تعد قضية البحث عن الذات العربية وتأصيلها، من القضايا التي استعصى على كثير من المفكرين والأدباء والفلاسفة إدراك أبعادها وإمكانية معالجتها. إذ يعد مفهوم الهُوِيَّة مفهومًا مُلتَبسًا وقديمًا قدم التاريخ البشري لتشابكه مع قطاعات عدة.

تتشكّل الهُوِيَّة من مجموعة الثوابت، منها: التاريخ والموروث الثقافي والديني والتقاليد والعادات وصولاً إلى اللغة الأم. بيد أن اللغة من أهم العوامل التي تسهم في تشكيل هُوِيَّة الأمة، فلا تقوم الثقافة من دون وعاء لغوي، وفي حال تدهور قدرة اللغة على التعبير، تنحدر عملية الإنتاج الثقافي والمعرفي. وحين نتأمل العوامل الثقافية والتاريخية التي تؤثر على كيان المجتمعات الإنسانية، نجد أن اللغة كانت الأكثر اتصالًا بثقافة الشعوب فكانت الأقدر على تشكيل هُوِيَّة الأمة.

يمكن القول إن اللغة هُوِيَّة، وليست الهُوِيَّة لغةً، «إن العلاقة بين اللغة والهُوِيَّة هي علاقة الخاص بالعام، فالهُوِيَّة أعم من اللغة، لأن الهُوِيَّة لها تجليات عديدة غير اللغة إذ إن (الهُوِيَّة) ليست سوى تلك القواسم المشتركة المتفق عليه بين مجموعة من الناس، ذلك الذي يميزهم ويوحدهم، وليست اللغة وحدها التي تقوم بهذه المهمة، وهذا يعيدنا إلى المقومات الأخرى للهُوِيَّة». [1]

إن الهُوِيَّة هي نتاج مفاوضات تفاعلية، فقد تكون الهُوِيَّة جزئية، أو نتيجة للتفاوض التفاعلي، أو بناء لتصورات الآخرين، أو كنتيجة لعمليات وهياكل أيديولوجية أكبر، «فركزت معظم الأبحاث حول الهُوِيَّة العرقية التي أجريت ضمن هذا الإطار الأنثروبولوجي اللغوي على الأداء والتفاوض بشأن الهُوِيَّة». [2] فلا يمكن إغفال أن مسألة الهُوِيَّة لا تزال تشكل مصدر قلق سائد في مجتمعنا. إذ إن الهُوِيَّة الثقافية للشعب هي مجموع إرثهم الإبداعي، وهو دائمًا في حالة تطور لا نهائي. فعلينا أن نتفهم ذواتنا ونعي أن الآخر ما هو إلا بمثابة مرآة لأنفسنا بطريقة ما، والغربة تبدأ من دواخلنا، والهُوِيَّة ما هي إلا جسر يمكن من خلالها أن نخترق الحدود ربما لإيجاد سُبل جديدة.

ذهب الفلاسفة لتحديد هُوِيَّة الإنسان، حيث ارتبط سؤال الهُوِيَّة بوعي الإنسان بذاته، ويشرح لنا «فتحي المسكيني» طبيعة التمايز والتشابه بين (الهُوِيَّة والهُوِيَّة) وأصلهما في اللغة العربية، فيقول:

إن فلاسفتنا القدامى قد استعملوا لفظة (هُوِيَّة) المتحولة من الضمير المفرد المذكر الغائب (هو)، بوصفه مقابلاً للفظة (إسنين) في اليونانية و(هسسن) في الفارسية، للدلالة على وجوه المعنى الذي أقره أرسطو لمفهوم الوجود، وأن لفظة (الهُوِيَّة) مستعملة في ترجمة (ما بعد الطبيعة)، التي فسرها (ابن رشد) للدلالة على معنى (الوجود) في اليونانية. [3]

ويعد أرسطو أوّل مَن وضع مصطلح الهُوِيَّة في سياق استنباطاته لقواعد المنطق، مفادها أنّ لكلّ شيء خصائص راسخة، حتى وإن حدث تغيير ما في الظروف المحيطة بها. [4] وعاد هذا المفهوم للظهور مع العولمة وهيمنة القوى الكبرى على الاقتصاد العالمي، وبالتالي زعزعة الهويات والثقافات الأخرى، فتراجع التنوع الثقافي الذي يعد من أهم معالمه اندثار اللغة.

