في أكتوبر/تشرين الأول الماضي كان مراسل وكالة «دويتشة فيله» الألمانية «جوناثون هاردينج» على موعد للقاء الموهبة الإسكتلندية المتألقة «أوليفر بريك» بعد أن فضل النجم الشاب الانتقال لشرق ألمانيا والتوقيع للنادي حديث العهد «لايبزيج» عن اهتمامات أندية أخرى.

«أوليفر» جلس بهدوء ينم عن ثقة، يعتلي قميصه شعار ناديه الجديد الذي يشبه تمامًا بغير مصادفة شعار الشركة النمساوية الشهيرة «ريد بول»، يعترف بنفسه أن أصدقاءه لم يدركوا وجود نادي اسمه «لايبزيج» لكنه يشرح دوافع اختياره بفضل نظام النادي واهتمامهم بأدق التفاصيل وإعجابه بأسلوب اللعب، هذه الثقة تتبدد ويبدأ الارتباك بمحاصرة الشاب حين يسأله «هاردينج» عن تكلفته المادية!

الصغير «أوليفر» الذي أصبح أغلى لاعب إسكتلندي بانتقاله لنادي صعد لتوّه للبوندزليجا يرد سريعًا «إنها كُرة القدم.. هكذا أصبحت!»، أحيانًا لا تحتاج أن تكون خبيرًا لتدرك التوسع الذي حازته شبكة وكلاء اللاعبين خلال السنوات الأخيرة..

بعد بضعة أسابيع، كان أحد مشجعي «بايرن ليفركوزن» يعبر عن الغضب الذي يدور داخل مئات الآلاف من رواد البونديزليجا حيال «لايبزيج» لما يظنوه من حملة تستهدف قيمة الدوري الألماني وتنتصر لتغوّل الشركات في مقابل الأندية الجماهيرية، المشجع حاول تحطيم واجهة حافلة «لايبزيج» قبل أن يخرج مدرب الأخير بتصريح بحسب يوروسبورت قال فيه: «أحدهم فشل بتحطيم الزجاج الأمامي من مسافة 2 متر فقط، أنصحه بالمحاولة مع الزجاج الجانبي المرة القادمة، علّه ينجح».

وأخيرًا قبل أيام، خرج الرجل الذي استعد جيدًا لهذا الموسم «توماس توخيل» بتصريح ناري يؤكد فيه ضرورة الالتفات لتجربة النادي الذي يتربع على القمة المحلية حين قال :«يجب أخذ لايبزيج بشكل جدي، الأمر يشبه ما حدث بإنجلترا بالعام الماضي، نعم أقصد ليستر سيتي»!

هذا التسلسل الإخباري الذي لم ينل الاهتمام الجماهيري الكافي يؤكد أننا نشهد موسمًا مختلفًا، قد تبتعد التوقعات خلاله عن ثنائية «بايرن ودورتموند» وتمنح الفرصة لصعود أسماء جديدة بآفاق أحد أكبر الدوريات العالمية.


كيف بدأت القصة؟

خلال مطلع الألفية، قررت إدارة شركة مشروب الطاقة الأشهر الاستثمار في عالم المستطيل الأخضر، بدأت «ريد بول» بشراء أسهم النادي النمساوي «سالزبرج» عام 2005م ثم انطلقت للتغوّل بالبرازيل وأمريكا وأخيرًا اتخذت الخطوة الأهم بالتوجه نحو ألمانيا لضم نادي جديد عام 2009م.. ولكن لماذا ألمانيا بالتحديد؟

ناهيك عن صفات العراقة والموهبة التي تلحق بأنديته ولاعبيه، فإن البوندزليجا يعد ملعبًا هامًا بعيدًا عن استثمارات الخليج واهتمامات الصينيين وتعيش التنافسية فيه أغلب الوقت بين ثنائية معروفة، لذلك فإن الاستثمار بألمانيا بدا منطقيًا عن محاولة تكرار تجربة «السيتي» بإنجلترا، أو مزاحمة الصينيين بإيطاليا، وبالطبع لن ينال أحد بريق صحوة الباريسيين مجددًا في فرنسا.

