لوليتا ضوء حياتي… نار رغبتي؛ خطيئتي… كان اسمها «لُو» في الصباح… كان اسمها «لُولا» في فسَاتينها القصيرة… كان اسمها «دُولي» في المدرسة… كان اسمها «دولوريس» على الفراغ المنقوط في الاستمارات الرسمية… ولكن بين ذراعي كانت دائمًا «لوليتا».
الروائي الروسي «فلاديمير نابوكوف».

في أواخر الخمسينيات وبمجرد نشر رواية «لوليتا» أصبحت الكتاب الأكثر مبيعًا، وانتزعت تدريجيًا مكانًا مَرموقًا بين أشهر كلاسيكيات الأدب، ولكن في الجانب الآخر الموازي لهذا النجاح كان هناك الكثير من الانتقادات الأخلاقية الموجهة للرواية، والتي تصِف علاقة رومانسية جسدية بين رجل على مشارف الأربعين وطفلة في الثانية عشر من عمرها؛ ولكن تلك الانتقادات التي وصفت نابوكوف بـ «المُسِن المُنحرف» خمدت حدتها في وجه سَيل من الترويج، ففي خلال فترة قصيرة تم تحويل الرواية إلى فيلم عظيم، ثم فيلم أعظم نال قبول الجماهير، ثم صار مصطلح «لوليتا» دارجًا في الثقافة الشعبية الغربية والعالمية لوصف الفتيات التي تنضُج جنسيًا قبل الأوان، وبدأ المصطلح يتردد على الألسُن أكثر، حتى أن «مارلين مونرو» ذكرت لوليتا حين غنت My Heart Belongs to Daddy، وتطور المُصطلح بعد ذلك في مجتمعات الأنيميشن والمانجا وتم التعارُف عليه باسم Lolicon، أي الرجال المنجذبين إلى الفتيات الصَغيرات.

ولكن هل قصَد «نابوكوف» تلك الصورة التُجارية؟ وهل استطاع خلق «لوليتا» فِعلاً كواحدة من بنات أفكاره؟ أم أنها كانت مُجرد سَرِقة أدبية أو اقتباس اجتماعي؟ وما الغرض من كتابتهَا في الأصل؟

«سلفادور دالي» أم «هاينز فون ليشبرج»؟

في بداية الثلاثينيات كتب «دالي» قصة قصيرة بعنوان «الخيال: إثارة أحلام اليقظة»، وألمح فيها إلى افتتانه ورغبته الجسدية في طفلة صغيرة أسماها «دوليتا» وكتب عنها قائلاً:

المرأة التي أحبها في خيالي تم استبدالها بفتاة صغيرة في الحادية عشرة من عمرها اسمها «دوليتا»، شاحبة ولها عيون حزينة وغامضة للغاية، ولها جسد استثنائي متطور عن عمرها؛ مشيتها وإيماءتها الكسولة مُثيرة للغاية بالنسبة لي… أمّا والدة دوليتا فهي امرأة جميلة إلى حد ما، وهي أرملة في حوالي الأربعين. [1]

وجعل ذلك البعض يرىَ في هذا تشابهًا في المضمون والاسم، مما يعني أنها سرقة أدبية، وهو ما يبدو منطقيًا، لكن الحقيقة هي أنه قد يكون مُجرد توارد أفكار، لأن فكرة انجذاب الرجل الكبير إلى الفتاة الصغيرة في أعمال «نابوكوف» لم تظهر للمرة الأولى في «لوليتا»، وإنمَا ظهرت من قبل في رواية منشورة له تحت اسم «ضَحِكة في الظلام»، كان قد كتبها في نفس العام تقريبًا الذي كتب فيه «دالي» قصتهُ، أي أنه من الصَعب تقنيًا أن تكون سرقة أدبية، فكتابة الرواية تسْتلزِم وقتًا طويلاً، مما يجعل الأقرب للظن هو أن «نابوكوف» كان يعمل على الفكرة ربما من قبل «دالي» أو في نفس الوقت على الأقل.

ولم تتوقَف الاتهامات عند هذا الحد، فقد أشار الباحث في الأدب الألماني «مايكل مار» إلى وجود قصة قصيرة منسية كتبها «هاينز فون ليشبرج» عام 1916 بعنوان «لوليتا»، تحتوي على الكثير من التشابه مع ما كتبهُ «نابوكوف».

