«فرانز كافكا» (1883 – 1924) كاتب تشيكي، ولد ببراغ لعائلة يهودية ناطقة بالألمانية ومن الطبقة المتوسطة. رائد الكتابة الكابوسية ويعد أحد أفضل الأدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة. عاش حياته معذبًا يائسًا وفاقدًا للأمل في كل شيء. لكن أجمل سنوات حياته كما يقول هو، هي عندما تعرَّف إلى ميلينا و بدءا بتبادل الرسائل.

رسائله إليها جُمِعت في كتاب «رسائل إلى ميلينا»، بينما فُقدت جميع رسائلها هي؛ ما شكل خسارة فادحة وانقطاعًا لهذه الرسائل المتفردة بين روحين قلقتين متقلبي المزاج. في هذا المقال نعرض لفحوى هذه المناجاة بين هذا الكاتب الكبير ومعشوقته المميزة ميلينا، والتي لم يُقدَّر لها أن تنتهي نهاية سعيدة.


كافكا: المعذب البائس

كان هيرمان، والد كافكا، رجل أعمال يُوصف بأنه طاغية ومستبد، وكان غير موافق على سلوك ابنه طريق الأدب والكتابة. كتب له كافكا رسالة طويلة بعنوان «رسالة لأب»، بث فيها كل مشاعره و معاناته التي عاشها معه منذ طفولته، لكنه لم يرسلها إليه. وتعد هذه الرسالة من أهم المداخل نحو فهم أعمق لشخصية كافكا. في رسائله لميلينا، يتحدث كافكا عن هذه الرسالة فيقول:

ما أخافه وعيناي مفتوحتان على اتساعهما، بعد أن غرقت في أعماق خوفي، عاجزًا حتى عن محاولة النجاة، هو تلك المؤامرة التي تقوم في داخلي ضد ذاتي، تلك المؤامرة وحدها هي ما أخشاه، وهذا ما ستفهمينه بصورة أوضح بعد قراءة رسالتي إلى أبي، وإن كنت لن تفهمي ذلك منها تمام الفهم مع ذلك، لأن تلك الرسالة قد وجهت في إحكام بالغ نحو هدفها.

كان والده كذلك عصبي المزاج، وغالبًا ما كان يوجه جامّ غضبه على ابنه كافكا؛ ما أحدث أثرًا سيئًا عليه منذ طفولته الأولى، وهو ما يتبدى في خوفه الشديد ومقته في نفس الوقت للمدرسة – كما يحكي ذلك لميلينا في إحدى رسائله إليها- و يتجلى كذلك في استصغاره لنفسه وإذلالها، وفي شعوره بالحزن والكآبة اللذين رافقانه طيلة حياته.

حياته الاجتماعية لم تكن تسير على ما يرام، فقد خطب مرتين (أو ثلاث مرات بالأحرى، حيث خطب فتاة منهما مرتين) لكنه في كل مرة كان يفسخ العقد، وربما كان ذلك بسبب قلقه ومرضه. فمن المتفق عليه عمومًا أن كافكا عانى من الاكتئاب الإكلينيكي والقلق الاجتماعي طوال حياته، كما عانى من الصداع النصفي، والأرق وغيرها من الأمراض التي تأتي عادة بسبب الضغوط والإجهاد المفرط، وذاك هو السبب ذاته الذي كان يمنعه في وقت لاحق – بالإضافة إلى أسباب أخرى- من زيارة ميلينا في فيينا (لكنه زارها فيما بعد بالرغم من التعقيدات العديدة والإنهاك الذي أصابه جراء السفر).


لقاء في المقهى

في بداية الخريف في شهر سبتمبر/أيلول من العام 1919، وفي مقهى في براغ، كان اللقاء الأول بين فرانز كافكا والشابة ميلينا يزينسكا، حيث اقترحت عليه مباشرة ترجمة أعماله من الألمانية التي كان يكتب بها إلى اللغة التشيكية، فكانت بذلك امتدادًا له، كأنها «كافكا» آخر يتجول في شوارع فيينا.

بعد لقائهما بدءا بالتراسل. كتب كافكا ما يقرب من 149 رسالة وبطاقة بريدية. 140 رسالة منها كتبت خلال فترة لا تزيد عن 10 أشهر، من مارس/آذار إلى ديسمبر/كانون الأول من العام 1920، بمعدل يصل أحيانًا إلى أكثر من رسالة في اليوم الواحد. أما الرسائل المتأخرة فتعود إلى العامين 1922 و1923.