وقع اختيار الشركة على نادي ينافس بالدرجة الخامسة بمدينة كـ«لايبزيج» لا يبدو على سكانها الهوس الكروي، خطوة ظن الكثير أنها غير موفقة، لكن الأيام أثبتت صحّة القرار، السبب كان رغبة الشركة في تأسيس فريق يبني قوته على أساس الخبرة والتطوير وجذب المواهب الصغيرة لغرس قيمة الانتماء فيهم بالإضافة لتوفير أفضل مناخ على الإطلاق لفريق لن يجد منافسة شرسة.

التحدي الأبرز الذي واجه «ريدبول» هو قوانين البوندزليجا التي تحد من صلاحيات المستثمر بعد حصوله على رخصة النادي مقارنة بدوريات أخرى، فمثلًا يُمنًع إدراج اسم المستثمر بجانب النادي بالإضافة للقانون المعروف بـ«50 + 1» وهو الذي يلزم إدارات الأندية بإشراك الجماهير أثناء اتخاذ القرارات الكبري، لكن «ريدبول» تحايلت على أغلب تلك العوائق والتي كان آخرها مضاعفة الاشتراك الجماهيري ليصل خلال عام 2014 ل800 يورو سنويًا مقارنة بـ 60 يورو للعملاق بايرن ميونخ!

تسارعت خطوات الثور الأحمر، فاستطاع الصعود لدرجات أعلى، لكن النادي كان بحاجة شديدة لمن يرسم طريقًا واضحا ويمتلك خطة حقيقية للوصول للهدف الذي عبر عنه عام 2011 الرجل الأول بـ«ريدبول» ومالك الشركة «ديتريش ماتيشيتز» وهو الوصول للبوندزليجا خلال 5 سنوات وخوض منافسات التشامبيونز ليج، «ماتيشيتز» وجد ضالته في «رالف رانييك» مدرب «شتوتجارت» السابق!

«رانييك» الذي عمل مدربًا منذ عام 85 بعد أن قضى 10 سنوات كلاعب يعرف دهاليز البوندزليجا كما يعرف كف يده، عام 2012 تم تعيينه مديرًا رياضيًا بميزانية وصلت لـ100 مليون يورو ولكن بشروط ومعايير لاختياراته، صلاحيات «رانييك» امتدت أحيانًا ليتولى الإدارة الفنية للفريق.

نجح «رانييك» بمهمته في أقل من 5 أعوام، حقق الصعود للبوندزليجا بفريق شاب شديد الموهبة والنديّة والقدرة على الإنجاز، كما نجح رهانه على مضاعفة الحضور الجماهيري كلما تقدمت نتائج الثور الأحمر ليتمكن من استقطاب أكثر من 43 ألف مشجع خلال مباراة صعود «لايبزيج» للبوندزليجا لتبدأ مرحلة جديدة مع المدرب الواعد «رالف هاسينهوتيل»؛ الجانب الأفضل بالقصة بالنسبة لـ«ماتيشيتز».

http://gty.im/494518130


نجاح تسويقي أم انهيار لقيم الكرة الألمانية؟

الباحث بروس هايجس، مؤسسة الثقافة الجماهيرية التابعة لجامعة فورتسبورج.

تصريح «بروس» تحول لحقيقة بعد أن قاطعت جماهير «بورسيا دورتموند» مبارة فريقهم أمام «لايبزيج»، وتظاهر جمهور «ليفركوزن» كما «كولن» بدوافع الحفاظ على فرص الأندية الجماهيرية في مواجهة الكرة الحديثة التي أطلقت العنان للسوق والمستثمر، خصوصًا بعد إدراك أن منافسة «لايبزيج» على القمة لا تبدو أمرًا مستبعدًا!

التظاهر الجماهيري ضد «لايبزيج» لم يظهر للمرة الأولى بدوري الدرجة الأولى، بل إن جماهير أندية الدرجات الدنيا كـ«اتحاد برلين» و«دينامو دريسدين» كانت أكثر عدائية.