ففي القصتين هناك رجل يقوم بتأجير غُرفة في مكان ما وفيه يلتقي بطفلة في الثانية عشر من عمرها ويقيم علاقه جسدية معها وتنتهي القصتان بموت «لوليتا»؛ واستمر الباحث في محاولة إثبات أن «نابوكوف» كان يعرف «ليشبرج»، حيث بعد بحث طويل اكتشف أن «نابوكوف» كان يُقيم في نفس الحي الذي يقيم فيه الكاتب الألماني، بل أنه كان يستأجر غرفة في منزل رجل على صلة قرابة بهذا الكاتب، مما يجعل معرفته بهذا الكاتب وقراءة أعماله أمرًا شِبه مؤكد، مما يثبتِ السرقة الأدبية في رأي «مايكل مار».

وبالرغم من منطقية التشابه بين القصتين، والصلة المُفترضة بين الكاتبين، إلا أن أي قارئ للأدب سيجِد أن «لوليتا» نابوكوف تظل أكثر إمتاعًا وأشد عُمقًا وأطول سَردًا، بل وأعظم إبداعًا، مما يجعلها تتفوق في كل شيء على ما كتبه «دالي» أو «هاينز فون ليشبرج»، ناهيك عن اختلاف تفاصيل الحبكة، لذلك تظل «لوليتا» نابوكوف مُتفردة وعملاً أصيلاً؛ ولكن…

استرجاع الفراشة

اعتاد نابوكوف أن يقضي مع زوجته أيامًا وأسَابيع متواصلة في رحلات لصيد الفراشات؛ كان يقطع فيها مسافات تصل إلى ما يقرُب من 150 ألف ميل، وخلال ذلك كان يدوِّن الملاحظات لتكوين الصورة النهائية لروايته «لوليتا»، في تشابهُ مع الرحلة التي قضاها بطل الرواية مع البنت الصغيرة خلال الولايات، قاطعين مسافات كبيرة على الطُرق. كان حُب نابوكوف للفراشات وافتتانه بهم كبيرًا بدرجة قد تمَاثل افتتانهُ بفكرة العلاقة بين الرجل الكبير والطفلة الصغيرة، والتي كرّرها على الأقل في 6 من أعمالهُ الأدبية؛ كانت الفتيات الصغيرات هُن فراشاتهُ، فكلاهما يعبران عن الجمال من وجهة نظره.

في عمر الخامسة عشر أحبْ «نابوكوف» حورية جميلة اسمها «تمارا»، أحبها حبًا شديدًا كما يصف ذلك بنفسه، ولكن بعد فتره قامت الثورة الروسية وافترقا ولم يرها بعد ذلك أبدًا؛ والمتتبِع لسيرته سيجد أنه كان من عائله أرستقراطية تحولت بعد الثورة إلى الإفلاسْ، وبذلك تم إقصَاؤه عن النعيم وذكريات الطفولة وخيالات المُراهقة وحوريته الجميلة، ولعل أكثر ما شغل «نابوكوف» دائمًا هو اشتياقهُ ورغبته في استعادة كل هذا الجمال العابر.

وفي «لوليتا» نرىَ أنه أبدع في خلق رجُل يحاول استعادة فراشتهُ الجميلة العابرة بطريقه خاطئة، حيث نجد «همبرت همبرت» بطل الرواية يتحدث عن فتاته الأولى والتي شكّلت الصورة الملائكية البريئة للجمال الأنثوي في فتره مراهقته، ولذلك حينما رأى «لوليتا» استرجع الصورة الذهنية للجمال من خياله، وأرتأى فيها الروح التي يتذكرها من طفولته، ولكنه أخطأ وأفسدها بالانغماس في هوسه بجمالها وبراءتها، دمر «همبرت» تلك الصفات نفسها وحرمها من طفولتهَا وشعر بالذنب في النهاية.

لذلك من الواضح أنه تم إساءة فهم «نابوكوف»، فمحاولتهُ المتكررة في خلق علاقة بين رجل وطفلة لم يكن يراها بهذا الشكل الجنسْي الذي تم الترويج له، ولعل ما يُثبت هذا ما قاله في حوار أجرته معه مجلة «بلاي بوي» عام 1964 حين تم سؤاله عن «الجنس» في «لوليتا»، وكان ردُه:

الجنس كمُصطلح… والجنس كمفهوم عام… والجنس كمشكلة… كل هذا أجده مُملاً ولا أحب الكلام عنه، لذلك دعونا نتخطىَ الحديث عن الجنس.

