سترة عسكرية واقية ضد الرصاص وخوذة معدنية، وتقف أعلى الدبابة تخاطب جنود بلادها في إستونيا. هكذا أرادت ليزا تراس للبريطانيين أن يروها. تستدعي بتلك الصورة مشهد مارجريرت ثاتشر التي أُلتقطت لها صورة مشابهة. لم تتخفَ ليزا من تلك الصورة المتشددة التي قد يعتقدها الناخبون، بل دعمّتها واستخدمتها في معركتها للفوز بمنصب رئيسة وزراء بريطانيا خلفًا لبوريس جونسون. ورسخت ليزا موقعها في قلب اليمين البريطاني، خصوصًا اليمين المتشدد المُحب للمواقف شديدة الحدّية. كقيامها بطرد السفير الروسي لبريطانيا من مكتبها بوزارة الخارجية في فبراير/ شباط الماضي اعتراضًا على الغزو الروسي لأوكرانيا.

سأخوض المنافسة في هذه الانتخابات بصفتي محافظة وسأحكم بصفتي محافظة. إنني أضع نفسي في المقدمة لأنني أستطيع أن أقود، وأتخذ القرارات الصعبة. لدي رؤية واضحة للمكان الذي نحتاج إلى أن نكون فيه، ولدي الخبرة والعزم للوصول بنا إلى هناك.

من خطاب ليزا تراس أمام حزب المحافظين.

ليزا، أو ماري إليزابيث، بنت لأسرة يسارية عتيدة. والدها بروفيسور رياضيات ووالدتها ممرضة، وكلاهما كان ناشطًا يساريًا. التحقت بالجامعة لتدرس الفلسفة والسياسة والاقتصاد. وفي الجامعة بدأت تتجه من اليسار المتشدد إلى الوسط حين نشطت كقائدة طلابية في حزب الديمقراطيين الأحرار. لكن لاحقًا، في تسعيينات القرن الماضي، سافرت ليزا إلى أوروبا الشرقية. وصفت تلك الرحلة بأنها كانت لحظة فارقة في حياتها، لأنها عادت من تلك الرحلة مقتنعةً أن مارجريت ثاتشر هي المثال الذي يجب الاقتداء به. وأكملت ليزا رحلتها بذلك من اليسار إلى الوسط، ثم من الوسط إلى اليمين.

رئيسة الوزراء الحالية، أم لبنتين وزوجة محاسب، فشلت مرتين في الانتخابات البرلمانية، لكنها بعد ذلك رُشحت لمقعد مضمون فباتت عضوًا في مجلس العموم عام 2010، تنقلت في المناصب وتولت وكيل وزارة رعاية الأطفال والتعليم في الفترة ما بين 2012 و2014. النقلة النوعية في مسيرتها جاءت على يد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء الأسبق. عينها كاميرون وزيرة دولة للبيئة والأغذية والشئون الريفية. فكانت بذلك أصغر وزيرة في الحكومة، 38 عامًا آنذاك.

عارضت بريكست وأشرفت عليه

شغلت ذلك المنصب عامين، لكن بعد استقالة كاميرون أصبحت خارجه، لكن تيريزا ماي عيّنتها وزيرة للعدل، ثم في منتصف 2019 حين استقالت ماي، دعمت ليزا ترشح بوريس جونسون لحزب المحافظين، ومن ثم رئاسة الوزراء، لذا كان من البديهي حين يتولى جونسون أن يكون لها نصيب من الحكومة، فعينّها وزير الدولة للتجارة الخارجية ورئيس مجلس التجارة. ثم في سبتمبر/ أيلول 2019 عُينت وزيرة للمرأة والمساواة. ثم وزيرة الدولة للشئون الخارجية وشئون الكومنولث في سبتمبر/ أيلول 2021، وبذلك أصبحت أول وزيرة خارجية من حزب المحافظين، وثاني امرأة في تاريخ بريطانيا تشغل هذا المنصب.

غيّرها المنصب، فقد كانت من أبرز النشطاء في حملة بريطانيا أقوى مع أوروبا، الداعمة لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. لكن حين تولت وزارة الخارجية، أصبحت هي المشرفة المباشرة على ملف البريكست خلفًا لديفيد فروست، وشغلت منصب كبير مفاوضي الحكومة البريطانية مع الاتحاد الأوروبي. فسطع نجمها على المستوى العالمي، وصارت مثالًا للنشاط والتفاني.

ومن تلك اللحظة بدأت الأحاديث حول كونها الخليفة المحتمل لجونسون. نفت في بادئ الأمر رغبتها في ذلك، لكن حين استقال جونسون تغيّر موقفها وقدمت برنامجها للمنصب، برنامجها يتحدث عن التجارة الحرة، وتخفيض الضرائب. لهذا يشبهها الصحفيون بالمرأة الحديدية الجديدة، وتستنكر ليزا هذه المقارنة، لكن المقربين منها يؤكدون أنها تحبها.

في زيارتها لروسيا في بدايات الحرب الأوكرانية ارتدت قبعة مستديرة من الفرو تشبه قبعة كانت ترتديها ثاتشر خلال لها في معسكر تدريب لحلف الناتو 1986. وبعد أن انضمت لسباق الانتخابات ارتدت قيمصًا أبيض له عقدة كبيرة من العنق يشبه ما ارتدته ثاتشر أيضًا.

