قبل 25 عامًا من الآن، هناك في لاكورونيا، كان ملعب سان لازارو معقل فريق كومبوستيلا الإسباني، على موعد مع دخول التاريخ إلى الأبد، وذلك عندما قرر رونالدو البرازيلي أن يعطي الجميع درسًا غير قابل للنسيان عما يعنيه لقب «الظاهرة».

كان رونالدو وقتها يلعب في صفوف برشلونة، خلال موسم 96-97 الأسطوري بالنسبة للظاهرة، حينها كان الفريق متقدمًا على فريق كومبوستيلا بثنائية، وقبل أن تنتهي أحداث الشوط الأول بدقائق معدودة، حدثت المعجزة.

استلم رونالدو الكرة التي ارتدت من زميله وقائده لويس انريكي، قبل أن ترتطم بلاعبين من كومبوستيلا في وسط الملعب، ليسارع رونالدو بمراوغة أحد اللاعبين ويتقدم للأمام كالإعصار تجاه مرمى بؤساء لاكورونيا، ليراوغ لاعبًا آخر ويستمر في انطلاقته، قبل أن يراوغ أحد هؤلاء اللاعبين مجددًا، ولحظة أن اقترب من حارس مرماهم، قرر أن يودعها الشباك.

ما فعله رونالدو وقتها لم يستطع أحد أن يستوعبه، بوبي روبسون نفسه وقف مشدوهًا وهو يشاهد الهدف، إلى أن جاءت شركة نايكي بذلك الإعلان الدعائي الشهير، الذي استخدمت فيه هدف الظاهرة، ومعه تلك العبارة الشهير: «ماذا لو طلبت من الله أن يجعلك أفضل لاعب كرة قدم في العالم، وكان يستمع إليك بالفعل؟».

الرجل الذي عاد بالزمن

بعد تلك التساؤلات بعامين فقط كانت إحدى الضواحي الفقيرة في العاصمة الفرنسية باريس، والتي تدعى بوندي، تستقبل مولد فتى سيعرف فيما بعد بكيليان مبابي، والذي لم يكن يعلم أنه بعد 22 عامًا من مولده، سيجعل «كارل أنكا»، محرر ذي أتليتك، يتذكر هدفًا مر عليه 25 عامًا، ليأخذه برهانًا على مدى العظمة التي وصل إليها الفتى الباريسي في تلك السن الصغيرة.

يرى كارل أن ما قدمه مبابي أمام برشلونة في مباراة الـ 4-1 الشهيرة، يعتبر شيئًا لم نرَ مثله منذ الظاهرة. تلك القدرة الرائعة على التسجيل بكل الطرق والوضعيات الممكنة، وذلك الوعي الخططي والمرونة التكتيكية التي يمتلكها الفتى، كلها أشياء يشترك فيها مع الأسطورة البرازيلية، لكن أكثر ما لفت نظر كارل فيما رآه من النجم الباريسي كان اللقطة الشهيرة لشد بيكيه لمبابي من قميصه.

لم تكن الأزمة مع ما قام به بيكيه في حد ذاته، لأن أكثر ما لفت نظر كارل في اللقطة هو تلك الانطلاقة التي قام بها مبابي من أمام الإسباني، والتي يقوم بها بشكل متكرر في كل مباراة تقريبًا، بغض النظر عن المنافس، وبغض النظر عن النتيجة، سيستطيع أن يأخذ الكرة من أي مكان في الملعب، وينطلق بها إلى الأمام بأقصى قوة يمتلكها، وسيراوغ من يجده أمامه، وحينها سيكون الأمل الوحيد لإيقافه هو ما فعله بيكيه في تلك الليلة، أو ما فعله ماركوس روخو قبلها عندما سبق مبابي خطي وسط ودفاع الأرجنتين بأكملهما وتحصَّل على ركلة جزاء بفضل المدافع الأرجنتيني.

لقد كان يقوم بكل شيء بشكل أفضل وأسرع وأقوى من كل زملائه، كانت موهبته تحتاج للترويض بالطبع، لكنني لم أطلب منه أبدًا أن يتوقف عن المراوغة أو الانطلاقات، لقد كان الأفضل في هذا، فلماذا أطلب منه أن يتوقف عن فعل ذلك؟ لقد كان أفضل طفل دربته، وربما الأفضل على الإطلاق.
أنطونيو ريكاردي، واحد من أوائل المدربين الذين تعاملوا مع مبابي في بوندي.

