وُلدت السيدة خديجة (رضي الله عنها) في مكة قبل ولادة النبي بـ 15 عاماً، وعلى وجه التقريب عام 556م. نشأت وترعرعت في بيت جاه ولُقِّبت بـ «الطاهرة» قبل الإسلام. [1] ويعود نسبها إلى قبيلة قريش، وكانت تتسم برجاحة العقل، وعمِلت بالتجارة حيث حققت نجاحاً غير مألوف حينذاك، وكانت قافلتها أكبر من قوافل كل تجار مكة مجتمعين. ولم تكن تسافر مع تجارتها بل كانت تُعيِّن لها وكلاء، ومن ضمنهم محمد (صلي الله عليه وسلم)، وخاصةً أنه كان معروفاً بـ «الصادق الأمين»، ولا شك أنهما كان أهم صفتين للعمل في التجارة.

بعثت خديجة إلى محمد (صلي الله عليه وسلم) فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام وستعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مع غلام يُقال له «ميسرة»، وعندما أقبل بعد رحلة الشام وجدت أن تجارتها قد ربحت ضِعْف ما كانت تربح [2]. وقد لاحظت فيه دماثة الخلق، فقد كان النبي مُحباً للإنسانية بل هو الإنسانية في أجلّ صورها، فكانت تراه وهو يعاون عبيدها ويربت على الإبل في حنان دافق، فتحس كأنما رقته قد أهاجت مكامن الرقة في نفسها. [3]

رأت من محمد (صلي الله عليه وسلم) ما لم تره من قبل، فاستحوذ على قلبها دفعة واحدة، إلى أن ساق الله لها رؤية جاءت كنسيم يداعب قلبها، فخفق بشدة. وقد رأت وكأن «شمساً عظيمة تهبط من سماء مكة لتستقر في دارها وتملأ جوانب الدار نوراً، ويفيض ذلك النور من دارها ليغمر كل ما حولها بضياء يبهر النفوس قبل أن يبهر الأبصار». [4]

فاستيقظت فإذا بالليل لا زال يُرخي أستاره على مكة، فانتظرت بشوقٍ حتى سطع نور الفجر على الطرقات، وهرعت بخطواتٍ لاهثة إلى ابن عمها «ورقة بن نوفل» حيث كان عاكفاً على قراءة الكتب السماوية، وروّت له ما رأت فقال لها:

أبشري يا ابنة العم، لو صدقت رؤياكِ ليدخلن نور النبوة دارك، وليفيضن منها نور خاتم النبين. [5]

فراحت تتساءل عن صفات خاتم النبيين وما أهم ما يميزه، ودار بينهما حديث شجيّ عذب، فهدأ روعها واطمأن قلبها لحديثه واستبشرت خيراً بهذه الرؤية.

وعندما كانت تعود القافلة من الشام كان يحكي لها «ميسرة» عن محمد وأخلاقه الحميدة، ولين طبعه، وبشاشة وجهه، وأمانته وصدقه. فأدركت عِظم شخصية النبي وسمو أخلاقه قبل تكليفه بالرسالة السماوية، ورأت فيه ملامح النبوة التي حكى عنها ابن عمها. وعلى الرغم من الفارق الشاسع بين حياتهما المادية، فقد لمحت برجاحة عقلها وبصيرة قلبها أن ثراءه ثراءٌ من نوعٍ خاص لا يفنى ولا يندثر، ألا وهو «الثراء الـخلقي».

باتت تدعو الله وترجوه أن يكون زوجاً لها، ولكن كيف لها بذلك؟ وهي كانت في الأربعين، بينما كان هو في الخامسة والعشرين [6]. وهي قد تزوجت مرتين [7] بينما هو لا زال بكراً، فلم تخجل أن تعرض عليه نفسها وهي منْ هي في قومها، فأرسلت إليه صديقتها «نفيسة» دسيساً دون أن يعلم أحد، فقالت له: «يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. فقالت: فإن كُفيت ذلك ودُعيت إلى المال والجمال والكفاية ألا تجيب؟ فمنْ هي؟ قالت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ قالت: دعني وأنا أفعل. وعادت نفيسة إلى خديجة يتألق وجهها بالبشرى، وقالت لها إنه حريص على زواجها». [8]

لم تستطع أن تتريث الطاهرة وأرسلت إليه وخاطبته قائلة: «يا ابن العم [9] إني رغبت فيك لقرابتك، وسيطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك» [10]. إن موقفها يدّل على جرأتها المُنمقة وأنها كانت سيدة قرارها قبل أن تكون سيدة قومها، ولكنها كانت حالة نادرة حينذاك وخاصةً قبل الإسلام حيث العادات والتقاليد الرثة.

تزوجت السيدة خديجة (رضي الله عنها) من الحبيب (صلى الله عليه وسلم)، وانفردت به الطاهرة أكثر من 20 عاماً، رغم أن تعدد الزوجات حينذاك كان عادة قبيلة مُباحة ولكن، كان النبي دائماً ما يفتح لها قلبه ويخبرها عما يدور في خلده، فكانت تسمع خوالج نفسه وتَشدْ من أزره. وعلمت بشغف محمد بالخلوة فاحترمت رغبته، وعندما كان يكثر من الذهاب إلى غار حراء لم تتألم من كثرة غيابه، ولكن بنضجها كانت تُقَدِّر احتياجه الروحاني في التأمل والتدبر في خلق الله، وكانت تعد له الزاد وتذهب له بقلب حبيب يشتهي قرب محبوبه. وهو من تمام حبه لها كان يحِبّ محبوباتها.

