فى ستينيات القرن الماضي فطنت القيادة المصرية أن لديها ذراع طويل اسمه الأزهر، يستطيع أن يشكل لها قوة ناعمة تضرب بها فى أعماق أفريقيا وأوصال آسيا، أما في أواخر التسعينيات فإن القيادة الإيرانية تعلمت نفس الدرس، وراحت تلملم ما تركه الذراع السني الطويل تحت عمائمها الشيعية في جولة جديدة بين المذهبين الكبيرين.


شيعة إيران العرب

المتابع لآليات ووسائل وطرائق نشر التشيع في العالم وخاصة في أفريقيا يعجز عن فهمها بعيدًا عن مراقبة وتحليل التحركات الإيرانية الدؤوبة، فالعلاقة بين مؤسسات الدولة الإيرانية ومنظمات المجتمع المدني والكيانات الدينية في إيران وبين المد الشيعي في الخارج شديدة الارتباط، فلا يمكن الوصول إلى نتيجة عامة يمكن من خلالها فهم أي من العامليْن يخدم الآخر. فهل يحقق المد الشيعي أهداف إيران، أم أن الدولة الإيرانية هي من تخدم متطلبات التشيع؟.فمنذ العام 1979 وبقيام الثورة الإسلامية في إيران، لاحت في الأفق بوادر ما عرف حينها بتصدير الثورة إلى المحيط الإقليمي والذي أخفى تحت عباءته دلالات التبشير ونشر المذهب الشيعي. وبمرور السنوات لم تتخلّ الكيانات الدينية في إيران عن نهجها في نشر التشيع، وتودّ الإشارة إلى أن المؤسسات الرسمية في الدولة الإيرانية كثيرًا ما تنكر أية اتهامات لها تتعلق بالسعي أو تسهيل نشر المذهب الشيعي في الدول السنّية، لذلك فإن التنظيمات المجتمعية خاصة ذات الصبغة الدينية تأخذ على عاتقها القيام بذلك.تتماشى سياسات شيعة الدول العربية وغير العربية تماشيًا ملحوظًا يكاد يوصف بالداعم أو التابع لسياسات الدولة إلى الحد الذي جعل في بعض الحالات أن يصفه الرئيس المصري الأسبق «محمد حسني مبارك» أن الشيعة في الوطن العربي يتبعون إيران، وهو التصريح الذي أثار غضبًا في الأوساط الشيعية. إلا أن التناغم بين الجماعات والتنظيمات وحتى العواصم التي تسيطر عليها تيارات شيعية والسياسات الإيرانية تظهر جلية وواضحة، وما حزب الله اللبناني وجماعة الحوثي اليمنية وتيارات المعارضة البحرينية والنظام السوري والحكومة والتيارات العراقية إلا نماذج لهذا التناغم.


أفريقيا أرض خصبة وبيئة حاضنة

تتمتع أفريقيا بسمات خاصة تجعلها أرضًا خصبة لمن أراد أن يتواجد أو يمارس دورًا، فبها مخزون قابل للاستخراج من النفط الخام والغاز والفحم واليورانيوم تقدَّر بنحو 13- 14.5 تريليون دولار، و1.7 تريليون دولار من الثروة الكامنة والإنتاج في قطاعات الزراعة والسياحة والمياه. وخلال العقد المنصرم ومع ارتفاع درجات العنف في أفريقيا، وانفصال جنوب السودان وما تبعه من محاولات إعادة ترتيب الأولويات، وكذلك موجة الثورات التي اجتاحت القارة، فضلاً عن مستويات الفقر المدقع والأمية وانتشار الأوبئة والمجاعات، جعلت الأسباب السابقة وغيرها المجال مهيئاً لامتداد وانتشار المذهب الشيعي في القارة الأفريقية.

هناك العديد من العوامل التي ساعدت على التمدد الشيعي في أفريقيا بدءًا من طبيعة الشخصية الأفريقية المتسامحة وحب المجتمع الأفريقي لآل بيت الرسول.

