لا تزال المأساة الفلسطينية حاضرة في السرد العربي بقوة، ولا يزال الأدباء والروائيون قادرين على أن يجددوا وينوعوا في طرق عرض تلك المشكلة بأبعادٍ مختلفةٍ ومتباينة. ليس أدل على ذلك من وصول أربع روايات فلسطينية -ربما للمرة الأولى- إلى القائمة الطويلة لجائزة «بوكر العربية» هذا العام، وهي روايات «حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصر الله، و«الحاجة كريستينا» لعاطف أبو سيف، و«علي قصة رجل مستقيم» لحسين ياسين، وكذلك رواية «وارث الشواهد» لوليد الشرفا، وهي الرواية التي بين أيدينا اليوم.

يكون الرهان قويًا وكبيرًا في ظني حينما يكون الموضوع مطروقًا ومعروفًا مثل تلك المأساة وهذه القضية الكبرى، فماذا يمكن أن يقال فيها بعد كل ما قيل؟ كيف يستطيع الكاتب أن يخلص من إرثٍ طويل من القصص والحكايات، ويعيد إنتاج أو خلق رواية جديدة مختلفة كليًا عمّا سبقه، بل يتمكّن من خلالها من مجاراة عددٍ من الكتّاب، بل التفوق عليهم أيضًا!.

لعل هذا هو السؤال الأوّل الذي ألح على الروائي «وليد الشرفا»، وهو الأستاذ الجامعي المتخصص في النقد الروائي أصلًا، والذي أعد رسالة الماجستير عن «بواكير السرد في الرواية العربية»، ولا شك أنه على وعيٍ ودرايةٍ واطلاع بالكثير من الروايات ذات الشأن الخاص الذي سينطلق منه.

لهذا فهو يقدّم الرواية إلى القارئ بطريقة ذكيّة مباشرة، وبرسالة واضحةٍ يقول فيها إن «القارئ شريك في المعجزة لكنه ليس شريكًا في الإثم»، لينتقل إلى حكايته بشكلٍ مباشر، وعبر تقنية الراوي المشارك الذي يحكي ما حدث له بضمير المستقبل «سأفعل» لكي يشعر القارئ أنه ينتظر نتائج هذه الأفعال التي يقوم بها الرواي في الحكاية، وليكتشف فيما بعد أنها قد انتهت بالفعل!

هل يمكن أن نهرب من أصولنا وهوياتنا؟ هل نتخلّص فعلًا من شعورنا بالإثم والحرج؟ هل يمكن للعدو أن يكون صديقًا؟ ألم يمض الكثير من الوقت والصراعات والدماء التي يمكنها أن تجعل اليهود شركاء في الأرض والحياة بالفعل؟ ألا يمكن أن يعيش القاتل مع قاتله في سلام أخيرًا؟

أسئلةٌ كهذه وأكثر منها بالتأكيد تطرحها رواية «وارث الشواهد» بذكاء، وبطريقة غير مباشرةٍ بالطبع، ولكن من خلال حكاية بطل الرواية «الوحيد» الذي يجد نفسه أسير ماضيه ومستقبله معًا.

ذلك الشاب الذي فوجئ منذ تفتّح وعيه بأنه ابن الشهيد، وأرادت له أمه أن يبعد عن كل هذه الحروب والدماء لكي لا تفقده كما فقدت والده، فإذا به يعود إلى مصيره مرة أخرى، وإذا به فجأة قاتلًا ومحكومًا عليه بالإعدام، وإذا بالأسئلة كلها تتقافز أمامه من جديد مرة أخرى، وإذا بالشواهد الحجرية الصمّاء تستصرخه، وتذكره بكل هذا الماضي الذي ظن أنه هرب منه بدون جدوى!