وعمومًا، في الأعوام الأخيرة أصبحت اللعبة أكثر صعوبة عما كان الوضع قبلها، وبات ما يفعله مبابي في تلك اللحظات التي تنفجر فيها قدراته، بمثابة قصة جميلة اندثرت وسط تكتيكات الضغط المتطورة وتضييق المساحات التي أصبحت تتمحور اللعبة حولها. وهنا تكمن عظمة ما يقدمه مبابي، لأنه لا يضرب بالمسلمات التي عليها اللعبة الآن عرضَ الحائط فقط، بل يكسر ذلك الحائط، دون الاكتراث لكيف ومتى سيُوقَف، سيقوم بانطلاقاته بالجودة المطلوبة، الجودة التي مكنته من إحراز ثلاثية في مرمى برشلونة، وقبلها إحراز هدفين في الأرجنتين، واعتباره أصغر لاعب يسجل هدفين في مباراة إقصائية في كأس العالم منذ بيليه، كل ذلك تحت أنظار سيد اللعبة الحالي ليونيل ميسي!

وبالحديث عن سيادة اللعبة، فنحن لا نعتقد أن هناك مَن يشكك في أحقية الفتى الباريسي في خلافة ميسي ورونالدو كأيقونة اللعبة، ميسي نفسه كان حاضرًا خلال أهم لحظتين عبَّر فيهما مبابي عن إمكانياته المدهشة، ورونالدو على الرغم من تفوقه على مبابي خلال المواجهات التي جمعتهما بعضهما ببعض، فإن الأسطورة البرتغالية دائمًا ما كان حاضرًا خلال سنوات تكوين مبابي باعتباره مثل كيليان الأعلى، هذا بالطبع بجانب أن الفتى بالفعل نجح في كسر بعض من أرقام الأسطورتين، وذلك بنجاحه في تحقيق معدل تهديفي في عمر الـ22 يتفوق على ما حققه الثنائي وهما في مثل عمره.

إعادة تعريف الظاهرة

منذ عدة سنوات، هناك في بوندي، وهي واحدة من أكبر مجتمعات المهاجرين في فرنسا، حيث الفقر والشر، وكل ألوان وثقافات الحياة المتنوعة تحيط بسكانها من كل ناحية، نشأ مبابي، ونشأ حلمه الصغير لكي يصبح لاعب كرة قدم محترفًا، كل ذلك تحت أنظار مثله الأعلى كريستيانو رونالدو، الذي أحاطت ملصقاته وصوره بجميع أنحاء غرفة الفتى الصغير.

وفي أعوامه الأولى لعب مع فريق بوندي المحلي، تحت إمرة والده وبعض المدربين الآخرين، وبسرعة قياسية تفوق على جميع أقرانه، وذاع صيته في جميع أنحاء بوندي. وصل ذلك الصيت بالطبع إلى نادي تشيلسي، الذي طلب الفتى للقيام باختبارات وهو في الحادية عشرة من عمره، ورغم إمكانياته التي فرضت نفسها خلال تلك الاختبارات، والتي مكنته رفقة تامي أبراهام الفتى الناشئ هو كذلك آنذاك، من سحق الفريق المنافس بثمانية أهداف، لم يُعِد النادي اللندني الاتصال به قط.

في أول مرة شاهدته يلعب فيها لم أقل غير ( واااو ). أعتقد أن ذلك الشعور هو نفسه الذي أحسه هؤلاء الذين سنحت لهم الفرصة لكي يشاهدوا ليونيل ميسي وهو في نفس تلك السن الصغيرة.
جاي فرانسوا سونر، المدير العام لنادي بوندي.

استمر مبابي في اللعب حتى وصل لأكاديمية كلايرفونتين، التي تعتبر واحدة من أكبر أكاديميات كرة القدم في العالم حاليًّا، وهناك صُقلت موهبته بشكل كافٍ مكَّنه من ترك نادي بوندي إلى الأبد، والالتحاق بناشئي موناكو، المكان الذي ظل يحارب فيه مبابي لمدة ثلاثة أعوام متواصلة حتى وصل إلى عتبات الفريق الأول تحت قيادة ليونارد جارديم، الرجل الذي ساعد مبابي لكي يكون بطلًا للدوري الفرنسي للمرة الأولى وهو في عمر الثامنة عشرة.