كانت ميلينا تتميز بمميزات عدة، فقد كانت آنذاك امرأة شابة متزوجة مثقفة وفي بداية مشوارها كصحفية وكاتبة قصصية ومترجمة، وعلاوة على ذلك فهي مسيحية، مما كان يعتبر في نظر كافكا اليهودي مشكلة مثقلة بالتعقيدات النفسية، ويظهر ذلك جليًا في احتقاره لنفسه لأنه يهودي رغم علمه أن هذا الأمر لا يمثل مشكلًا كبيرًا لميلينا (كون زوجها يهوديًا)، بل يمثل مشكلة له هو مع نفسه، وبالإضافة لطبعه القلِق، فهو يستصغر نفسه أمام كل شيء، فما بالك بالحبيبة التي قدرها في قلبه لا يضاهيه قدر أي شخص آخر، بما في ذلك نفسه؟.

ميلينا، أنت بالنسبة لي، لست امرأة، أنت فتاة، فتاة لم أر مثلها أبدًا من قبل، لست أظن لهذا أنني سأجرؤ على أن أقدم لك يدي أيتها الفتاة، تلك اليد الملوثة، والمعروقة، المهتزة، المترددة، التي تتناوبها السخونة والبرودة. أتعلمين يا ميلينا، إنك عندما تذهبين إليه (يقصد زوجها) فإنك بذلك تخطين خطوة واسعة إلى أسفل بالنسبة لمستواك، لكنك إذا خطوت نحوي فسوف تتردين في الهاوية، هل تدركين ذلك؟.

قد يبدو أن هذه الطريقة في الحط من قدر نفسه إنما هي زيف فقط، كمن يقلل من شأنه عندما يتلقى مديحًا (كما كان الحال مع دوستويفسكي مثلا)، لكن بالنسبة له، فهذا الشعور بالنقص من الآخرين واستصغاره لنفسه والحط من قدرها حقيقة وطبع فيه، وقد كتب إلى ميلينا في أحد رسائله يشرح لها ذلك.


من عاشق سعيد إلى محب يائس

ونحن نقرأ رسائل كافكا التي وصلت إلينا نجد تدرجًا ملحوظًا في حدة العواطف وميلها إلى البرود مع كل رسالة جديدة. ففي بداية الأمر يتبدى جليًا شعور كافكا بارتياح غريب – غريب على من مثله في بؤسه وقلقه أن يحسه- فهو وربما للمرة الأولى تزايله كل أحزانه وتنتعش روحة المتعبة رغم مرضه الجسدي.

الآن فقط انقطع المطر الذي دام سقوطه يومين وليلة، مع أن انقطاعه قد لا يستمر سوى لحظة، لكنه مع ذلك حدث يستحق أن يحتفل به المرء، وهذا ما أفعله بالكتابة إليك. إنني أعيش هنا في خير حال، ولا يطيق الجسد الفاني مزيدًا من العناية، وتطل شرفة غرفتي على حديقة محاطة بسور، تزدهر فيها الشجيرات المزهرة، وتتعرض شرفة الغرفة لأشعة الشمس، تزورني في الغرفة السحالي والطيور وأنواع مختلفة من الكائنات، تزورني أزواجًا أزواجًا، إنني أرغب رغبة شديدة في أن تكوني هنا.

وبخلاف الرسائل العادية التي ترسَل للاطمئنان على حال شخص ما أو لغرض الإخبار بشيء، فإن كافكا لم يكن يكتب رسائله لا لهذا الغرض و لا لذاك، بل كان منكبًا على نقل أحداث يومه بشكل حرفي إلى ميلينا، مشاطرًا إياها مشاعره وكأنها تشاركه نفس المكان، وذلك ما يعبر عنه في غير ما مرة.

ما شكل تلك الشقة التي كتبت لي منها يوم السبت؟ هل هي فسيحة وخالية؟ هل أنت وحيدة؟ نهارًا وليلًا؟ لا بد أن يكون هذا محزنًا حقًا. على الرغم من صغر حجرتي، فإن ميلينا الحقيقية، تلك التي زايلتك صراحة يوم السبت، توجد معي هنا، وصدقيني إنه شيء رائع جدًا، أن أكون معها. ستكون كذبة بالنسبة لي لو قلت إنني أفتقدك، إنه السحر الكامل، المؤلم، إنك توجدين هنا مثلما أنا هنا، إن وجودك مؤكد أكثر من وجودي، إنك تكونين حيث أكون، وجودك كوجودي، و أكثر كثيرًا من وجودي في الحقيقة.

لكن الإحساس بالسعادة والارتياح لا يدوم طويلًا مع كافكا، فها هي الغيرة تنخر قلبه، ويبدأ كل منهما في إلقاء اللوم على الآخر، كانت كثيرًا ما تلقي اللوم عليه لخوفه الشديد، غير المبرر في كثير من الأحيان، والذي أصبح مسيطرًا عليه حتى أصبح كـتهديد دائم له.

