كان عادياً جداً مضمونًا وشكلًا
مش شرير ومش طيب
مش موهوب ومش غبي
مش مجذوب ومش نبي
ولا حتى عاش قصة كفاح ع اللقمة في بلد أجنبي
من قصيدة معملش حاجة تستحق الذِكر لمصطفى إبراهيم

بأي منطق كان يفكر «تيد لاسو»، الرجل صاحب الجنسية الأمريكية، ومدرب أحد فرق الدرجة الثانية لدوري الكرة الأمريكية، عندما قبل تدريب ناد لكرة القدم، وفي أهم دوريات العالم وأصعبها – الدوري الإنجليزي- والأنكى أنه يصارع الهبوط.

ربما وجدها تيد صاحب الـ45 عامًا، فرصة أخيرة ليتحدى قاعدة الرجل العادي التي اتفق البشر ضمنيًا عليها، ولخصها مصطفى إبراهيم في الأبيات السابقة، ليثبت لنفسه أن ثمة أشخاصًا عاديين، صنعوا المستحيل.

حتى ولو كان هذا التحدي في لعبة لا يعرف عن قواعدها أي شيء، لكن وكما يقول، ما المشكلة في ذلك؟ فالحياة بأكملها لعبة نأتي إليها ونحن لم نقرأ ولا سطر في قواعدها.

«تيد لاسو»، هو بطل أحد المسلسلات الأمريكية الرياضية التي لاقت رواجًا في الفترة الأخيرة، لكننا لن نستفيض في الحديث عنه، بل أردنا أن نأخذ من رمزية قصته، مدخل للحديث عن تيد آخر، أراد أن يثبت لنفسه قبل الجميع أنه هنا، ما زال يستطيع أن يحلم، لا لنفسه فقط، بل لشعب بأكمله.

حكايتنا عن «ليونيل سكالوني»، وهي قصة عن أحد هؤلاء العاديين الذين تمكنوا من صُنع المستحيل. فكيف استطاع فعل ذلك؟

في سكوت زماني يفوت

هناك في «بيجاتو»، المدينة التي تقع في مقاطعة «سانتا»، وسط شرق الأرجنتين، أول ما تتلا من قواعد الحياة على الوافدين الجدد إليها، هي تعريف المعاناة، حيث تتجلى أزمة الأرجنتين الاقتصادية، فيصارع الجميع شبح الفقر، ويحد هذا الفقر من طموحاتهم؛ فيتوارث معظمهم فكرة أن النجاة تتمثل في أن تأتي إلى الحياة وترحل بأقل قدر من الخسائر.

ولد ليونيل في بيجاتو، حيثُ تسيطر مهنة الزراعة. يعمل والديه نهارًا وليلاً في المزارع، من أجل إعالته هو وشقيقه الذي يكبره بعامين -«مارو»- وهو حال معظم سكان هذه القرية الصغيرة، التي يقطنها نحو 3700 نسمة فقط.

القاعدة الثانية التي يتعلمها الأطفال في بيجاتو بعد الفقر، هي أن كرة القدم قد تكون طوق النجاة من هذا الفقر اللعين؛ لذا وعلى الرغم من صغر مساحة القرية، فإنها تمتلئ بعديد من ملاعب كرة القدم.

بمجرد أن شبا «مارو وليونيل»، كان لازمًا عليهما الذهاب لمساعدتهما والديهما في الزراعة، لكنهما كانا كالبقية، مغرمين بكرة القدم، يمارسانها كلما سنحت لهما الظروف، لعلَّ أحدهما أو كليهما يكون هو الشخص الذي ستنصفه هذه اللعبة، فالجميع هناك لعب كرة القدم في فترةٍ ما من حياته، لكن لم يستطع أحد أن يصل للعب في المستوى الاحترافي، بمن فيهم والدهما.

وضع ليونيل نصب عينيه هدفاً، سيظل يصبو إليه لعقود، وهو أنه لن يكون كبقية أهل بيجاتو، لن يأتي ويرحل من هذه الحياة في صمت، وكأنه لم يكن.

راحل معايا الليل

خطى ليونيل سكالوني خطواته الأولى في نادي «سبورتيفو ماتينزو». ونال دعم والديه، اللذين أجبراه على المواصلة والانضباط في التمارين، وفي عام 1993، كانت أولى خطواته الجادة، عندما اجتاز اختبارات أكاديمية فريق «نيوز أولد بويز»العريق.

كانت المعضلة الكبرى في بُعد مقر الأكاديمية عن بيجاتو، لكن والد ليونيل قرر التخلي عن ورديته الصباحية من العمل في المزرعة، حتى يستطيع أن يوصله كل يوم صباحًا بشاحنة البضائع إلى التدريب، والعودة بعد الظهيرة، لمسافة أكثر من 300 ميل في الأسبوع.