كل تلك القطاعات الجماهيرية تستبعد «لايبزيج» أن يكون منتجًا للكرة الألمانية التي تحترم التجربة التراكمية والدفع الجماهيري، بالإضافة إلى اعتقاد راسخ بعدم المساواة لصالح الثور الأحمر المدعوم من عملاق اقتصادي منحه في لمح البصر بطاقة التأهل للدرجات العليا فيما تكافح تلك الجماهير منذ سنوات طويلة خلف أنديتها، ردّة فعلهم مفهومة للغاية.

http://gty.im/499325982

على جانب آخر خرجت بعض الأصوات المؤيدة لمشروع «ريدبول» كالمحلل «ماتياس كيسلنج» الذي أكد أكثر من مرة على التزام الشركة بمعايير كرة القدم الحديثة مُشيرًا لحجم الإنفاق الضخم الذي تم خلال الصيف الماضي بين كبرى أندية العالم جماهيرية، «كيسلنج» لفت الانتباه إلى أن «ريدبول» سيمنح البوندزليجا أعلى استقرار استثمارى كما سيقفز بالتسويق الرياضي الألماني لمستويات كبرى، وأنهى حديثه لصحيفة الجارديان بتمنيه ألا يستجيب أي من سكان شرق ألمانيا لدعوات مناصري الأندية التقليدية على حد تعبيره، نبرة «كيسلنج» أتاحت لنا فرصة تخيّل ألمانيا في وجود سور برلين.

أما الجريدة المحلية «ليبزيجر فوكسزتنج» فقد نشرت نتائج استطلاع الرأي لسكان «لايبزيج» عن مدى رضاهم بتجربة النادي الجديد وقد أبدى أكثر من 75% من المشاركين سعادتهم بما حققه الفريق وبمستويات اللاعبين الصغار الذين شهدوا تطور مستواهم مع تمنياتهم بمشاركة قريبة بذات الأذنين.

بدون شك فإن إدارة «لايزبيج» لن تمنح الجمهور صلاحيات المشاركة بالقرارات الهامة وستكتفي بالسعي خلف استراتيجية الشركة الممولة، لكن الحقيقة والأرقام تبرز تحول غير مسبوق في المدينة بمتابعة كرة القدم وسعادة بالإنجاز الذي يحققه فريق ينتمي إليهم، أما على مستوى اللعبة فإن الإضافة الفنية التي منحها الثور الأحمر لا يمكن إغفالها بتسجيل 23 هدفًا وبتحقيق 8 فوز من أصل 11 مواجهة بلا أي هزيمة، كما يؤكد محلل شبكة يوروسبورت «فلوريان بونر» فإن «ريدبول» لا تلقي أموالها في الأرض، على العكس يمتلكون أحد أفضل أكاديميات الشباب وتعليم الكرة في أوروبا مما سيمنح منتخبات شباب ألمانيا لاعبين بجودة عالية.


أسلوب اللعب: 2-2-2-4

في دولة كألمانيا، القاعدة الجماهيرية تستمد هُويتها من تاريخ النادي، لذلك يبدو ريدبول كخط أحمر للعديد من المجموعات الجماهيرية، تجربة لايبزيج لم تُكمِل عشر سنوات لكن النادي يستطيع شراء أي شئ وبالتالي تحقيق الكثير!

الملحوظ أن أغلب الانتقادات لم تتطرق لأسلوب لعب «لايبزيج»، فلم يتهمه أحد بتقديم كرة قدم سيئة أو أسلوب لعب رديء لأن بالفعل « رالف هاسينهوتيل» نجح بعد أن اختاره «رانييك» في الحفاظ على ثقافة الاعتماد على العناصر الشابة بحيث لا يتجاوز متوسط أعمار الفريق عن سن 23 عامًا مقدمًا أسماء تظهر للمرة الأولى على الساحة العالمية كما استطاع صناعة فريق يلعب ككتلة واحدة وقليلًا ما تنعزل خطوطه سواء أثناء بناء الهجمة أو أثناء استخلاص الكرة من الخصم، «لايبزيج» ينتج أسلوب لعب جريء يسعى لمباغتة الخصم باستخلاص سريع للكرة والتسجيل في مرماه وليس الانكماش في منتصف ملعبه.

