أصبح من المألوف أن تجد في مكتبات محبي القراءة كتبًا مضمونها الأساسي كرة القدم. ربما لا يحب كل القراء كرة القدم، لكنهم حتمًا وجدوا في تلك الكتب عالمًا يعج بالقصص والمشاعر والأحداث التي تستحق أن تُروى وتُقرأ.

هناك قصة قصيرة كتبها الأرجنتيني «فنتاناروسا» تحكي عن العالم بعيون جناح أيمن متقاعد، رجل ساخر كثير الكلام والمبالغة، ولا يرى حقيقة مطلقة في الدنيا إلا كرة القدم.

أدبيًا يمكننا استبدال لاعب الكرة هذا بأي شخص آخر وستكتمل القصة، لكن ما يجعل الأمر ساحرًا أن رؤية العالم بعيون لاعب الكرة ممتعة أكثر من غيره. هذا العالم الساحر المليء بالقصص والمشاعر والبكاء والجنون هو مادة دسمة للأدب.

هكذا تعددت أشكال الكتب التي تتناول كرة القدم. هناك روايات حظيت بشهرة عالمية وقصص قصيرة بأقلام أهم الكتاب وأشهرهم، وكتب ترصد كرة القدم من زوايا اقتصادية واجتماعية وتاريخية ومؤخرًا انتشرت السير الذاتية للاعبي كرة القدم بشكل أدبي. كل تلك الكتابات كونت لنا ما يعرف بأدب كرة القدم.

لم يكن الأمر كذلك على الدوام، فقبل ثلاثين عامًا رفضت رواية «Fever pitch» الإنجليزية الشهيرة من قبل الناشرين لأنهم اعتقدوا أن كتابًا عن كرة القدم لن يبيع أبدًا. اعتقدوا أن كرة القدم مناسبة للملاعب حيث يصرخ الجماهير في جنون بينما هدوء القراء لا يناسب ضجة كرة القدم، لكن الرواية أثبتت خطأ معتقدهم.

مرت علاقة كرة القدم بالأدب بمنحنيات كثيرة، إلا أنه ومع الوقت أدرك الجميع أن تلك الثنائية حتمًا كانت ستلتقي. نحن هنا في محاولة لتناول ثنائية الأدب وكرة القدم بشكل من التفصيل، كيف بدأ الأمر ولماذا نجح في أسر عقول الملايين.

البداية: علاقة متوترة سببها السياسة

ما هو وجه الشبه بين كرة القدم والإله؟ إنه الورع الذي يبديه المؤمنون والتشكك الذي يبديه المثقفون.
إدواردو غاليانو – كرة القدم في الشمس والظل

هكذا حاول جاليانو وصف العلاقة المتوترة بين المثقفين وكرة القدم، وبالتدقيق في حديث جاليانو تجد أن العامل الأساسي الذي أبعد الأدباء والمثقفين عن كرة القدم هو عامل استغلال كرة القدم من قبل السياسيين في المقام الأول.

نظر المثقفون إلى كرة القدم بكثير من الازدراء وتم حصر دورها كنشاط مناسب للغوغاء حيث تمارس الغريزة البهيمية المتعلقة بالشد والجذب والركض والصراخ؛ لأنها تمنع الجماهير من إدراك واقعهم وتميت فيهم الحس الثوري.

كان انتشار كرة القدم حول العالم ينظر له بأنه مؤامرة إمبريالية للإبقاء على الشعوب المقهورة مغلوب على أمرها للأبد ولذا كرهها المثقفون.

بينما على أرض الواقع كانت كرة القدم تنتشر؛ لأنها قريبة من قلوب الجماهير البسيطة من حيث الممارسة والمتابعة. كانت وسيلة للهروب من الواقع المرير وهي المهمة التي يقدمها الأدب في أحيان كثيرة.

كنا نشاهد كرة القدم في المنزل بمنتهى الحماس، لكن في العلن لم نرغب في أن يُنظر إلينا كمشجعين لكرة القدم
الشاعر الكوري الجنوبي هوانج تشي وو

يشرح «تشي وو» أن السبب كان سياسيًا خالصًا؛ لأنه في ظل الديكتاتورية العسكرية لكوريا الجنوبية، تم استخدام كرة القدم بغرض التلاعب بالجماهير وكان ينظر إليها من قبل المثقفين على أنها آلية تحكم يجب تجنبها.

يتفق الكاتب الروسي «فيكتور يروفييف» مع تشي حيث كانت علاقته بكرة القدم في ظل النظام السوفيتي مماثلة. كانت كرة القدم الروسية ذات طابع عسكري واضح. عديد من الروس الذين كرهوا تلك الجوانب من الحياة السوفيتية كرهوا كرة القدم التي كانت تقدم لهم.