قرارات مدروسة

وبالتدقيق في مسيرة مبابي الاحترافية يمكننا أن نستشف بسهولة أن الفتى لم يتخذ قرارًا خاطئًا واحدًا، الأمر الذي يرجع فضله لأبويه بالطبع، اللذين رفضا محاولات قوية من أندية كبرى في أوروبا، كريال مدريد وأرسنال، بضمه إبان مراهقته، لأنهما رأيا أن الفتى يحتاج أن يبقى قليلًا في فرنسا.

حتى في داخل فرنسا كان لهما معايير محددة للوجهة التي سينتقل لها ابنهما، أهمها على الإطلاق أن يكون هناك فرصة تسمح للفتى بالمشاركة، لذلك رفضا عرض باريس لأنهما رأيا أن موناكو سيسمح له بفرصة لعب أكبر في سن صغيرة، وهو ما حدث بالفعل.

تحدثت مع والدة مبابي لمدة 40 دقيقة كاملة، محاولًا الشرح لها بكل خبرتي مع الفرق الكبرى فوائد الانضمام لموناكو، وأخبرتها أن أهم شيء نريده لكيليان عندما ينتقل إلى غرفة ملابس لفريق كبير أن يسمع باقي اللاعبين يقولون له: أهلًا كيليان نحن نحبك. لا أن يذهب إلى هناك وينظروا إليه متسائلين: من يكون هذا الطفل؟
لويس كامبوس، المدير التقني السابق لموناكو.

أتت هذه القرارات المدروسة بثمارها بسرعة فائقة، فمبابي في أول عامين من اللعب الاحترافي، وبعمر الـ 19 عامًا فقط، كان في جعبته بطولتا دوري فرنسي وميدالية لكأس العالم، وهي إنجازات تجعل بعض اللاعبين بمثابة الأساطير بالنسبة لمشجعيهم.

وصل وهو في عامه الـ22 إلى أول نهائي دوري أبطال في حياته، ومن البديهي أن يحصل على ميدالية لتلك البطولة خلال العشر السنوات القادمة، هذا بجانب تحطيمه لكل الأرقام التهديفية التي سجلها نخبة مهاجمي العالم في نفس عمره، وعلى رأسهم بالطبع راؤول جونزاليس، سواريز، أجويرو، وغيرهم الكثير.

وربما أهم شيء جعل مبابي مختلفًا عن بقية لاعبي جيله أنه تعرف على البيئة التي يعمل فيها نخبة فرق العالم مبكرًا، واستطاع التعامل معها باحترافية شديدة وفي وقت قياسي، ففي باريس سان جيرمان على سبيل المثال، هناك دائمًا ضغط موضوع على الفريق لاكتساح الألقاب المحلية، وبالطبع هنالك ضغط من نوع آخر يتعلق بالبطولة الأوروبية التي دائمًا ما عانى الفريق فيها، وهناك دائمًا جمهور غاضب ينبغي أن تتعلم كيفية التعامل معه، كل ذلك مع غرفة ملابس مليئة بنجوم من نخبة لاعبي العالم في الوقت الحالي.

كلها ضغوطات كفيلة بالقضاء على مسيرة فتى ما زالت في مراحل تشكيلها الأولى،لذلك يمكن اعتبار تعامل الفتى الباريسي مع كل تلك المحيطات شيئًا يجعله ليس مجرد موهبة شابة صاعدة بقوة، بل لاعبًا فذًّا أثبت أنه يمكن الاعتماد عليه، كل هذا رغم حداثة سنه الملفتة للنظر.

في النهاية يمكننا القول إن مبابي هو الشخص الذي ستتمحور جماهيرية اللعبة مستقبلًا حوله، وهو الشخص الذي سيرسم شكل كرة القدم، وسيحدد أين تقبع تنافسيتها باختياره للمكان الذي سيفضل الانتقال إليه.

أربع بطولات دوري وبطولة لكأس العالم هي إنجازات كما قلنا تعتبر أكثر من كافية للبعض لنعتهم بلقب أسطورة، ومبابي لديه متسع ضخم من الوقت ليس فقط لتأكيد ذلك اللقب عليه، بل لنقله إلى مستوى جديد من الإنجازات التي لم يصل إليها أحد، إنجازات ستجعل مبابي ليس مجرد أسطورة فحسب، بل ستجعله ظاهرة حقيقية في اللعبة، كرونالدو البرازيلي الذي اكتشفنا بعد 25 عامًا من البحث أننا الآن نعيش في عصر خليفته.