لم يعرف لبنان ثورة من ذلك النوع الذي عرفته سائر البلدان العربية في العام 2011، لكن عوضا عن أن يكون ذلك تأكيدًا للاستثناء اللبناني الذي لطالما حرصت أطراف لبنانية مختلفة على إبرازه، كل لغرضه، يبدو أن ثورة كانت تعتمل منذ ذلك الحين في قلب ذلك المجتمع. عانى الاقتصاد اللبناني منذ العام 2010 تدهورًا مستمرًا، فقد تراجع معدل النمو من 10% في 2010 إلى 1% في 2018، كما تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي معادلًا بالقوة الشرائية من حوالي 14400 دولار في 2010 (مقارنة بحوالي 10000 دولار للفرد في مصر آنذاك)، إلى 11600 دولار في 2018 (مقارنة بحوالي 11000 دولار في مصر في نفس العام).

لا يمكن فهم ما يحدث في لبنان اليوم سوى بمعرفة تكوينه كلبنان ما بعد الحرب الأهلية. رفيق الحريري كان بطل تلك المرحلة باا شك، وهو مؤسس هذا اللبنان الذي نعرفه اليوم. في عام 1992، تولى رفيق الحريري لبنان الذي كان بلا اقتصاد تقريبًا، وفي غضون عامين فحسب، ارتفع معدل النمو ليبلغ 8%، تحسنت العملة، تراجعت الأسعار، خُفّضت الضرائب، وأُعيد بناء بيروت ضمن مشروع الحريري الطموح لإعادة الإعمار «هورايزون 2000»، وكان تأسيس سوليدير (الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت) عام 1994 بمثابة الانطلاقة الحاسمة له. سَبَق وسط بيروت (الداون تاون) دبي وغيرها من المدن الأيقونات في عالم النيوليبرالية: المدينة السياحية التي لا يزاحم الترفيه فيها سوى المصارف وأسواق المال.

رفيق الحريري لبنان ينتفض
الرئيس اللبناني الراحل «رفيق الحريري»

لكن بناء الملاهي والفنادق الفارهة والمصارف الأنيقة لم يكن ممكنًا سوى بتدفقات مالية لم يكن يملكها لبنان. تلك كانت الحقيقة المسكوت عنها، وما لا يحب اللبنانيون، أو كثير منهم على الأقل، أن يصارحوا أنفسهم به. بُنيت لبنان ما بعد الحرب بمليارات تدفقت من الخارج؛ السعودية وحدها تكفلت بـ 70 مليار دولار منها بين عامي 1992 و2015، فضلا عن دعم واسع من فرنسا وسائر بلدان الخليج، وتعاون واسع مع الجارة الكبرى سورية. كانت لبنان، حديقة العرب الخلفية، الجوهرة التي لا بد للسعودية أن تضمها إلى عقد زعامتها العربية التي انتزعتها بعد كامب ديفيد.

ليس من الضروري هنا الخوض في تفاصيل ذلك الطريق الطويل نحو سنغافورة الشرق الأوسط أو لبنان المستقبل كما بشر به رفيق الحريري، يكفي فحسب أن نقول أن عوامل كثيرة كان لا بد أن تقطع نهر المساعدات والقروض والتدفقات المالية الذي روى هذا الوضع. كان اغتيال الحريري الأب في 2004 إيذانًا بنهاية حقبته التي امتدت لأكثر من عقد، لكن الدَفعَة التي خلقها ذلك العقد لم تتوقف إلى العام 2011. في 2011، كان عالم جديد يُخلق لا يمكن أن تستمر فيه لبنان الحريري، وبيروت الداون تاون، واقتصاد النيوليبرالية السنغافوري النموذجي.

تراجعت التدفقات الخليجية مغاضبةً حينًا من نفوذ حزب الله الإيراني، ومنشغلةً حينًا بمعارك أخرى في سوريا واليمن ومصر وليبيا، وقاصرةً أخيرًا عن مواصلة الدفع بلا حساب إذ أن الأيام دالت على الثري الخليجي صاحب القروض الحسنة الذي صار عليه اليوم أن يمد يده بعد تراجع أسعار النفط. فجأة، صار لبنان، مصرف العرب الكبير وبوابة أموالهم التي لم تنغلق حتى في أيام الحرب، خاضعًا لعقوبات الخزانة الأمريكية بسبب حزب الله، ولم يعد في باريس صديقًا للحريري الابن كما كان شيراك للأب. والجارة الكبرى ظلت، بعد اندلاع الثورة فيها، معضلة للداخل اللبناني رغم انسحاب جيشها منه.