يعد مصطلح الهُوِيَّة بالمعنى الوارد في اللغات الأجنبية مصطلحًا حديثًا نسبيًا، إذ لم نعثر له على أثر في المعاجم القديمة وعلى رأسها لسان العرب لـ«ابن منظور» إذ لا يتخطى شرح المصطلح حول أن «هُوِيَّة تصغير هُوة، والهُوة البئر، وقيل: الهُوة (الحُفرة البعيدة القعر). [5] على الرغم من أنه تم تداوله في الثقافة العربية، من الخوارزمي، فالكندي، ومن ثم الفارابي فابن سينا، وصولًا إلى ابن رشد، ولابن خلدون، وقفات عند هذا المفهوم، أشار إلى ما يُعرف بالاستلاب الثقافي للشعوب وما يؤدي إلى الانسلاخ عن الهُوِيَّة الأصلية للشعوب، ولكنه اعتقد أن مميزات الهُوِيَّة هي أنها تاريخية ثقافية أكثر منها طبيعية، كما اعتبر التحول أصيلاً فيها، ويؤكد أنّ هذا التحول يغنيها ولا يلغيها. [6]

وبالعودة إلى بعض المعاجم الغربية، نجد أن لفظة الهُوِيَّة identité في الفرنسية أو identity في الإنجليزية، تعني السمات الجوهرية التي تميز الفرد عن غيره، ثم السمات التي تشركه مع غيره، وتميزه عن المجموعات الأخرى، وهذا ما يشكل هويته الجماعية. [7] فكيف تسهم اللغة بعمق في تشكيل كل من بناء الهُوِيَّة الجماعية والهُوِيَّة الفردية؟ إذ قال سقراط عبارته الشهيرة: «تكلم حتى أراك».

بدت الهُوِيَّة بمفهومها الاصطلاحي، «أنها شيء محسوس يمكن وضع آلية عليه وصياغته ضمن تعاريف محددة، وأن هناك شيئًا محددًا يمكن أن نسميه الهُوِيَّة لمجتمع ما، ولكن الأمر أكثر تعقيدًا مما يبدو للوهلة الأولى، فما أن تحاول وضع تعريف للهُوِيَّة حتى تقف أمامك تساؤلات تجبرك على إعادة النظر في ذلك التعريف، حتى تكاد تنتهي إلى أمور هي من فئة تحصيل حاصل. [8]

فتشكّل اللغة جزءًا مهمًا من الهُوِيَّة، فاللغة أخطر رابطة تاريخية تربط بين الأجيال المختلفة من الشعب الواحد، ذلك لأنّ اللغة وعاء التجارب الشعبية والعادات والتقاليد والعقائد التي تتوارثها الأجيال، فما الذي بقي لنا من أجدادنا غير الذي سطروه في أسفارهم وحفظوه في أمثالهم؟ ولكن، ما هي حدود العَلاقة بين اللُّغة والهُوِيَّة؟

كانت وما زالت اللغة المحور الرئيسي لصراع البقاء، فبقاء اللغة أو اندثارها ينعكس سلبًا وإيجابًا على هُوِيَّة الأمة. فهي الخط الزمني الذي تلتقي فيه الأجيال بكل آمالها وآلامها. إذ إنها الوعاء الذي استودعته الشعب كل ما أنجزه من نفائس الفكر، وذخائر الأعراف والفلسفات والعقائد. [9]

إن اللغة من أقدم تجليات الهُوِيَّة لدى الجماعة البشرية، وتُسهِم بشكل مباشر في صياغة خصائص الأفراد المشتركة. حيث إن «الذين يتكلمون بلغة واحدة يشكّلون كيانًا واحدًا ربطته الطبيعة بوشاح متينة، وإن تكن غير مرئية». [10] فاللغة تتجاوز هذا الإطار المحدود الذي يختزلها في وظيفة أدائية، إلى عالم أشمل يجعل منها لبنة ترتكز عليها الهُوِيَّة. وعلى حد تعبير «جاك دريدا»، فإن «اللغة تحمل العالم في جوفها، فلغتي هي عالمي وحدود لغتي هي حدود عالمي». [11] فتكمن خطورة الأمر في أن اللغة هي التي تشكل الذات الفردية والهُوِيَّة القومية في الوقت نفسه.

ويعد تصور «مارتن هيدجر» للغة من أعمق التصورات التي اهتمت بمفهوم اللغة وحاولت الكشف عن ماهيتها، فيقول هيدجر:

اللغة مسكن الوجود، في حماها يسكُن الإنسان. المفكرون والشعراء هم الذين يصونون هذا الحمى. وسهرهم عليه، اكتمالٌ لانكشاف الوجود، ذلك أنه بقولهم، ينقلون هذا الانكشاف إلى اللغة ويَصُونونَه داخلها. [12]

ولكن، ليست اللغة هي مجرد صورة عن الواقع أو أداة لنقل المعنى فحسب، بل بها نتعرف على ذواتنا ونتمايز عن الآخرين وتتشكل ذاكرتنا، وترتسم طريقة تفكيرنا.