ويؤكِد هذا الكلام «فيرا» زوجة «نابوكوف»، حيث ذكرت في مذكراتها:

إن الثقافة الأمريكية الاستهلاكية سَتُفسِد حقيقة الرواية، وتُصَدِّر فكرة خاطئة تجعل الناس تُسِيء فهم «نابوكوف». [2]

والحقيقة أن هذا يُفسِّر الغرض الحقيقي من كتابة رواية «لوليتا»، والتي لم تكُن ستخرج إلى الوجود بهذا الشكل لولا الحورية الحقيقية، أو دعونا نقول الفراشة الأصلية «سَالي هورنر».

«فرانك لاسال»: الرجُل الصَقر

في مارس 1948 دخلت طفلة تُدعىَ «سالي هورنر» إلى مركز تسوق بعد تحدٍّ بينها وبين مجموعة من الفتيات عن منْ لديه القدرة على سرقة دفتر ملاحظات؛ وبعد أن قامت «سالي» بأخذ الدفتر شعرت بيد رجل تمسك بها فالتفت وإذا برجل له وجه يشبه الصَقر يخبرها أنها رهن الاعتقال فبكت وانكمشت وشعرت بالذنب. أخبرها أنها ستدخل الإصلاحية فازداد بكاؤها، وبعد أن أصبحت مُستسلمة لما سيلحق بها من عقاب أخبرها أن بإمكانه تأجيل ذهابها إلى الإصلاحية، وأنه سيبذل جهده لإنهاء هذا الأمر وأنه سيتركها ترحل الآن، فشعرت بالسعادة وذهبت.

وبعد ثلاثة أشهر فقط ظهر الرجل صاحب وجه الصقر مرة أخرىَ أمامها خلال عودتها من مدرستها إلى البيت، وأخبرها أنها يجب أن تترك البلدة الآن وتذهب معه بناء على قرار من الحكومة الفيدرالية، فشعرت بالخوف من أن والدتها ستعرف بأمر سرقتها، فكان لديه الحل حيث طالبها بأن تخبر والدتها بأنها ذاهبة إلى رحلة مع صديقاتها في المدرسة سيصطحبهُم فيها والد إحدى الصديقات، ففعلت «سالي» ما طُلب منها وتحدث الرجل إلى الأم تليفونيًا وأقنعها بأسلوب لطيف بصدق القصَة، وأن الرحلة ستنتهي في خلال أسبوع. وافقت الأم وذهبت «سالي»، ولكنها لم تعد بعد انتهاء الأسبوع الأول ولا الشهر الأول ولا حتى العام الأول.

خلال عامين ظل الرجل صاحب وجه الصقر يصطحِب «سالي» في رحلة عبر الولايات الأمريكية، وفي كل ولاية يقوم بتغيير اسمه واسمها ووظيفته ومدرستهَا، وأثناء كل هذا الوقت كان قد أفقدها براءتها وتواصل معها جسديًا كلما سنحت الفرصَة، وكان يدّعىَ أمام أي لقاء اجتماعي أنه أب أرمل وأنها ابنتهُ؛ ستبدو تلك القصة مألوفة في أجزاء كثيرة مع ما كتبه «نابوكوف»، ولعل أبرزها: فارق السن، وادعاء الأبوة، وإدخالها المدرسة ونقلها، والسفر عبر الولايات، والاعتداء الجسدي المتكرر… والكثير من التشابُهات.

الطفلة «سالي هورنر» عام 1948.

هل اقتبسْ «نابوكوف» روايته من «سالي هورنر»؟

الحقيقة أنه وزوجتهُ أنكرا هذا تمامًا أكثر من مرة، ففي خلال حوار تليفزيوني أجراه «نابوكوف» تم سؤاله عما إذا كانت «لوليتا» مأخوذة عن شخصية حقيقية، فكان رده:

في الواقع لا، فأنا لستُ على دراية جيدة بالفتيات الصغيرات؛ لذلك «لوليتا» هي من نسج خيالي.

ولكن بدا أن «نابوكوف» كان يُخبِّئ شيئًا ما، حيثُ بعد وفاته، وفي الأرشيف الذي يحتوي على ما تبقى من كتاباته وملاحظاته، تم العثور على قصَاصات كتب فيهَا معلومات تثبت متابعتهُ لقضية «سالي هورنر»، جاء في أبرزها نصًا:

ولم يكتفِ «نابوكوف» بهذا، فقد سجل في قصاصته كل ما له صِلة بالفتيات الأمريكيات قبل سن البلوغ بدقة كبيرة، فقد سجّل متوسط الأطوال والأوزان ومتوسط ​​العمر الذي تبدأ فيه الدورة الشهرية؛ وإضافةً إلى هذا قام بتدوين المُصطلحات التي يستخدمهَا المراهقون في تلك الفترة.