بجانب الأسباب الواقعية والظروف الاجتماعية والاقتصادية، كانت الشخصية الأفريقية المتسامحة والمتقبلة للآخر في إطار من العاطفة وحسن النوايا فضلاً عن محبة المسلم الأفريقي لآل بيت الرسول الكريم أحد أهم عوامل انتشار التشيع في أفريقيا، فقد فهم القائمون على نشر المذهب الشيعي هذه الشخصية واستطاعوا الولوج إليها.يتبع حوالى 78% من مسلمي غرب أفريقيا ومنطقة الساحل الطرق الصوفية القادمة من الدول العربية في شمال أفريقيا، وباتت الطرق الصوفية مرجعية دينية ودنيوية وأصبح لبعضها مؤسسات اجتماعية ودينية ذات حضور في الشأن السياسي والاجتماعي، وقاومت الطرق الصوفية المدّ السلفي في أفريقيا الذي حارب التصوف بضراوة لدرجة قيام احتجاجات واسعة في مطلع ثمانينات القرن الماضي في العديد من دول غرب أفريقيا حول مناهج المعاهد الإسلامية التي أقامتها المملكة العربية السعودية في تلك الدول؛ لمساس تلك المناهج بالطرق الصوفية التي هي عماد الإسلام في أفريقيا بميراثها الثقافي والوجداني بما يعبّر عنها من مقامات وأضرحة للأولياء الصالحين.أدرك القائمون على نشر التشيع هذه الطبيعة الأفريقية الخاصة فلم يعادوا التصوف في القارة بل تعاونوا مع الطرق الصوفية ورموزها من أجل التغلغل بين شرائح المسلمين في غرب القارة. هذا التعاون هو ما جعل تلك الطرق تغضّ الطرف عن مساعي الشيعة للانتشار قبل أن تدرك تلك الطرق الصوفية مؤخرًا الخطر الشيعي الداهم الذي أصبح يهددها في عقر دارها وبين مريديها.


روافد ووسائل التواجد الشيعي في أفريقيا

مثلت الجاليات اللبنانية الشيعية المهاجرة أول رافد لنشأة المذهب الجعفري في دول منطقة غرب أفريقيا خاصة في السنغال، حيث بدأ التواجد الفعلي بها عام 1969 بقدوم الشيخ عبد المنعم الزين اللبناني والمدفوع من قِبل الإمام موسى الصدر للعمل على نشر المذهب الشيعي في هذه المنطقة من العالم، وقد أوضح الشيخ دوره في نشر التشيع في أفريقيا في كتاب له بعنوان «مذهب أهل البيت».

بدأ الانتشار الشيعي في منطقة غرب أفريقيا على يد الجاليات اللبنانية الشيعية المهاجرة منذ العام 1969.

تمتع التمدد الشيعي بالرعاية السياسية والدبلوماسية، فبسبب الحصار على إيران منتصف عقد الثمانينيات جراء الأزمات المتلاحقة بدأ العمل على تنسيق جهود الدبلوماسية الشعبية لتأسيس وجود قوي ومنظم في هذه البلدان الأفريقية.وقد تأسست في العديد من البلدان الأفريقية جمعيات ومنتديات تدعمها كيانات دينية إيرانية، وهي متعددة ومتنوعة بجانب استخدام الشيعة العديد من الاستثمارات المالية والبشرية لنشر مذهبهم وتعزيز وجودهم السياسي والاقتصادي في أفريقيا، ومن أهم الوسائل المستخدمة في تحقيق هذه الغايات ما يمكن رصده في إقامة المدارس والمراكز والمساجد «الحسينيات» ومؤسسات العمل الخيري التي تخدم نشر الفكر الشيعي، كما يعتبر توزيع الكتب العربية والمترجمة إلى الفرنسية التي تخدم المذهب الشيعي من أهم الطرائق التي أظهرت نتائج ملموسة في نشر التشيع.وتعتبر البعثات الدراسية التي تقدمها المؤسسات التعليمية في إيران ولبنان للطلاب والشباب الأفريقي لدراسة المذهب الشيعي مؤثرة الآن في المجتمعات الأفريقية بعد عودة الأفواج الأولى التي أنهت دراستها، كما تستخدم الإستراتيجية الشيعية توطيد العلاقات مع مشايخ الطرق الصوفية في هذه البلدان سعيًا لبناء الجسور لتحقيق الهدف.


