في شهر واحد، مدة حكم رئيسة الوزراء البريطانية ليزا تراس، رحل ثلاثة وزراء تباعًا. آخرهم كانت سويفلا برايفرمان، وزيرة الداخلية. سويفلا قالت إن استقالتها نتيجة مخاوف جدّية من التزام الحكومة بالوعود التي قدمتها للناخبين. قبل بخمسة أيام كانت استقالة، إقالة، وزير المالية كواسي كوراتنج بسبب قرار خفض الضرائب والموازنة المصغرة. قبل وزير المالية بأيام قلائل كانت إقالة وزير السياسة التجارية كونور بيرنر. التبرير الرسمي كان ارتكابه سلوكًا جسيمًا غير لائق.

خطوة للخلف سوف نكتشف أن المال والتجارة هما الرابط بين أحاديث الوزراء الثلاثة قبل استقالتهم. وعلى رأسهم بالطبع وزير المالية، رأس حربة ليزا تراس في تنفيذ خطتها المالية. تلك الاستقالات وصلت أخيرًا في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 إلى قمة الهرم، تراس نفسها. أعلنت السيدة التي دخلت دوانينج ستريت منذ 6 أسابيع استقالتها، وأنها سوف تسيّر الأعمال لحين انتخاب رئيس وزراء جديد.

الخطة التي اعتذرت عنها تراس، هي الخطة التي أطاحت بها، خطة الموازنة المصغرة. في نهاية سبتمبر/ أيلول 2022 قدّم كواسي، وزير المالية آنذاك، تلك الخطة. تدور الموازنة حول خفض الضرائب بشكل كبير، يرافق ذلك الخفض دعم قوي وكبير لفواتير الطاقة. الخفض الكبير لن يكون الأقل دخلًا أو الأكثر احتياجًا فقط، بل على الأعلى رصيدًا بنسبة أكبر. تراس كانت ترى أن خفض الضرائب على كبار رجال الأعمال، بصفتهم موّلدي المال، سيؤدي إلى تنشيط السوق وجذب الاستثمارات. ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تحسن أحوال الجميع، عبر تدفق الرفاهية والمال من قمة الهرم إلى قاعدته.

رد فعل السوق كان عنيفًا على تلك الموازنة. فالجنيه الإسترليني تراجع إلى أدنى مستوياته منذ عقود، فبات الهلع يسيطر على السوق من تراجع الحسابات العامة. الأمر الوحيد الذي زاد في الشهر المنصرم معدلات الاقتراض طويل الأجل. فالاقتراض الحكومي السبيل الوحيد لتعويض نقص الموارد الذي ستعاني منه الدولة جراء خفض الضرائب على عمالقة رؤوس الأموال.

تجربة جديدة لفشل قديم

ما دفع بنك إنجلترا للتدخل لمنع كرة الثلج المتدحرجة من التضخم حتى تصبح أزمة مالية كبرى. ففي حالة الاضطرابات تلجأ الدول لثلاث وسائل لتعزيز الاقتصاد. أولًا تشديد السياسة النقدية، ثم إلغاء القروض العقارية. هذا الإلغاء ينذر بحدوث أزمة عقارية كبيرة في بريطانيا، لم تتوصل الحكومة المنتظر انتخابها لحل لتهدئة الأوضاع. كما رفع البنك الفائدة أكثر من 7 مرات، والمنتظر أن يرفعها 3 مرات إضافية. رفع الفائدة خيار وصفه محللو الاقتصاد أنه مر، لكن لا بد منه.

الخطوة الثالثة التي لجأ لها بنك إنجلترا بيع السندات بصورة كبيرة. كان الهدف من بيع السندات توفير النقود للشركات لتسيير أعمالها. لكن مع خطة تراس، الموازنة المصغرة، عكس البنك الأمر. فقرر شراء السندات مرة أخرى خوفًا من أن تسرف بنوك بريطانيا في شراء تلك السندات، خصوصًا سندات المعاش والشركات الصغرى، ما يؤدي لحدوث اضطرابات في البلاد.

