من بين الدول العربية كلها تتفرد لبنان بتربعها في صدارة قائمة الدين العالمي.

يقدر الدين العام اللبناني بـ 85 مليار دولار، أي ما يتجاوز 150% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعل لبنان في المرتبة الثالثة عالميًا من حيث نسبة المديونية العامة إلى الناتج الإجمالي.

ووفقًا لمعهد كارنيغي، فإنه ابتداءً من العام 1996، بات ثلثا أي دين جديد يستخدمان فقط لسداد أقساط الفائدة المستحقة على الدين القائم.

قد يعتقد البعض أن للأمر علاقة بالحرب الأهلية اللبنانية وميراثها المؤلم، لكن الحقيقة أنه منذ نهاية الحرب الأهلية ازداد الدين العام بنسبة 2120 في المئة.

يعود السبب في ذلك إلى السياسة الاقتصادية الجديدة التي انتهجها لبنان بعد اتفاق الطائف، سياسة رسم ملامحها الثلاثي: الحكومة اللبنانية، مصرف لبنان المركزي، وجمعية مصارف لبنان.

اقتصاد على شكل فقاعة

أدى اتفاق الطائف إلى تصميم نظام سياسي قائم على تحالف من القادة الطائفيين ورجال الأعمال والأمنيين، ومن ثم يستمد هذا النظام استمراريته، وشرعيته الجماهيرية، من توزيع الدخل والخدمات على شبكات مؤيديه.

فعلى إثر انتهاء الحرب، انهال على لبنان سيل من المساعدات، والاستثمارات الأجنبية، والتحويلات المالية، والمال السياسي، تحت غطاء إعادة الإعمار.

وبدلاً من أن تساعد هذه الأموال في إعادة تأهيل البنية الصناعية والإنتاجية في البلاد، ساهمت هذه المساعدات والاستثمارات في خلق اقتصاد ريعي قائم على المضاربات والربح السريع والسهل، اعتمادًا على قطاع الخدمات، الذي تجاوز حجمه الـ 80% من الحجم الكلي للاقتصاد اللبناني!

تمثل القطاعات المصرفية والسياحية والعقارية أعمدة الاقتصاد اللبناني، وهي أعمدة هشة بطبيعتهاـ

يقوم قطاع العقار اللبناني على المضاربات، تتجاوز أسعار الشقق في بيروت المليون دولار، بينما يعاني معظم اللبنانيين من عدم القدرة على توفير المسكن، نتيجة لهذه المفارقة تتخطى الكتلة المالية المجمدة بالسوق العقارية الـ15 مليار دولار.

إلا أن هذه الفقاعة على وشك الانفجار، انكمشت المعاملات العقارية مطلع العام الجاري بنسبة 38% وتراجعت أسعار الشقق السكنية بنسبة 20-40%، نتيجة لضعف الطلب.

إيرادات السياحة كذلك شهدت تراجعًا ضخمًا خلال السنوات الماضية إثر اندلاع الثورة السورية في 2011، تراجع القطاع السياحي بنسبة 35-40% وفقًا لوزير السياحة، واضطرت الكثير من الفنادق إلى الإغلاق وتسريح موظفيها.

أما القطاع المصرفي، الناجي الوحيد من براثن الحرب، فهو أس المصائب.

يحتل القطاع المصرفي اللبناني المرتبة الثانية من حيث حجم الأصول، بين القطاعات المصرفية للدول العربية غير النفطية.

ويعد القطاع المصرفي اللبناني أحد أكبر القطاعات المصرفية في العالم مقارنة بحجم الاقتصاد الوطني، حيث تبلغ الأصول المجمّعة للقطاع أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبنان.

يهيمن على هذا القطاع (مجموعة مصارف ألفا)، تتألف المجموعة من 16 مصرفًا لبنانيًا، تتجاوز حجم ودائع كل منها المليار دولار، وتضم على رأسها: بنك عودة، بنك لبنان والمهجر (BLOM Bank)، بنك البحر المتوسط (MED Bank)، البنك اللبناني الفرنسي، وبنك بيبلوس.

المال والسلطة: وجها الليرة المتماثلين

85% من الدين العام اللبناني هو ملك للمصارف اللبنانية، سواء البنك المركزي أو البنوك التجارية، قد يبدو هذا خبرًا سارًا في البداية، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل.

والتفاصيل هنا أن معظم البنوك اللبنانية تابعة لسياسيين كبار وعائلات نافذة، إن كان عبر المالكين أو مجالس الإدارة.

الأمر الذي تتبعه الأستاذ والباحث الاقتصادي في الجامعة الأميركية ببيروت جاد شعبان.

المثال الأكثر شهرة ووضوحًا هو عائلة الحريري، المستمرة في حكم لبنان لأكثر من ربع قرن.

تملك العائلة بالكامل بنك البحر المتوسط (MED Bank)، ويمتلك البنك بدوره نسبة 27% من الدين اللبناني العام.

تصرف الحكومة 32% من ميزانيتها على تسديد فوائد الدين العام، وفي ظل أسعار فائدة مرتفعة، يعود ذلك بالربح الوفير على المصارف، بالأصح على العائلات التي تملك المصارف.

وبالعودة لعائلة الحريري، نجد أنها قد حققت أرباحًا تتجاوز 100 مليون دولار من استثماراتها المصرفية، خلال الفترة التي قضاها سعد الحريري في رئاسة الحكومة.

العائلات النافذة هي التي تتولى المناصب الحكومية، والحكومة تقترض بأسعار فائدة مرتفعة من البنوك التي تملكها هذه العائلات.