سيأتي إليّ بشارة بعددٍ من الصور لجبل القفزة الرهيب، سترى دون أن ترى آثار يدي الرب وقدميه قبل الغياب، وسترى أفق مرج ابن عامر وسترى صورًا لعكا والبحر، ومسجد الجزار سأشم رائحة الماء وسأسمع خريره وأغاني الصيادين، وهمسات المساء على شرفات المنازل.. سأرى جدي في المكان عندما يعرض الصور الأولى لعين حوض، سأرى اللافتات بالعبريّة وتماثيل ولوحات ومنحوتات، وسيهبط قلبي عندما أرى البحر حصتنا، الموازي لبيتنا.. سأفهم لماذا لم تهدم إسرائيل عين حوض، وتركتها قريةً للفنانين؟ سأرى ضباب البحر، سأتحسس شاشة الكمبيوتر الباردة وسأشم رائحة عرق جدي وحكايته من بين الزجاج والضوء.. سيقترب مني بشارة ويهبط فوق رأسي ويقول أصبح اسم الشارع «شارع العتصمئوت» التي تعني الاستقلال بالعبرية، سأقول له «هل تصنع الأسماء الجديدة الحالات القديمة؟ منذ بابل وهم يسرقون الأسماء بعد الأمكنة وقبلها، ولكن الحلم والذكريات التي تعجن المكان وتشكله لا تورّث يا بشارة، لا تورّث، أليس كذلك؟»

قسّم «الشرفا» روايته على ثلاثة أقسام، أولها وهو القسم الأكبر بعنوان «ما لم يتم تدوينه» على لسان بطل الرواية الذي يحكي حكايته بضمير المستقبل، وكأن الحكاية لما ترو بعد أصلًا. ثم يأتي القسم الثاني على لسان الطبيب «بشارة»، صاحب «الوحيد» الذي يحاول أن يتفهّم حالته ويشرحها أو يعيد تفكيكها للقارئ. في نهاية هذا القسم عرضٌ موجز لعدد من الشهداء الفلسطينيين الذين جرى استهدافهم بشكل خاص في أماكن متفرقة سواء داخل فلسطين أو خارجها.

وفي القسم الثالث والأخير، ينقل الطبيب شهادة زوجة الوحيد «ربيكا» التي تعد أكثر أجزاء الرواية شاعريةً وتكثيفًا، حيث يعرض فيها الكاتب الحالة من وجهة نظر الزوجة التي يفترض أن تكون محايدة، ولكنها تفاجأ بنفسها متورطة ومتعاطفة إنسانيًا مع زوجها الذي ربما يقضي حكمًا بالإعدام في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وفي آخر صفحات الرواية تأتي كلمات الابنة «جوليانا» التي تتحدث بلسانها ثم لسان أم الوحيد. وهما الشخصيات النسائية الوحيدة في الرواية منذ بدايتها.

لم تكتفِ الرواية بالقضية الرئيسية التي تناقشها، أو التي تتعرّض لها بأحداثها وشخصياتها، ولكنه يتطرّق أيضًا لأفكار خاصة بالبناء الروائي نفسه، وعلاقة القارئ -كما أشرنا في المقدمة- بالأحداث، كما يتناول فكرة كون الراوي مؤرخًا للأحداث بعرضه وتوثيقه، وكيف تكون مهمّة الشخصيات التي نراها مشاركةً في الأحداث بين صفحات الرواية مهمة شاقة حينما يتعلّق الأمر بمصير أمةٍ وشعب وليس فقط مصير شخصٍ تجري محاكمته.

وهكذا استطاع «وليد الشرفا» أن ينسج روايةً محكمة تدخل إلى أعماق المأساة الفلسطينية عبر شخصياتٍ إشكالية، وتناقش قضايا التغريب والتهجير، وتطرح أسئلة الاحتلال والظلم وحق العودة، ويتم كل ذلك بشكلٍ مكثفٍ وشاعري، حيث لم تتجاوز صفحات الرواية الـ 160 صفحة، ولكن لا شك أنها ستبقى في ذهن القارئ طويلًا.

وليد الشرفا أكاديمي فلسطيني، حاصل على الماجستير في الرواية عام 2000، كتب روايته الأولى عام 1991 بعنوان «محكمة الشعب»، وصدر له «القادم من القيامة» عام 2013، كما أعد دراسة حول الخطاب السياسي وعلاقته بالسلطة في كتاب «الجزيرة والإخوان» عام 2013 أيضًا. وروايته «وارث الشواهد» صادرة عن دار الأهلية ووصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2018.