كما زادت معدلات السخرية من تراس بصورة أكبر من أي رئيس وزراء سابق. السخرية عنت أن تراس لم تعد مقنعة للعامة، ولا لصُنّاع السياسات. السخرية أتت من أن تراس تريد تجربة شيء أثبتت التجارب المختلفة عدم نجاحه. وهي نظرية تنمية الاقتصاد من جهة العرض، supply side، أو ما يُعرف التنمية الاقتصادية التدريجية المنطلقة من أعلى، المعروفة بمصطلح Down Economics Trickle.

فتقليل الضرائب لا يساوي بالضرورة حدوث نمو اقتصادي. وفي الغالب لا يحدث الصورة المثالية لتدفق المال لأسفل، فالطبقة العليا تزداد ثراءً، وتحتفظ بأرباحها لنفسها. خصوصًا في بريطانيا ذات التضخم المرتفع والعملة المتدنية وأسعار الطاقة المضاعفة. والبنك البريطاني مستقل عن الحكومة منذ عام 1997، منذ منحته حكومة توني بلير الاستقلالية، بالتالي لا يجب عليه أن يلتزم سياسات الحكومة. كذلك فإن الخزينة البريطانية خاوية بسبب تقلص الأنشطة الاقتصادية في العامين الماضيين بسبب جائحة كورونا.

اعتذار ما قبل العاصفة

من الجدير ذكره هنا، أنه من المرات القليلة، ربما المرة الوحيدة تاريخيًا، التي نجحت فيها تلك الخطة هي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان. الخطة نجحت جزئيًا، ولم تكلل بالنجاح الكامل. لكن نجاحها الجزئي مرتبط بعوامل عدة غير متوفرة في النموذج البريطاني. مثل قوة الاقتصاد والعملة الأمريكية. وكون الولايات المتحدة الأمريكية قوة عظمى، تمتلك إمكانات مادية ضخمة تمكنها من التغلب على المصاعب الاقتصادية. كما يثق العالم بها، ويسعى لاقتناء عملتها وقت الأزمات الكبرى باعتبارها ملاذًا آمنًا من ملاذات الثروة.

قبل الاستقالة بساعات قليلة للغاية كانت تراس تقف وسط البرلمان محاولةً تحاشي سيل الانتقادات الجارف. خرجت لتخبر الجميع أنها تتراجع عن برنامجها الاقتصادي، لكنها لن تنسحب من منصبها. وفي محاولة، أثبتت الساعات اللاحقة أنها فشلت، عينت تراس جيرمي هانت وزيرًا للمالية. تعيين هانت في ذاته نهاية سياسية، قبل الاستقالة الرسمية، فالرجل غريمها اللدود، ونسف في لحظات كل ما وعدت به.

هانت طمأن الأسواق حيال خطة الحكومة، وحذّر من ضرورة الإدخار في الإنفاق العام. ولمح بصورة خاطفة إلى شبح التقشف، كما حدث بعد الأزمة المالية العالمية 2008. وهو الفكر المتماشي مع فكر وزير الخزانة القديم، ومنافس ليزا على رئاسة الوزراء، ريشي سوناك.

ليزا غادرت الحكومة بعد أقصر مدة قضاها رئيس وزراء في تاريخ بريطانيا. كانت السيدة في حصانة لمدة عام من أي إجراءات داخلية لعزلها. لكن التراجع المُذل عن خطتها الاقتصادية أثبت دون أدنى شك أنها لم تعد قادرة على تسيير الأمور. وسوف تُسلم القيادة لخليفتها في غضون أسابيع، أو أسبوع كما وعدت هي. ويتوقع أن يكون الخليفة المنتظر ريشي سوناك أو بيني موردنت.