وعن السيدة عائشة: «ما غرت على أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة وإني لم أدركها، إذا ذبح الشاه فيقول أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة فإني قَدْ رُزِقْت حبَّهَا». [11]

فقد شهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) بفضلها وأثنى عليها حين قال للسيدة عائشة: «ما أبدلني الله خيراً منها؛ آمنت بي إذ كفر الناس؛ وصدقتني إذ كذّبني الناس؛ وواستني في مالها إذ حرمني الناس؛ ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء» [12]. ولما لا وهي أول من آمنت من الرجال والنساء وصدّقت ما نزل من عند الله. فقد كانت خديجة هي الملاذ الآمن الذي يهرع إليه ويستكين في حُرمته حين تدركه الشدائد.

وعندما عاد إليها يوماً من غار حراء مرتجفاً يهرع إليها ويستصرخها «دثّريني يا خديجة»، فضمته إلى صدرها وطمأنته حتى جمع شتات روحه وقالت له بقلب موقنّ بالله:

إن الله يرعانا يا أبا القاسم، أبشر يا ابن العم واثبت، كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر. [13]

فقد جاءت كلماتها صادقة عميقة المغزى، شديدة التأثير، تدل على حكمتها، وإيمان قلبها بمكارم أخلاقه، فبعثت الطمأنينة والثبات في قلب زوجها الحبيب.

لقد كانت خديجة مسلحة بسلاح لا يفِلٌّ، مسلحة بالحب الذي هو مغزى الحياة، بالحب كانت تغذّي النبي وتحنو عليه وتصونه من شدائد الأيام فقد كان مستودعه ومستقره. فقد بشرها رسول الله بـ «بيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب». [14] وقد قال رسول الله:

أفضل نساء الجنة أربع: مريم بنت عمران، خديجة بنت خويلد، فاطمة بنت محمد، آسية امرأة فرعون. [15]

وقد تحملت في إباءٍ وامتثال المرحلة الحرجة في تاريخ الإسلام، عندما فَرضت قبيلة قريش الحصار على بني هاشم تنكيلاً بالنبي، ولم يمنعها مرضها وكبر سنها من مشاركة زوجها الحبيب في محنته، فاختارت خشونة الحياة بجانبه على رغد العيش بدونه

فهي كانت مثالاً للسند الذي لا يزداد إلا قوة كَلما عصفت بهما الصعاب. وقد بلغ الأذى قمته في حصارٍ دام ثلاث سنوات توالت فيه الأحزان عليهما. ولا شك أن مشاركتها للنبي ساعدته على تجاوز هذه المرحلة بسلام. وصدّت عنه الكثير والكثير من أذى قومه إلى أن وافتها المنية، فلم تعش بعد العودة طويلاً، وقد أُطلق عليه عام الحزن. إزاء ما حَلَّ بالنبي واعتراه في هذا العام. فكان موتها بمثابة النكبة عليه، وخاصةً أنه اقترن بموت عمه الذي ربَّاه. فقد كان عاماً تفوح منه رائحة الذكريات الحَزِينة.

عندما يكون الوعي مُعتماً نصبح مكبلين في ثوبٍ من العادات البالية لا يبث الدفء في النفوس الحرة، فوحدها الأذهان الحرة هي التي تجرؤ، ولقد جرؤ محمد (صلى الله عليه وسلم) وخديجة (رضي الله عنها) على ما لم يجرؤ عليه رجل أو تقوى عليه امرأة. فهل لنا عبرة؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. محمد عبده اليماني، “خديجة بنت خويلد في قلب المصطفى”، مقال نشر في جريدة المدينة، بتاريخ (24/12/2010)، ص49.
  2. عبد البديع صقر، “نساء فاضلات”، دار الاعتصام، القاهرة، ص11.
  3. عبد الحميد جوده السحار، “محمد رسول الله والذين معه: خديجة بنت خويلد”، دار مصر للطباعة، عام 1968، ص36.
  4. المرجع نفسه، ص20.
  5. المرجع نفسه، ص21.
  6. ابن سعد، الطبقات، رواية الواقدي بسند حكيم ابن حزام بن أخي خديجة، ج8، ص15. الذهبي، سيرة أعلام النّبلاء، رواية الزبير بن بكار، ج2، ص82.
  7. زوجها الأول “عتيق بن عائد المخزومي”، وزجها الثاني “أبو هالة هند بن زرارة التميمي”، وأنجبت هند وهالة وهند، وعندما توفي الأخير كان عمرها خمسة وعشرين عاماً.
  8. السحار ص ص75-76.
  9. حيث أن خديجة (رضي الله عنها) ومحمد (صلي الله عليه وسلم) تربطهما صلة قرابة، فيشتركان في جدّهما: قصيّ بن كلاب.
  10. ابن الأثير، أسد الغابة، ج7، ص80.
  11. صحيح مسلم، 4471/2437، مصنف/ مسلم بن حجاج.
  12. القرطبي، الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، 357/3347.
  13. رواه البخاري رقم الحديث 4953. 777/1، رواه مسلم رقم الحديث في مسلم 160.
  14. صحيح البخاري 3561/3821، صحيح مسلم 2435/4467.
  15. صحيح ابن حيان، أنس بن مالك، 7109/6951.