ليس من الغريب أن نشهد المفارقة التالية: في الفترة التي هوى فيها النمو الاقتصادي من 8% في 2010 إلى أقل من 2% في المدة من 2011 إلى 2018، حافظ أكبر 14 بنكًا تجاريًا في لبنان على معدل أرباح يقارب الـ 7% سنويا طوال هذه الفترة.

مما زاد الطين بلة أنه خلال السنوات من 2005 إلى 2017 تعاقبت على لبنان حكومات تصريف الأعمال. بسبب التعطل النيابي، قامت الحكومة على مدى 12 عامًا بالإنفاق والاستدانة دون عرض الميزانية على البرلمان.

كانت النتيجة أن تضخم الدين العام ليصل لهذه الأرقام الفلكية، وإلى اليوم لم يراجع البرلمان حسابات وزارة المالية في تلك الفترة.

الضرائب: من الفقراء للأغنياء

في لبنان يتمتع الـ 1% الأغنى من السكان بحوالي 58% من الثروة. بينما لا يملك النصف الأفقر من السكان سوى أقل من 1% من إجمالي الثروة، ويعاني 10% من اللبنانيين من الفقر المدقع وفقًا لأوكسفام.

مستوى اللا مساواة في لبنان هو من بين الأسوأ في العالم، والسياسات الضريبية التي تنتهجها الدولة أحد أهم الأسباب لذلك.

في 1993 تم تعيين رياض سلامة حاكمًا لمصرف لبنان، قام سلامة بمشاركة رئيس الحكومة آنذاك، رفيق الحريري، بإرساء أسس النظام الاقتصادي القائم في لبنان، إلى يومنا هذا، بما في ذلك التوسع في الاستدانة، وتثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار.

في ذات العام قامت الحكومة اللبنانية بخفض الضريبة على شرائح الدخل العليا إلى معدلات تقل عن مثيلاتها في بعض الملاذات الضريبية العالمية.

هيكل الضريبة اللبناني معتل تمامًا. تشكل الإيرادات الضريبية من ثلاث ضرائب غير مباشرة: هي الضريبة على القيمة المضافة، ورسوم الاستيراد، والضريبة على الاتصالات، نحو 60 في المئة من إجمالي الإيرادات الضريبية في لبنان.

وبالطبع يقع عبء هذه الضرائب غير المباشرة على الطبقات الأفقر.

يرى الباحث عبد الحليم فضل الله، في مقاله بموقع الأخبار اللبناني، أنه بتحليل بيانات الدخل في لبنان، قَبل الضريبة وبعدها، موزعة على ست شرائح للدخل والإنفاق، أن الأثر الإجمالي للضرائب المباشرة وغير المباشرة على اللا مساواة هو زيادة فجوات الدخل بدلاً من خفضها.

في المقابل، لا تشكل الضريبة على الدخل، وهي ضريبة معقدة الحساب في لبنان إذ تتناول كل مصدر للدخل على حدة، سوى جزء محدود من الإيرادات الضريبية.

ووفقًا لليديا أسود، الباحثة في مركز كارنيغي، فإن ثروة مليارديرات لبنان شكلت في المتوسط 20 في المئة من مجموع الدخل الوطني بين عامي 2005 و2016، بالمقارنة مع 2 في المئة في الصين، و5 في المئة في فرنسا، و10 في المئة في الولايات المتحدة.

ربما كانت ضريبة تصاعدية، وبسيطة الحساب، على الدخل، بجانب سندات حكومية صفرية الفائدة، لتحول دون هذا الربح الفاحش، لكنها على الأقل كانت ستنقذ فقراء لبنان من دفع ثمن دين، استفاد منه أغنياؤه.

وبالطبع يأتي التقشف

مع تشكيل الحكومة اللبنانية عقب انتخابات 2018، أعلنت الحكومة عن عزمها اتباع مجموعة واسعة من الإجراءات لمواجهة أزمة الديون.

تشمل هذه الإجراءات تخفيضًا في رواتب موظفي القطاع العام وأجورهم ومعاشاتهم التقاعدية، كما تضم زيادة الضرائب على مجموعات مختلفة من السلع.

يأتي هذا تطبيقًا لأجندة المقرضين الدوليين الذين شاركوا في مؤتمر (سيدر) في باريس عام 2018. تعهد المشاركون بإقراض لبنان 11 مليار دولار، تموّل 250 مشروع بنية تحتية، بشرط معتاد: تنفيذ (إصلاحات اقتصادية).

تركز إجراءات الإصلاح هذه على خفض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب، لكنها لا تركز مثلاً على إصلاح الخلل الكبير في الميزان التجاري، والذي يعد أحد أهم أسباب مديونية البلاد الكبيرة.

فبنهاية العام 2017، بلغت قيمة واردات لبنان السلعية نحو 19.2 مليار دولار، مقابل صادرات سلعية لبنانية قيمتها 4 مليار دولار، ما رفع العجز التجاري إلى حوالي 30% من الناتج المحلي الإجمالي.

يعكس هذا تخلفًا في هيكل الإنتاج، خاصة قطاع الصناعة الذي يشهد تراجعًا سنويًا مستمرًا، دون أن يفكر رجال السياسة والمال في إنقاذه وضخ استثماراتهم فيه، كمصدر مستدام للربح والنمو الاقتصادي.

مأساة لبنان وأزمته هي في الحقيقة أزمة الشعوب العربية كلها.

ليس فقط لأن العرب شعب واحد تعددت أقطاره، بل لأن اقتصاد لبنان الريعي، والمعتل، هو نموذج متقدم لما يروج له في البلدان العربية على أنه (إصلاح اقتصادي) منشود.