يلعب المدرب صاحب الأصول النمساوية بأسلوب لعب 4/2/2/2 ويعتمد على الضغط العالي الذي يبدأ ببناء حائط صد أمام خط وسط الخصم ليجبر ظهيري طرف الخصم على النزول لاستلام الكرة من المدافعين، حينها يبدأ «هاسينهوتيل» بخنق منافسه عن طريق ضغط شرس مستغلًا خط التماس لإغلاق زوايا التمرير وإجبار الظهير على اتخاذ القرارات الخاطئة، الكثافة الدائمة في منتصف الملعب أثناء تحضير الخصم الهجمة سمة رئيسية أخرى يعتمد عليها الثور الأحمر، الهدف من ذلك هو إجبار الخصم على إرسال الكرات الطولية وإفساد عملية تحضير الهجمة برمتها.

أما هجوميًا فإن الفريق يعتمد على اللعب الطولي السريع الذي يساهم حسن الانتشار لرباعي الوسط مع الثنائي الهجومي في زيادة فاعليته، في أحيان كثيرة تفشل دفاعات الخصم في السيطرة على تحركات لاعبي «لايبزيج» المختلفة بحيث يتسلل أحد لاعبي الوسط للتسجيل بدون مراقبة بفضل انشغال المسّاكين مع مهاجميهم،مذاق من جيجن بريسنج كلوب لايزال موجودًا بألمانيا!

العشرون متر التي تأتي بعد منطقة جزاء الخصم تعتبر أهم ما يشغل «هاسينهوتيل» بحيث يرتبط نجاح أحد لاعبيه في استلام وتسليم الكرة بانضباط للاعبي الطرف أو الهجوم مؤشرًا أساسيًا على نجاح الهجمة وبالتالي التسجيل!

المثير أن «هاسينهوتيل» نجح خلال مبارياته مع «دورتموند، بريمن، ماينز» في فرض ذلك الأسلوب بل والتسجيل من خلاله..

http://gty.im/516488490

أبرز نجوم الفريق هم: «نابي كيتا» لاعب وسط الملعب الغيني الذي يعد حاليًا أحد أكثر اللاعبين تميزًا باختراق خطوط وتكتلات الخصم، السبب يعود لسرعة ومهارة اللاعب صاحب الـ 21 عامًا والذي نجح بالتسجيل في مرمى «بورسيا دورتموند وفيردير بريمن».

أمام «كيتا» يلعب صانع الألعاب المهاري «فورسبرج» العقل المدبر لغالبية هجمات الفريق، يتميز اللاعب السويدي برؤية الملعب وخلق المساحات وصناعة الفرص بحيث صنع خمسة أهداف إلى جانب التسديد الذي استطاع من خلاله تسجيل خمسة أهداف في 10 مباريات، أرقام مبهرة للسويدي.

وأخيرًا تلعب الموهبتان المنطلقتان بسرعة الصاروخ في مركز الهجوم؛ الثنائي «يوسف بولسين» و «تيمو فيرنر» يمتلكان كل ما يحتاجه أي مهاجم من الطراز الأول، سواء بدنيًا أو فنيًا بالإضافة إلى درجة الانسجام المرتفعة فيما بينهما وبين لاعبي الوسط، الثنائي سيكون له مستقبل باهر.

أما نقاط الضعف الرئيسية هي فشل خط دفاع الفريق في التحكم بالمساحات الشاسعة أثناء ارتداد هجومي خاطف للخصم بالإضافة لسهولة الاختراق أحيانًا، حارس المرمى هو الآخر ضعيفًا للغاية في التعامل مع الكرات العرضية أرضية كانت أو هوائية، ربما نتوقع تدعيمًا في يناير/كانون الثاني المقبل.

المراجع
  1. مسيرة لايبزيج وتصريحات فلوريان بونر- يوروسبورت
  2. مستقبل لايبزيج بالبوندزليجا ومواجهة العداء الجماهيري
  3. كيف أصبح لايبزيج أكثر نادي كراهية في ألمانيا؟
  4. طموحات مؤسس ريدبول ماتيشيتز مع لايزبيج
  5. دور رالف رانييك المدير الرياضي للايبزيج
  6. نتيجة إستطلاع رأي الجريدة "لايبزيجر فوكسزتنج" عن مدي رضا مواطني المدينة عن تجربة النادي الجديد