولة على مذكرات كتبها القتيل بخط يده، وما إن يشيع في المدينة عن وجود صحفي يتتبع أثر الرجل حتى تأتي الشواهد والأخبار والمعلومات وقصاصات المذكرات إليه، بل حتى الرواية التي كان المرزوق قد شرع في كتابة فصولٍ منها، ولم يكن أحدٌ يعلم عنها شيئًا تصله كلها إلى حيث يكون، حتى بعد أن يترك «بعقوبة» خوفًا من الاغتيال ويعود لعمله في «بغداد»، ينقطع أثر الرجل الذي كلفه بالمهمة، ولكن يبدو في النهاية أنه هو الذي كان يمده بكل تلك المعلومات.

يجيد «سعد رحيم» استخدام التقنيات المختلفة في تتبع سيرة ذلك الرجل، بدءًا بشهادات أصدقاءٍ مقربين، مرورًا بأوراق ومذكرات يجدونها مصادفةً في مكتبته، بل خطابات ورسائل بينه وبين حبيبته القديمة، بل حتى الصور واللوحات ينقلها لنا الكاتب/السارد بطريقة ذكية وبتصويرٍ سينمائي يجعلنا كأنما نشاهدها بالفعل.

بالإضافة إلى عدد من اللوحات المرسومة، والتي تعبِّر كلها عن تلك الشخصية، حتى يصل إلى مسودة رواية كان يحلم بنشرها بعنوان «كشف حساب»، التي تكون بمثابة الحل السحري لهذا الصحفي الذي يلتقط ما سيكوّن منه مادة كتابه، لكن الأمر يبدو لانهائيًا مع رسالة جديدة من مجهولٍ آخر يحكي فيها أطرافًا مطوَّلة من سيرة «المرزوق» وشبابه.

وعلى الرغم من تعدد تلك التقنيات واختلافها فإن القارئ يظل مأخوذًا بالحكاية والتفاصيل التي يعرضها السارد مع كل فصلٍ من فصول الرواية، ومع كل طريقة من طرق الكشف عن تلك الشخصية، وربما يبقى الجزء الخاص الموسوم بأنه «رواية» هو الذي يحمل صفةً وطابعًا شعريًا ولغة مختلفة عن الطريقة التقريرية التي تأتي في الفصول الأخرى، ولا شك أن ذلك يعود إلى طبيعة الكتابة، ومحاولة الكاتب أن يكون السرد في الرواية مغايرًا لطريقته في السرد في باقي الفصول.

كنت المرشح الأول في أي قائمة اعتقالٍ أعدت للتو، حتى وإن لم أرتكب أي أمر يخل بالنظام الذي حددوه، اعتقلوني مرتين قبل أن أهاجر إلى براغ واحتجزوني في مطار باريس.. أعتقد أن فيَّ شيئًا يستفز رجال الأمن والشرطة وحراس النظام في كل وقتٍ ومكان، يستفز فيهم حاسة الخطر. كما لو كنت أبث شعاعًا منذرًا من مسامي، فأنا أبدًا مصدر إزعاج وشكوك وتهديد دائم!

تدور الرواية حول كل «تيمات» القهر والاغتراب الذي يعاني منها مواطن في البلدان العربية، ورغم أن الرواية ومسارها تاريخيًا ومكانيًا تدور في العراق بين أحداثٍ وأماكن شديدة الثراء والخصوصية فإن الكاتب استطاع أن يجعل من «بعقوبة» و«العراق» أرضًا عربية نموذجية، لا فرق بينها وبين غيرها، حيث يجري اضطهاد الآخرين واتهامهم بالعمالة والتخوين، وحيث يمكن للجميع أن يكون تحت طائلة الاعتقال والتعذيب لمجرد الاشتباه.

مع السطور الأخيرة تتكشّف للقارئ خطوط الرواية كلها، ويدرك الحقيقة كاملة، تلك التي تعرف على أطراف شخصياتها متناثرة على أنه «بائع الكتب» المسكين فإذا به يكتشف شخصية أخرى مغايرة تمامًا، وتبقى الرحلة، كما وصفها السارد أيضًا أجمل ما فيها هو ذلك التقليب بين الشخصيات، ويبقى للقارئ أيضًا متعة التعرف على الحقائق المختبئة خلف كل أخبار الموت والدمار المتلاحقة التي ربما لا ندرك منها إلا أقل القليل!

وهكذا تتيح الرواية للقارئ إعادة تأويلها من البداية، واستعادة التعرف على من يكون «محمود المرزوق» هذا فعلاً، وهل هو مجرد بائع كتب في بعقوبة أم أنه شخصية أخرى بدور آخر يختلف عن كل ما عهدناه، ولا شك أنه حينئذٍ سيتوقف طويلاً عند اعترافاتٍ مباشرة مثل هذه:

ماذا تفعل حين لا تجد لقمة تسكت بها جوع أطفالك؟ ستكون لصًا مسلحًا أو إرهابيًا.. وإذا ما منعك ضميرك ربما أقدمت على الانتحار، ولكن ماذا سيفعل أولادك عندئذٍ؟! وما الحل المنطقي الذي سيخطر على بال زوجتك.. ماذا لو كنت متدنيًا وتعد الانتحار من الكبائر؟! حلقة مفرغة .. أليس كذلك؟ في هذا الجزء الشنيع من العالم، في هذا الزمن الأغبر صورة التاريخ هي الحلقات المفرغة.. دوامات تبقيك دائخًا مضروبًا على يافوخك ليال نهار!

لا تختلف صورة العربي المقهور كثيرًا، مهما اختلفت اسمه أو وظيفته أو دوره الذي ارتضى أن يؤديه في هذا الجزء من العالم، هذا ما يصوره «سعد رحيم» باقتدار في هذه الرواية، حتى إن حمل بطله قناع «بائع الكتب» أو الرسام الضائع الحائر بين ما يحبه ويريده وبين ما يقوم به ويفعله، بين هذا وذاك ثم إنسان تضيع أحلامه وتذوي، وتكون نهايته ككثيرين غيره مجرد رصاصة عابرة طائشة كانت أو قاصدة.

ربما يستعيد عرض سيرة ومسيرة بائع الكتب هذا قصصًا عديدة وحكايات مختلفة لمواطنين عرب وجدوا أنفسهم فجأة تحت قبضة أسلحةٍ قمعية لا ترحم، فلم يكن منهم إلا أن تحولوا إلى جلادين، وربما «إرهابيين» يزرعون الموت ويحصدونه في النهاية!

تجدر الإشارة إلى أن «سعد رحيم» روائي عراقي حاصل على جائزة الإبداع الروائي في العراق عام 2000 عن روايته الأولى «غسق الكراكي»، كما حصل مؤخرًا على جائزة «كتارا» للرواية العربية 2016 فرع الرواية غير المنشورة عن روايته «ظلال الجسد.. ضفاف الرغبة».


اقرأ أيضا في ملف البوكر 2017:موت صغير: عن حياة إمام المتصوفة «ابن عربي»«زرايب العبيد»: الحب ينتصر على القهر والعبودية«السبيليات»: من سيرة المرأة والحربالقائمة القصيرة لبوكر 2017: الانحياز للمسكوت عنه