إذلال روسيا هدفها

حالة الغموض التي تعيشها ليزا، التي تقترب من التناقض، جعلت معارضيها ينكرون أي فرصة شبه بينها وبين ثاتشر. فيقولون، إن ليزا تفتقد للمبادئ التي كانت تعتنقها ثاتشر، كما أن ليزا لا تملك تلك الرؤية الواضحة التي كانت لدى سابقتها. كذلك فإن مواقفها الاقتصادية والسياسية خلقت حالة من الانقسام داخل المحافظين أنفسهم. فاستطلاعات الرأي كشفت أن أداء الحزب سيكون أسوأ تحت قيادتها.

ووصفها المستشار السابق لجونسون، دومينيك كيمينج، بأنها قنبلة موقوتة، وستكون أسوأ من جونسون في رئاسة الوزراء. يبدو أن غالبية من عمل مع ليزا عن قرب يتفق على تلك التشبيهات، فغالبيتهم يقولون إنها غريبة، ليست جيدة ولا سيئة، لكنها غريبة. فهي شخصية محبوبة من الجميع، لكنها غريبة تلقي خطابات غريبة، تتظاهر كأنها ثاتشر لكن لا تريد لأحد أن يشبهها بثاتشر.

المفاوضات معها أشبه بالحديث مع شخص أصم.
وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن ليزا تراس.

هذا التناقض في كونها تُبشر بريطانيا بمزيد من التجارة الحرة، في حين أنها بنفسها أشرفت على خروج بريطانيا من أكبر اتفاقية للتجارة الحرة. وكانت معارضة للبريكست لكنها أشرفت بنفسها على الخروج منه، فسرته ليزا بأنه بعد وجود بريطانيا لمدة 50 سنة في الاتحاد الأوروبي فقد أصبحت جميع الأدوات السياسية في يد بريطانيا، مثل الدبلوماسية والأمن والتجارة والتنمية، لهذا فالخروج من الاتحاد الأوروبي بمثابة إعادة بناء لعضلات بريطانيا من جديد.

ولا ترى ليزا نفسها دبلوماسية. فقد صرّحت بأنه لا أحد يصفها بالدبلوماسية، لأنها ليست دبلوماسية، فهي تتخذ الموقف الذي تراه صوابًا دون مواربة، لكن أكبر ما يكشف توجهاتها في الفترة الحالية هو الحرب الروسية- الأوكرانية. وحتى الآن فهي تدعم فرض المزيد من العقوبات على روسيا، وتدعم زيادة الإنفاق الدفاعي، وتصر على ضرورة هزيمة روسيا وليس استرضاءها.

ليست المرأة الحديدية

تعرضت تراس لانتقادات بسبب برنامجها الذي يركز على مناهضة توزيع الإعانات. وبرنامجها ينص على ربط الأجور بتكاليف المعيشة كل فرد في منطقته، وهو ما أثار موجة من السخط لأن ذلك سيعني أن الموظفين خارج لندن سيحصلون على رواتب أقل من نظرائهم في لندن، فتراجعت عما تريد، ولا أحد يتكهن بماذا سيكون موقفها من اللاجئين بعد، خصوصًا أنها من مؤيدي برنامج رواندا لترحيل اللاجئيين غير الشرعيين.

وصرّحت تراس بأن ترامب قال العديد من الأشياء التي ثبتت صحتها بعد ذلك، ومن ذلك كلامه عن أن الصين سرقت غذاء الولايات المتحدة، وأنها تؤيد اتباعه في ما يتعلق بنهج أكثر تشددًا مع الصين، لكن لا يثق محللو الداخل البريطاني في أنها ستفعل ذلك، فتراس تبحث عن فاكهة سريعة النضج لتقدمها للناخبين، وهو ما يتجلى في برنامجها الهادف إلى خفض الضرائب بقمية 30 مليار جنيه إسترليني.

هذا البرنامج سيقدم نتيجة سريعة وحلوة المذاق للشعب البريطاني، لكنه طعم مؤقت، فخفض مصادر دخل الدولة في ظل أزمة اقتصادية كاسحة سيخلق أزمة أعمق تأثيرًا على المدى الطويل، كما أنها يجب عليها إقناع الناخبين بأنها ليست مجرد امتداد لجونسون، خصوصًا وأنها لم تستقل من الحكومة، وبررت ذلك بأنها وفيّة لرئيسها، تلمح بذلك على استقالة زملائها التي أدت لاستقالة جونسون في نهاية الأمر.

تراس ليست المرأة الحديدية، لكنها امرأة زئبقية ربما، مرنة إلى حد ما، وانتهازية بدرجة كبيرة. والانتهازية ليست أمرًا مذمومًا في السياسيين، لكن في حالة ليزا تبدو المرونة أكبر من المعتاد، فالانتهازية عندها قد تكون هي الأيديولوجيا نفسها، فثاتشر حين انقلب الناخبون عليها خسرت منصبها وحزبها وتأييد الناس، لكنها رحبت بذلك في سبيل تنفيذ ما آمنت به، لكن لا يبدو أن تراس مستعدة لتدفع مثل هذا الثمن.