التواجد الشيعي الحالي في أفريقيا

لا يوجد حتى الآن إحصائيات دقيقة تعبر عن حجم الانتشار والتمدد الشيعي في البلدان الأفريقية خاصة في الغرب الأفريقي، إلا أن الأنشطة والممارسات الشيعية في هذه المنطقة ترقى إلى الحد الذي يمكن عنده وصفها بالظاهرة، ولا يمكن قياس تأثيرها بدقة على اعتبار أن التحولات العقائدية تتطلب عملاً دؤوبًا على فترة زمنية طويلة نسبيًا.إلا أن مصادر إيرانية تحدثت عن إحصاءات وتقديرات لعدد الشيعية في غرب أفريقيا، فوفقًا لتقديرات إيرانية يبلغ عدد الشيعة في غرب أفريقيا حوالي سبعة ملايين شيعي، وبعيدًا عن دقة ومنهاجية تلك الإحصائيات إلا أن عجلة الدعوة للمذهب الشيعي قد دارت محدثة انقسامًا في الوسط الإسلامي في منطقة مهمة تمثل ثقلاً سكانيًا يتجاوز الثلاث مائة مليون نسمة، ويمثّل الوجود الإسلامي السني أكبر كتلة إسلامية في القارة الأفريقية.وقد قام مجمع «أهل البيت» الذي يتبع المرشد الأعلى لإيران بالإشراف على عملية الإحصاء العددي للشيعة في العالم وفي القارة الأفريقية، وكانت المؤسسة قد أوضحت في تعداد سابق لعام 2008 أن عدد الشيعة في مالي مثلاً – وهي دولة سنية بالأساس – أصبح 1% من السكان، موضحة أن عدد السنة في مالي يبلغ 12 مليون شخص، فيما الشيعة 120 ألفًا، وفي غينيا فقد بلغ عدد المسلمين فيها 680 ألف نسمة، بينهم أقل من 6800 شيعي «أقل من 1%».أما السنغال وهي أحد أهم مراكز النفوذ الشيعي في غرب أفريقيا فيبلغ عدد السكان نحو 12 مليون نسمة، بينهم أكثر من نصف مليون شيعي «5%» من السكان. وقد تنامت العلاقات السنغالية الإيرانية منذ إعادتها رسميًا عام 1990، فبدأت طهران توسيع استثماراتها في البنية التحتية وصناعة السيارات حيث تم إنشاء مصنع لتركيب السيارات يعد أهم وأكبر مصانع تركيب السيارات في غرب أفريقيا، كما زادت الصادرات السنغالية إلى إيران، ومن النفوذ الاقتصادي توسع النفوذ الديني فتم إنشاء مجمع علمي في العاصمة داكار، سمّي حوزة الرسول الأعظم.


مالي وبدايات التشيع

هناك تخبط معلوماتي حول عدد الشيعة الفعلي في الدول الأفريقية، ولكن بناء على تقارير إيرانية يبلغ عددهم نحو 7 مليون شيعي.