20 أغسطس/آب 1952
وودباين – نيوجيرسي
سالي هورنر البالغة من العمر 15 عامًا، من كامدن-نيوجيرسي. الفتاة التي أمضت 21 شهرًا في أسر مجرم أخلاقي في منتصف العمر قبل بضع سنوات. توفيت في حادث على الطريق السريع في وقت مبكر من يوم الإثنين. اختفت سالي من منزلها في كامدن عام 1948، ولم يُسمَع عنها مرة أخرى حتى عام 1950.
أما «فرانك لاسال» ألقي القبض عليه في سان خوسيه وقد اعترف بالذنب في تهمتي الاختطاف والتعدي، فقد حُكم عليه بالسجن من 30 إلى 35 عامًا في السجن بعد أن وصفُه القاضي بأنه مجذوم أخلاقيًا. [3]

وهذا يترك تسَاؤلاً: لماذا أنكر «نابوكوف» اقتباسُه قصة «سالي هورنر»، بالرغم من أنه كان يُدوِّن الملاحظات عنها من بداية اختفائها وحتى نهاية قصتها الواقعية، والتي انتهت عام 1952 بينما نشر هو روايتهُ عام 1955؟

ربما تكمن الإجابة في أن قصَة «سالي» قد حدثت بالتزامن مع كتابته لفكرة أصلية لديه، كان يُعيد صياغتها ونشرها، فجاءت الحادثة وهي تحمِل ما يشبه أفكاره، ولم يكن هذا هو التشابه الوحيد، بل إن الخاطف كان يجول بها عبر الولايات قاطعًا آلاف الأميال، وهو ما كان يفعله «نابوكوف» في نفس الفترة الزمنية مع زوجته في رحلاته لصيد الفراشات. ومن الواضح أن ذلك خلق داخله شعورًا بأن هذا السياق الذي يتقاطع بشكل كبير مع أفكاره هو سياق مُناسِب فصَاغ فكرتهُ الأصيلة الشخصية في قالب حقيقي، فكانت «لوليتا» مزيجًا من الواقع والخيال الشخصْي.

ولكن ما حدث بعد ذلك هو أن «لوليتا» تم تفسيرها بشكل مخالف لما كان يقصدُه «نابوكوف»، ويتضح هذا في مذكرات «فيرا» زوجته مره أخرىَ، والتي عبرت عن سعادتها باستمرار نجاح الرواية، ولكن في نفس الوقت غضبت من سوء فهمها، حيث كتبت قائلة:

أتمنى أن يلاحظ أحدهم الوصف الدقيق لعجز ومأسَاة الطفلة؛ وحزنها وضعفها في مواجهة ذاك القبيح، وملاحظة شجاعتها المؤلمة طوال الوقت، وملاحظة جماليتها ورسالتها وكلبها؛ وحتى خوفها.
أعتقد حقًا أنه سوف يظهر في يوم من الأيام شخصْ يُعيد التقييم، وحينها سيجِد أنني لست طائر نار عابث (يقصِد الحدأة)، بل أخلاقي صارم يقاوم الخطيئة والغباء، ويسخر من المُبتذل والقاسي، ويرىَ أن السُلطة الأسمى تظل دائمًا للُطف والموهبة.
الروائي الروسي «فلاديمير نابوكوف».

لم يُلاحظ الكثيرون سبب الفهم الخاطئ لـ «لوليتا»، ولكنه في الغالب يعود إلى أن «نابوكوف» حين حاول نشرها للمرة الأولى لم تقبل دور النشر الأمريكية، فأرسلها إلى فرنسَا، ولكن «دار أولمبيا» التي تلقت الرواية كانت تعمل على الأعمال الأدبية «الإيروتيكية» (أي المثيرة للشهوة الجنسية)، مما ألصق بالرواية حينها نظرة مختلفة عن حقيقتها، واتهام «نابوكوف» بأنه كاتب مُسِن مُنحرف.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. Reverie: An Erotic Daydream, Salvador Dali, Page 10.
  2. The Real Lolita: The Kidnapping of Sally Horner and the Novel that Scandalized the World, Sarah Weinman, Page 168.
  3. The Real Lolita: The Kidnapping of Sally Horner and the Novel that Scandalized the World, Sarah Weinman, Page 124.