كما دارت التكهنّات في الساعات الماضية عن احتمالية عودة رئيس الوزراء السابق، بوريس جونسون، للمنافسة. ما يعني أن المحافظين على موعد مع معركة مريرة جديدة. بعد 6 أسابيع فقط من نهاية المعركة الماضية.

بريطانيا تعاني وحيدة

لكن أيًا يكن الاسم القادم فإن ليزا قد كشفت بعض الحقائق للجميع. بريطانيا ليست في معزل سياسات أوروبا الكبرى، ولن يكون لها قواعدها الخاصة. فربما اعترفت ليزا أنها خلفت وعودها للناخبين، لكن هناك وعدًا أكبر قدّمه حزب المحافظين منذ 6 سنوات للبريطانين، وأثبتت الأزمة الحالية أنه غير منطقي. وعد السيادة، وعدم الدوران في فلك الاتحاد الأوروبي، وامتلاك آليات خاصة لاتخاذ خطوات وسن قوانين بريطانية الصُنع.

ذلك لأن السوق، على عموم المصطلح، أمر عابر للثقافات والقارات والحكومات. فصندوق النقد الدولي انتقد بشكل صريح ومباشر السياسة النقدية للموازنة المصغرة. قائلًا إن الوقت ليس مناسبًا لخفض الضرائب غير الموجهة، وبالحجم الذي تتضمنه الموازنة المصغرة. وأرجع ذلك لارتفاع معدل التضخم عالميًا، وتعارض السياسة الضريبية مع السياسة النقدية. وأضاف الصندوق أن تلك الموازنة سوف تزيد التفاوت بين البريطانيين، وتسحق العدالة الاجتماعية.

 وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يجنبها أزمات أوروبا، كما كانت تتوقع بريطانيا، بل جعلها تعاني أضعاف باقي الدول الأوروبية. لأنها تواجه أزماتها منفردة، دون أي دعم نقدي أو سياسي من الاتحاد.

كما كشفت تراس عن أزمة انقسام عميقة داخل حزب المحافظين. فالانقسام الأولى كان بين مؤيدي سوناك ومؤيديها. لكن في الأيام الماضية أنشأت تراس انقسامًا داخل معسكرها كذلك. ولم تستطع السيدة أن تخلق مناطق مشتركة للمؤيدين والمعارضين. ولم تحاول التوفيق بين التيارات المتصارعة داخل الحزب. لكنها عوضًا عن ذلك لجأت لأسهل الحلول، تعيين الوزراء من التيار المؤيد لها فقط. رغم أن المتعارف عليه هو تعيين بعض الوزراء من المعارضين للوصول لمصالحة. لكن قرار ليزا بتجاهل ذلك عجّل من حدوث الانفجار ضدها.

وربما لن يكون من المبالغ القول إن تراس قد قضت على آمال حزب المحافظين في الانتخابات المقبلة تمامًا. كير ستارمر، زعيم المعارضة البريطانية العمالي، دعا لانتخابات عامة جديدة. فـ«المحافظين» في رأيه فقدوا تفويضهم بالحكم. يشير الرجل إلى أن حزب المحافظين يتردى منذ أكثر من 12 عامًا في حالة من الفشل المستمر. ولعب عدد من المعارضين على هذا الوتر، قائلين إنه لا يمكن للمحافظين النقر على الأزرار واختيار ممثل جديد لهم، كما لو كانت بريطانيا إقطاعًا شخصيًا لهم.

تبدو بريطانيا عامةً، والمحافظون بخاصة، كرجلٍ يدور في بابٍ دوار. يصل عند نقطة لكنه ما يلبث أن يتحرك لنقطة أخرى. دون أن يخرج من الباب. وحين تنهكه الفوضى يقرر حزب المحافظين وضع شخص آخر مكانه. دون محاولة التفكير في إيقاف الباب الدوّار، أو معالجة أصل المشكلة.