هنا لم يكن أمام ليونيل إلا أن ينجح في مشواره، فالأمر لم يعد مجرد حلم شخصي، وإنما أمل أسرة بأكملها، تأمل بأن تقتل شيطان فقرها، ولو بسيف أصغر أفرادها.

لم يكن الجزء التالي من حياة سكالوني الكروية، سوى تراتيب القدر، التي لم يملك إلا أن ينصاع لها. بدايةً من اختيار المدير الفني للأكاديمية «نيوز أولد بويز»، «راؤول دونسانتي»، له مركز الظهير الأيمن، الذي لم يكن يحبذه، مرورًا بالانتقال لفريق «إستوديانتس دي لا بلاتا»، الذي قرره والده بدلاً منه، ثم إلى اختياره في اللحظات الأخيرة لتمثيل المنتخب الأرجنتين لكأس العالم للشباب 1997 في ماليزيا.

وحتى تكتمل تراتيب القدر، كان هدفه الذي سجله في مرمى البرازيل في البطولة بطريقة جمالية، هو طريقة لأعين أحد كشافي الأندية الأوروبية، الذي قرر أن يعطيه فرصة اللعب في أوروبا.

وكأنه مقدر لهذا الحلم الذي راوده في صغره أن يكتمل، حتى ولو لم يكن أفضل من لمس الكرة في بيجاتو، حتى ينصاع له دونًا عن غيره.

خطاويه مبتعلمش ورا منه

في يناير/ كانون الثاني 1997، انضم ليونيل إلى نادي «ديبورتيجو لاكرونيا» الإسباني، وقضى هناك ثماني سنوات ونصف، حقق خلالها رفقة جيل الديبور التاريخي، بطولة الدوري الإسباني عام 1999-2000، وكأس الملك، والسوبر الإسباني عامي 2001 و2002.

رحل بعد هذه الرحلة إلى نادي «ويستهام» الإنجليزي، ثم إلى نادي «لاتسيو»الإيطالي، ثم عاد إلى إسبانيا من بوابة نادي «مايوركا»، ثم إلى إيطاليا مرة أخرى من بوابة نادي «أتلانتا»، وهناك قرر التوقف عن ممارسة كرة القدم.

لم يحظ ليونيل سوى بمسيرة كروية عادية الشكل والمضمون، صار خلالها بطل، لكن في رواية أهل بيجاتو فقط، الذين وضعوا صوراً له في كل مكان في القرية، آملين أن يحظى أبناؤهم يوماً ما بمثل ما حظي به.

ربما عرف ليونيل من خلال التجربة، أن كل البشر ذو قدرات متقاربة، وأن هؤلاء الخارقين الذي تمنى أن يكون أحدهم، قلائل، لكنه على الأقل استطاع من خلال رحلته في أوروبا أن يتغلب على فقر أسرته.

لكن هل توقفت الحكاية عند هذا الحد؟

أضاعوا إرث دييجو

«لا أحد يريد تدريب الأرجنتين».
نيكولاس تاغليافيكو مدافع المنتخب الأرجنتيني

التصريح أعلاه، يعود لمدافع المنتخب الأرجنتيني «نيكولاس تاغليافيكو»، بعد رحيل المدرب «خورخي سامباولي» عن تدريب الفريق، بعد فضيحة الخروج أمام فرنسا في دور الـ16 في كأس العالم 2018.

أكثر من 36 عاماً من التخبط والفشل، منذ آخر ألقاب المنتخب الأرجنتيني في كأس العالم 1986، ربما تجددت الآمال مع سطوع شمس ليونيل ميسي، لكن الإخفاقات المتتالية في بطولة كأس العالم، وكوبا أمريكا، جعلت الجميع يعزف عن تولي تدريب المنتخب الأرجنتيني.

لأنه إن كان اتهام ميسي على هذه الإخفاقات، هو التخاذل، فالجميع حينها مذنب. فساد بالجملة داخل أروقة الاتحاد الأرجنتيني، وأندية لم يعد همها الوحيد، سوى الاستفادة من تصدير اللاعبين أوروبا، ولاعبون متهمون بالتخاذل، وانتماؤهم لأنديتهم أكثر من الأرجنتين.

ولأنه كذلك في أوقات اليأس، لا مانع من تجربة أي شيء، كان صاحبنا هو المختار. عينَّ الاتحاد الأرجنتيني ليونيل سكالوني على رأس المنتخب لفترة مؤقتة، مع توليه مهمة منتخب تحت 20 عاماً.