لكن نهاية لبنان ما بعد الحرب لم يكن يعني العودة إلى لبنان الطوائف وأمراء الحرب والميليشيات. خلقت النيوليبرالية الحريرية مجتمعها أو كادت. يقولون أن الحريري بنى بيروت بينما أهمل سائر لبنان، لكن أحدًا لا ينكر أن قدرًا من الحظ نال الجميع بغض النظر عن عدالة التوزيع. صار في لبنان طبقة وسطى عابرة للطوائف، تنشغل بالتعليم والعمل والإثراء والمهنة والسفر عن سلاح الطائفة وحربها، وهي تريد إنصاف الدولة، لا دفء الطائفة، وكفاءة البيروقراطي لا نزاهة شيخ الملة. لم يعد الماروني أفندي لبنان الوحيد، فاليوم ثمّ أفندية سنة، ولم يعد كثير من الشيعة «محرومين» كآبائهم، ولم تعد «الفينيئية» حصرية على السيد باسيل وأتباعه. لا تدعو تلك الصورة إلى التفاؤل وإنما إلى فهم أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر، وأنك لا تنظر إلى النهر الواحد مرتين.

إصابات مباشرة: أزمة العهد

إذا كانت هذه هي الصورة الكبيرة فما هي الصورة الصغيرة؟ قبل عدة أعوام، تغيرت خريطة القوى السياسية/الطائفية في لبنان. عاد العماد ميشيل عون ليكون رجل المارون الأقوياء، وليكون صهره جبران باسيل رجل الحكومة القوي. وجد حزب الله في التيار الوطني الحر (عون) حليفًا مارونيًا يوفر غطاء دوليًا ودعمًا رسميًا ضروريًا للحزب، ووجد عون في الحزب ظهيرا محليا لا يمكن اللعب بدونه. الحريري نزل على موازين القوى القائمة التي يفرضها سلاح الحزب وتحالفاته المتماسكة. أدى ذلك إلى الاتفاق الرئاسي الشهير في أكتوبر/تشرين الأول 2016، لعون الرئاسة وللحريري الحكومة، وللحزب التحكم دون الحكم.

ما حدث في الانتخابات البرلمانية الأخيرة أظهر أن القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع نجحت في منافسة التيار الحر على ثقة الطائفة، فتقلص الفارق جدا بين الحزبين. حزب الله بدا اللاعب الأعقل وفرس الرهان الرابح دوما، فتقدم كثيرا برفقة حلفائه من السنة. أما الحريري، فقد حصد ثمار ضعفه وتردده بهزيمة انتخابية ساحقة. لكن ما بدا خسارة آنذاك، قد يكون فرصة تاريخية للحريري اليوم.

شكل الحريري حكومته في يناير/كانون الثاني الماضي بعد ابتزاز شديد من حزب الله والتيار الوطني الحر (الذي أصبح اسمه البرلماني كتلة «لبنان القوي» واشتهر باسم «العهد») أدى إلى أن يكون ضمن الحكومة الثلاثينية العدد نحو 11 وزيرا من التيار الوطني الحر وحده، فضلا عن الوزراء الشيعة الذي يؤمّنون لقوى 8 آذار (حزب الله وحلفائه أمل والتيار الحر) أغلبية حكومية مريحة على غرار أغلبيتهم البرلمانية وهيمنتهم الفعلية؛ حيث يبدو جبران باسيل رئيس الوزراء الفعلي لا الحريري.

رغم أن شعار المظاهرات «كلّن يعني كلّن»، ورغم أن هجوم أبناء الطوائف الحاسم على رؤسائهم التاريخيين كما حدث مع الرئيس بري في صور، ومع الرئيس ميقاتي في طرابلس، ومع عون نفسه في بعبدا،  يعني أن ثمة إرادة شعبية فعلية لتجاوز لعبة الكراسي الموسيقية بين زعماء الطوائف وأحزابها وصولا إلى حزب الله الذي حاول أن يتخفى كثيرا وراء شعار المقاومة؛ إلا أن الواقع لا يسمح بتحقّق هذا الشعار قبل انتخابات برلمانية جديدة، وقبل أن تنشأ قوى سياسية جديدة عابرة للطوائف، وهو حلم بعيد المنال.

أما اليوم، فيبدو «العهد» الخاسر الأكبر الذي ستنصب عليه وعلى رجله في الحكومة جبران باسيل، لعنات الجميع. يحاول خصما العهد، القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع من المارون، والتقدمي الاشتراكي ورئيسه وليد جنبلاط من الدروز، استغلال الأزمة لإسقاطه. جعجع يسعى لحصد أراضٍ جديدة داخل طائفته يكسر بها أغلبية التيار الوطني النسبية.

أمام الحريري في المقابل فرصة تاريخية لاستعادة هيمنة أبيه وفرض نفسه على الطاولة، خاصة إذا صدقت الوعود السعودية بقروض ومساعدات جديدة لحكومته. يمكن للحريري أن يقدم نفسه ضحية لابتزاز العهد وتحالف 8 آذار بين نصر الله وعون وبري، وهو التحالف الذي لم يقدم شيئًا للجماهير إلى اليوم رغم قوته، بينما تبدو بقايا قوى 14 آذار (القوات اللبنانية والتقدمي الاشتراكي) بانتظار فرصة لاستعادة ذكريات الحريري الأب.