إنني أرتعش فحسب تحت وطأة الهجوم، أعذب نفسي إلى درجة الجنون. في الحقيقة، حياتي، وجودي، إنما يتألف من هذا التهديد السفلي، فلو توقف هذا التهديد لتوقف أيضًا وجودي. إنه طريقتي في المشاركة في الحياة. فلو توقف هذا التهديد، سأهجر الحياة بمثل سهولة وطبيعية إغلاق المرء لعينيه.

مع ازدياد عدد الرسائل، تزداد نوبات الاحتقار الذاتي لدى كافكا والتقليل من شأن نفسه، ويبدأ جلد الذات ومحاولة العودة إليها، ويبدأ كذلك تحليل الأمور ورؤية المآل الذي لا مفر منه.

يجب أن تتدبري أنت أيضًا يا ميلينا، نوع الشخص الذي خطا نحوك، إن رحلة الثمانية والثلاثين عامًا تستلقي خلفه، ولما كنت يهوديًا فإن الرحلة في حقيقتها أطول بالفعل من ذلك، فلو أنني عند منعطف عارض تبدى لي في طريقي، قد رأيتك، أنت التي لم أتوقع أن أراك مطلقًا، وأن تجيء رؤيتي لك فوق ذلك متأخرة إلى هذا الحد، عندئذ لا يمكنني يا ميلينا أن أصبح ملوحًا لك، و لا أن يهتف لك شيء في داخلي، و لا أن أقول آلاف الأشياء الحمقاء التي لا أجد لدي شيئًا منها، وأحذف الحماقات الأخرى التي أحس أن لدي منها ما يزيد عن حاجتي.

وكما يظهر في رسائله، فإن ميلينا هي الأخرى كانت متقلبة المزاج وقلقة قلقًا يشبه أو ربما يفوق قلق دوستويفسكي (ولا عجب فإنه كان كاتبها المفضل)، بسبب الأجواء العصيبة التي سادت الأوساط الأدبية في فيينا في تلك الفترة، وربما بسبب تأثيره هو أيضًا، كما لو أن المعاناة هي ذلك السلك الرفيع الذي يربطهما، حتى أنها بدأت تتوهم أنها مصابة بمرض الرئة مثله، حتى سقطت فريسة له حقًا. هنا يكتب إليها كافكا كما لو كان هو المصاب، ويصل إحساسه باليأس حدًا لا يطاق:

وهكذا فأنت تشعرين بالمرض كما لم تشعري به منذ عرفتك؟ وهذه المسافة التي لا يمكن اجتيازها، بالإضافة إلى آلامك لتجعلني أشعر كما لو كنت أنا في حجرتك وأنك لا تكادين تتعرفين علي، وأنني أتجول بلا حيلة ذهابًا وجيئة بين الفراش والنافذة، وأحدق في السماء الكئيبة التي بعد كل مرح السنوات المنقضية وبهجتها، تتبدى للمرة الأولى في يأسها الحقيقي، عديمة الحيلة، مثلي تمامًا.

قلق ميلينا كان في تزايد أيضًا بسبب علاقتها بزوجها أرنست التي كانت في طور الانهيار. يتردد ذكر اسم زوج ميلينا في الرسائل المتأخرة، حيث يظهر آنذاك جلاء الحقيقة واستحالة بلوغ علاقتهما أية غاية سعيدة.


حب من نوع آخر

ما تعودنا على أن نعتبره خيطًا فاصلًا أصبح الآن حدًا، أو سلسلة من الجبال، أو على نحو أكثر دقة قبرًا.

في رسائل كافكا يظهر حب من نوع غريب ونادر، إنه ذلك الذي يجعلك تكتشف نفسك، وتراها على حقيقتها، كأنما قد وقفت إلى مرآة، وهذا النوع من الحب هو سكين ذات حدين، إذ كما لك الامتياز في أن تكتشف في نفسك ما لم تكن تعرف قبلًا، فإنه في ذات الوقت تتجلى عيوبك أمامك كلها واضحة، في مقابل صفات الآخر المتناهية الجمال.

إنني أعيش في قذارتي، فهذا هو ما يشغلني، لكن أن أجرجرك إلى داخلها أيضًا، فهذا شيء مختلف تمامًا. إن الشيء المزعج هو شيء بعيد بالأحرى حيث أنني من خلالك أصبح أكثر وعيًا بقذارتي على نحو زائد، ومن خلال وعيي يصبح الخلاص أكثر كثيرًا في صعوبته.

رسائل كافكا هذه الفريدة من نوعها تكشف لنا معدن هذا العاشق، الذي لم يمر على معبد المرأة كما مر أسلافه وخلفه من العشاق، كان حالة خاصة متفردة. ورغم النهاية التي تبدو مألوفة في مثل هذه القصص، لكن أحداثها لم تكن عادية ومألوفة، كون من نسج خيوطها شخص غريب، محب، بائس، جمع المتناقضات في شخصيته، وترك لنا رسائل بديعة نستمتع بقراءتها إلى اليوم!.