معملش حاجة تستحق الذِكر

«تدريبه للمنتخب الوطني، لا أعتقد أن هذا يناسب قدراته. هذا الرجل الذي يُدعى سكالوني، لا يمكنه الذهاب لكأس العالم للدرجات النارية، وليس كأس العالم لكرة القدم».
دييجو ماردونا عن تعيين سكالوني كمدرب لمنتخب الأرجنتين

عمل سكالوني منذ اعتزاله كمساعد مدرب لخورخي سامباولي، في فريق إشبيلية الإسباني، ومنتخب الأرجنتين، لكنه لم يكن يملك أي مؤهلات، تؤهله لخوض التجربة كمدرب للمنتخب الأرجنتيني.

لكن أحيانًا تكون نقطة ضعفك هي نفسها نقطة قوتك، فصغر سن وتجربة سكالوني، جعلاه مقربًا من قلوب لاعبي المنتخب، وبخاصة قادة الفريق، ميسي، وديماريا، اللذان ربما رأيا أن فرصتهما الأخيرة مع المنتخب، تستحق دعمهما الكامل لتجربة سكالوني، على كل ما فيها من منغصات.

وعلى عكس التوقعات، دارت عجلة المنتخب الأرجنتيني، التي توقفت منذ تحقيق كوبا أمريكا 1993.

ماشي في شارعهم المليان تراب

هل تتذكر تيد لاسو الذي تحدثنا عنه في البداية؟

كما أخبرناك أن رحلتي تيد وسكالوني تشباهتا في الأهداف. كلاهما طمح في فرصة أخيرة، ليثبت لنفسه قبل الناس أنه هنا، باق ويحلم.

كان أهم ما يميز تيد على الرغم من عدم معرفته بقواعد لعبة كرة القدم من الأساس، أنه يملك حكاية -صادقة- عن كل شيء. استطاع أن يجمع شمل فريقه، ويخرج أفضل ما في كل لاعب، بحكاياته تلك، فأيًا كان ما يواجه اللاعبين، فتيد يملك مدخلًا للحديث عنه، والمساعدة على تجاوزه.

امتلك سكالوني ميزة شبيه بتلك التي امتلكها تيد. ليونيل يثق في لاعبيه حد السماء، والأهم أنه يثق فيه ثقة عمياء.

أزاح سكالوني غبار السنوات الذي تراكم على المنتخب الأرجنتيني، حيث حولَّ معسكرات المنتخب لنزهة بالنسبة للاعبين، لعبَّ على تقوية العلاقات بينهم، وخلق بينهم رابطًا شخصيًا قبل أن يكون وطنيًا، فالجميع يجلس على طاولة واحدة لتناول الطعام، ومن ثمَّ يطرح كل لاعب أي مشكلة تواجهه. إذا احتفل أحدهم يحتفل الجميع، وإذا مرَّ أحدهم بيوم سيئ، يعني أن الجميع مروا بيوم سيئ.

«لو كانت الساعة العاشرة صباحًا وأخبرنا سكالوني أننا بالليل، فهذا يعني أننا بالليل».
ردريغو دي بول لاعب خط وسط المنتخب الأرجنتيني عن سكالوني

يشبه بطلًا أسطوريًا وخياليًا

كان أول الغيث هو تحقيق المنتخب الأرجنتين لبطولة كوبا أمريكا، التي غابت عنهم منذ عام 1993، ثم تبعها ببطولة فيناليسما، على حساب منتخب إيطاليا، وهي البطولة التي تجمع بين بطل أوروبا وبطل أمريكا الجنوبية.

لكن الموعد الحقيقي كان في قطر 2022، عندما أراد سكالوني أن يداعب حلمه القديم، ليثبت لنفسه أن هنا، ويستطيع فعل المستحيل.

وقف سكالوني رفقة منتخب الأرجنتين في قطر، وحقق معجزة ستظل عالقة في الأذهان إلى الأبد. أخيرًا حقق رفقاء ميسي ودييجو البطولة التي انتظروها لأكثر من ثلاثة عقود.

وحتى تكتمل سينمائية المشهد، وقف سكالوني لبضع دقائق صامتًا، لا يعرف ما جرى. ربما مرَّ على ذاكرته، طفولته في بيجاتو، وحلمه القديم.

ربما لا يستوعب أنه حقق ما ظل يبحث عنه طيلة حياته، وصار بطل الأبطال ليس في بيجاتو وحدها ولا الأرجنتين، وإنما في العالم بأثره، ثم انفجر في نوبة بكاء لا نعلم إلى متى استمرت.

لكن الأكيد أن ليونيل سكالوني، أثبت لنا أن كوننا عاديين، لا يعني بالضرورة أن نحيا حياة عادية. جعل ليونيل أحلامنا تلامس السماء، علنا نفوز ولو مرة. أو كما يقول محمود درويش:

«ولنا أحلامنا الصغرى
كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة
لم نحلم بأشياء عصية
نحن أحياء وباقون … وللحلم بقيةْ»