تحتفظ مالي بذاكرة قوية عن الصراع الديني، ففي عام 2012، غزا تحالف من انفصالي الطوارق وإسلاميين مرتبطين بالقاعدة النصف الشمالي من البلاد وفرضوا الشريعة قبل الإطاحة بهم بواسطة قوات فرنسية، ولكن مؤشرات التمرد إن انخفض مستواه أصبحت جلية منذ ذلك الحين. فقد استهدف المسلحون الجيش المالي، وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وعمال الإغاثة الأجانب عبر إطلاق النار من سيارات مارة وزرع القنابل على جانب الطريق، كما أعلن التنظيم المتطرف «أنصار الدين» مسؤوليته عن هجوم مميت على مطعم شعبي في باماكو، وعلى هذا فإن ظاهرة التطرف الديني بالنسبة لمعظم الماليين تعتبر دخيلة على مجتمعهم، حيث كان المقاتلون المشاركون في أحداث 2012 من خارج مالي، ويعتبر العنف استثنائيًا في تاريخ طويل من التسامح الديني في مالي.تعتبر العادات الصوفية من العناصر هامة في ممارسة الشعائر الدينية في مالي، ويخشى البعض أنه عبر تمويل المدارس، والمساجد، والبنية التحتية المطلوبة بشدة، تخلق القوى الخارجية انقسامات لم تتواجد من قبل في البلاد، وعلى عادته في التمدد اعتمد دعاة المذهب الشيعي على المؤسسات التعليمية فتأسس في مالى عدد من المدارس تتواصل وتستمد أساليبها العلمية من طهران، وتشير تقارير أن الملحقية الثقافية الإيرانية بمالي تدير حوالي 10 مدارس، ويعد أهمها جامعة المصطفى الدولية.تقع الجامعة غرب مدينة باماكو، ويبلغ عدد طلابها حوالي 180 طالبًا، يشاركون في منهج مكثف يشمل مجالات علم التوحيد، والتاريخ، والفلسفة، واللغة العربية، واللغة الفارسية، والأديان العالمية، ويتعلمون استخدامات الحاسب الآلي الحديثة، ويتم ذلك بإشراف من المؤسسات الإيرانية، حيث تعلق فوق أرفف الكتب بمكتبة الجامعة صورة الخميني المرشد الأعلى السابق للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويمثل هؤلاء الطلبة جزءًا من المجتمع الشيعي الصغير بماليالتي تشكل فيها الأغلبية السنية ما يقدر بـ95 بالمئة من السكان، البالغ عددهم 15 مليون نسمة.وبخلاف معظم الكليات والجامعات الخاصة بمالي، والتي تستلزم رسومُا باهظة، تختار جامعة المصطفى طلابها من خارج العاصمة وتتيح لهم غرفة للإقامة ووجبات مجانية، حيث يتم اختيارهم عبر اختبارات تقدم للشباب الشيعي في أنحاء البلاد، كما تتاح فرص استكمال الدراسة في إيران للمتفوقين، فالجامعة قادرة على تقديم ذلك الدعم لكونها مدعومة من قبل الجامعة الإيرانية الحكومية في قم، التي تقدم التمويل وتضع مناهج جامعة المصطفى.ختامًا تنذر التحركات الشيعية في المجتمعات الأفريقية بصفة عامة بأخطار قادمة مع تزايد حدة العنف، وتزايد معدلات الفقر؛ مما يدفع لمواجهة هذا التمدد بتحركات من قبل دول الخليج السنية وخاصة المملكة السعودية بمذهبها السلفي الوهابي المعادي للمذهب الشيعي الجعفري؛ مما سيجعل من هذا الجزء من العالم ميدانًا لحرب بالوكالة غير محسوبة النتائج ولا يمكن إدراك تأثيراتها على نسيج المجتمعات القائمة.

المراجع
  1. Shia's in Africa,World Shia Muslims Population
  2. Shia Muslims Around the World, Imam Reza (A.S.) Network
  3. Mapping the Global Muslim Population, Pew Research Center
  4. Infographic: The World’s Muslims: Unity and Diversity, Pew Research Center
  5. The Iranian-Saudi Proxy Wars Come to Mali, Foreign Policy
  6. التشيع في القارة الأفريقية تنام بلا حدود، موقع مكتبة العتبة الحسينية المقدسة، بتاريخ 9/8/2015
  7. المد الشيعي في إفريقيا هل تحول إلى ظاهرة؟ ، موقع البرهان، بتاريخ
  8. التشيع في موريتانيا بين الحقيقة والإدعاء، موقع البرهان، بتاريخ 7/8/2015
  9. التشيع في السنغال، موقع البرهان، بتاريخ 20/12/2014
  10. الشيعة في السنغال، موقع البيان، بتاريخ 26/6/2013
  11. صراع الإرادات السعودي-الإيراني في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، مركز الجزيرة للدراسات، بتاريخ 24/11/2015
  12. نسبة الشيعة السكانية في العالم، مركز دراسات الإسلام الشيعي،
  13. 7 ملايين شيعي في غرب أفريقيا وتأسيس «مجمع أهل البيت» في غينيا،موقع جريدة الشرق الأوسط، بتاريخ 11/5/2010
  14. إفريقيا تشهد ارتفاعاً بموجة التشيّع ليصل عددهم إلى 7 ملايين، موقع العربية، 17/10/2010