يمكننا اعتبار الثنائي تشي وو وفيكتور يروفييف أمثلة جيدة لعلاقة المثقفين والأدباء مع كرة القدم، حيث تطورت علاقتهم بكرة القدم من الرفض النمطي إلى العشق بل وكتابة أدب خالص عن كرة القدم.

تطور العلاقة: خلق الهوية وسرد القصة

لنكن منصفين يجب علينا الاعتراف بأن السبب في تطور ثنائية كرة القدم والأدب، وظهرها بشكلها الساحر هو الأدب اللاتيني؛ نظرًا لأن كرة القدم ذاتها كانت ذات أهمية متزايدة في تلك البلاد.

ساعدت كرة القدم في إنشاء هوية وطنية لعديد من تلك البلاد. لذا يمكنك ببساطة أن تجد في مؤلفات كتاب أمريكا الجنوبية التي تتناول كرة القدم أحاديث عن الهوية الوطنية والعرق والجنس والعنف والسياسة. هكذا أُنتِجَت لنا عديد من القصص الأدبية التي تتناول أحداثًا كروية بحتة، لكنها في مضمونها تحمل رسائل أعمق كثيرًا من كرة القدم كلعبة ترفيهية بل هي رسائل للوطن والحرية.

وبعيدًا عن رمزية كرة القدم في مجال الأدب، تمتاز تلك اللعبة أنها قادرة دومًا في أحداثها على سرد القصة وهو ما يتماس بالطبع مع الأدب ويقدم له فرصة للكتابة والوصف.

يحكي المؤلف السويدي هينينج مانكل مشهد رآه في موزمبيق غيّر نظرته للعبة كرة القدم إلى الأبد. فبعد انتهاء الحرب الأهلية الوحشية في البلاد، كانت إحدى محاولات التصالح بين طرفي النزاع هي ترتيب مباراة كرة قدم بين فريقين من الرجال الذين ارتكبوا فظائع في الحرب.

كان مانكل شاهدًا على تلك المباراة، قال إنهم بدأوا في رؤية بعضهم البعض بشكل مختلف عما كانوا عليه من قبل، مدركين أنهم قادرون على حل نزاعاتهم بطريقة لا تنطوي على عنف.

هنا أدرك أن كرة القدم والأدب يتشابهان كثيرًا في فكرة سرد القصة، يبدأ الأمر بصراع بين طرفين لوجود تناقضات ثم يتضخم هذا الصراع مع الوقت قبل أن ينتهي تمامًا بنهايات درامية، شريطة أن يجري كل هذا في إطار ممتع وإلا لن يقرأ أحد الكتاب ولن يشاهد أحد المباراة.

هل يغني أدب كرة القدم عن كرة القدم

في مقدمة كتابه حكايات كرة القدم، الذي يتناول 24 قصة قصيرة عن كرة القدم، قص لاعب ريال مدريد السابق «خورخي فالدانو» قصة مثقف وهمي سماه ألسيدس. يبذل بطل فالدانو الوهمي قصارى جهده في محاولة لاكتشاف ما الذي يجعل كرة القدم مميزة جدًا ولماذا هذه اللعبة تأسر قلوب كثير من الناس حول العالم، هذا السؤال يدفعه ليجوب أنحاء العالم بحثًا عن إجابة.

يكتشف ألسيدس مع الوقت أن كرة القدم لغة عالمية يتحدث بها أناس تختلف لغتهم كما أنها تعمل كجسر بين مختلف الأجيال، والأجمل أنها عمياء عن المكانة الاجتماعية، وفي نفس الوقت آلية هروب ووسيلة إلهاء إذا لزم الأمر. يفشل البطل في إيجاد إجابة ترضيه فيقرر أن يبحث عن الإجابة في كتب الفلاسفة.

يجد ألسيدس أن الفلاسفة والكُتاب مثل ماركس وسارتر وكامو قد تناولوا كرة القدم في كتاباتهم، فيتأثر كثيرًا بهم ويحول كل حديث كروي إلى حديث فلسفي. يقوده هذا إلى الأرق أولًا ثم الإحباط حتى يصاب بالجنون الكامل.

ما قصده فالدانو هنا هو التأكيد أن أدب كرة القدم لا يعني أنك تشاهد كرة القدم بهذا المنظور الأدبي الفلسفي الشاعري على الدوام. فكرة القدم هي الملاذ الآمن لك لتبدو أحمقًا تمامًا دون أن ينتقدك أحد، وليست المكان المثالي للنظريات الفلسفية فقط. هي مزيح بين هذا وذاك ولن تكون أبدًا أقرب لأي الجانبين.

إلى هؤلاء المحبين للأدب تعدكم كرة القدم أنها تضمن لكم وجبة دسمة من حيث الأحداث والمتعة والأبعاد الإنسانية، وهؤلاء محبي كرة القدم لن تجدوا أبلغ من الأدب ليصف ما تشعرون به من جنون وعشق وغضب وإنكسار.