بيد أن المعنى هو الذي يؤسس اللغة ودون اللغة لن تكون للأشياء معنى، كما يوضح «هايدجر» في كتابه الوجود والزمان: «إن الكلام ينبغي أن تكون له من حيث ماهيته طريقة كينونة متصلة بالعالم. إن مفهومية الكينونة– في العالم- وفق وجدان ما، إنما تفصح عن نفسها من حيث هي كلام» [13]. وبهذا المعنى فإن اللغة هي التي تفتح أمامنا العالم، لأنها وحدها هي التي تجعل الإنسان موجودًا يعبر عن نفسه. بيد أن إتقان اللغة يؤثر في مدى الحصيلة المعرفية ودرجة الإبداع العلمي، فاللغة تُغْني الحضارة الإنسانية.

ويرى «حسن حنفي» أنه في الهويات يتوحد العالم كله، تحت سيطرة المركز، وتصبح ثقافته هي نموذج الثقافات، وباسم المثاقفة يتم انحسار الهويات الثقافية الخاصة في الثقافة المركزية مع أن مصطلح المثاقفة سلبي ويعني القضاء على ثقافة لصالح أخرى، ثم ابتلاع الأطراف داخل ثقافة المركز، وتبرز مفاهيم جديدة؛ التفاعل الثقافي. لتنتهي إلى أن ثقافة المركز هي الثقافة النمطية، ممثلة الثقافة العالمية. [14]

ولكن، لا تكتمل الهُوِيَّة الثقافية ولا تبرز خصوصيتها الحضارية ولا تغدو هُوِيَّة ممتلئة قادرة على الأخذ، والعطاء إلا إذا تجسدت في ثلاثة عناصر: الوطن، والأمة والدولة، فأي مس بهؤلاء هو مساس بالهُوِيَّة الثقافية والعكس صحيح كما يقول «الجابري». [15] وهذه العملية ثلاثية التفاعل معقدة إلى حد كبير، إذ تنسج روابط معنوية تُرسِّخ هذه الهُوِيَّة الجماعية والفردية. ولا يمكن فهم الوجود إلا من خلال ميدان اللغة، فلا هُوِيَّة بغير حضارة ولا حضارة بغير لغة.

المراجع
  1. الحيفان، فيصل، اللغة الهوية: إشكاليات المفاهيم وجدلية العلاقة، مقال بمجلة التسامح، العدد الخامس، شتاء 2004.
  2. Lee man, Jennifer, Becoming Hispanic: The negotiation of ethno racial identity in US census interviews, Cross Mark, Springer Nature Limited 2018, p.10-11.
  3. فتحي المسكيني، الهُوية والزمان (تأويلات فينومينولوجية لمسألة –النحن-)، ط1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 2001، ص6.
  4. الحسين آيت باحسين، إحالة ببليوغرافية حول موضوعا: الهوية في علاقته بالأمازيغية لغة وثقافة وحقوقا، الحوار المتمدن-العدد: 3670 – 17/3/2012.
  5. ابن منظور، لسان العرب، المجلد الخامس، باب (الهاء)، دار المعارف، القاهرة، ص 4729.
  6. محمد نافع العشيري، دور-اللغة-العربية-في-ترسيخ-الهويات-الوطنية، مجلة العربي/ العدد 683 لعام 2015م.
  7. Fearon, James D, What is identity (AS WE NOW USE THE WORD)?, Department of Political Science, Stanford University, November 3, 1999, p.5.
  8. أميرة كشغري، الهوية الثقافية بين الخصوصية والتبعية (مقاربة معرفية-اجتماعية)، ورقة عمل مقدمة في برنامج الفعاليات الثقافية المصاحبة لمعرض الرياض الدولي للكتاب، 2006. انظر إلى: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=113330
  9. فيصل الحيفان، اللغة الهوية، مرجع سبق ذكره، ص52.
  10. المرجع نفسه، ص 53.
  11. نبيل على، الثقافة العربية وعصر المعلومات، عالم المعرفة، عدد 265، يناير 2001، الكويت، ص 231، 232.
  12. محمد طواع، شعرية هيدجر: مقاربة أنطولوجية لمفهوم الشعر، منشورات عالم التربية، ط1، 2010. ص 74.
  13. مارتن هيدجر، الوجود والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2012، ص 312.
  14. حسن حنفي، الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون جامعة فيلادلفيا: العولمة والهوية، منشورات جامعة فيلادلفيا، ط1، 1999، ص37-38.
  15. محمد عابد الجابري، العولمة والهوية الثقافية، دار المنظومة، مجلة فكر ونقد، المجلد/العدد: ع6 فبراير 1998، ص15-16.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.