على الرغم من أنه لم يكن من المعلوم انتشار مرض شلل الأطفال بشكل وبائي قبل القرن العشرين (1)، فإن تاريخ العدوى بشلل الأطفال إلى عصور ما قبل التاريخ متسببًا بالشلل والموت خلال فترة طويلة من التاريخ البشري. ظل المرض متوطنًا في مناطق محددة لآلاف السنين حتى بدايات القرن العشرين حين بدأ المرض ينتشر بشكل وبائي في أوروبا (1) ثم انتشر منها إلى الولايات المتحدة بعد فترة وجيزة. بحلول عام 1910م، أصبحت الموجات الوبائية المتكررة من الأحداث العادية في العالم المتقدم، خاصة في أشهر الصيف في المدن. وفي قمة انتشاره في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، كان المرض يصيب ما يزيد عن نصف مليون إنسان سنويًا (2).


التاريخ القديم

تظهر بعض اللوحات والمنحوتات المصرية القديمة أناسًا أصحاء ذوي أطرف ذابلة، وأطفالًا يستخدمون عصيًا لمساعدتهم في المشي في سن مبكرة (3)، وتشير بعض النظريات إلى أن الإمبراطور الروماني كلاوديوس قد أصيب بالمرض في صغره مما أدى إلى إصابته بالعرج لبقية حياته. وتعتبر حالة السير والتر سكوت أول حالة مسجلة من شلل الأطفال، حيث قيل أنه قد أصيب بحمى شديدة مصاحبة لعملية التسنين (نمو الأسنان) مما حرمه من قوة ساقه (4). لم يكن مرض شلل الأطفال معروفًا للأطباء حينها، ويعتبر الاقتراح بأن المرض الذي كان مصابًا به هو شلل الأطفال اقتراحًا قويًا اعتمادًا على التفاصيل التي قام هو بحكايتها في وقت لاحق من حياته (5)، وقد كان لضعف ساقه وحالة العرج التي أصيب بها تأثير كبير على حياته وكتاباته (6).


شلل الأطفال في الطب الحديث

قام العديد من الأطباء والعلماء بوصف أعراض مرض شلل الأطفال. وفي بدايات القرن التاسع عشر، كان المرض معروفًا بعدة أسماء مختلفة منها شلل الأسنان، شلل الأطفال الأساسي والشلل النهاري (7). وفي عام 1789م تم تقديم أول وصف إكلينيكي للمرض بواسطة الطبيب البريطاني مايكل أندروود مطلقًا عليه اسم «وهن الأطراف السفلية» (8). قام جاكوب هيني بكتابة أول تقرير طبي عن مرض شلل الأطفال في عام 1840م، وأطلق على المرض اسم «Lähmungszustände der unteren Extremitäten» باللغة الألمانية (9)، ويعتبر كارل أوسكار ميدن أول من قام بدراسة تجريبية لوباء شلل الأطفال في عام 1890م (10)، وقد أدت هذه الدراسة والوصف السابق للمرض من قبل جاكوب هيني إلى أن المرض عرف لفترة من الزمان باسم «مرض هيني-ميدن».


الانتشار الوبائي للمرض

http://gty.im/91192656

لم تكن أوبئة شلل الأطفال معروفة قبل القرن العشرين؛ حيث بدأت بعض الأوبئة المحدودة بالظهور في أوروبا والولايات المتحدة منذ عام 1900م (1). تم نشر أول تقرير عن حالات متعددة من الإصابة بمرض شلل الأطفال عام 1843م واصفًا تفشّي المرض في ولاية لويزيانا بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1841م، تبع ذلك التقرير فجوة من 50 عامًا قبل صدور تقرير آخر عن تفشي المرض في الولايات المتحدة، حيث نشر تقرير عن 26 حالة مرضية في بوسطن عام 1893م (1). حدث أول وباء معترف به من شلل الأطفال في الولايات المتحدة في العام التالي في ولاية فيرمونت، حيث أصيب 132 شخصًا بالمرض توفي من بينهم 18 شخصًا (10)، انتشر المرض بعد ذلك بدرجة أكبر في جميع أنحاء البلاد، وبحلول عام 1907م كان قد تم تسجيل حوالي 2500 حالة إصابة بالمرض في مدينة نيويورك. في السابع عشر من يونيو/حزيران عام 1916م تم الإعلان رسميًا عن وجود وباء من عدوى شلل الأطفال في بروكلين، نيويورك، في ذلك العام تم تسجيل أكثر من 27 ألف حالة إصابة بالمرض وأكثر من 6000 حالة وفاة بسبب المرض في الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر من 2000 حالة وفاة منها في مدينة نيويورك وحدها (11)، كانت أسماء الأشخاص الذين تم تأكيد إصابتهم بالمرض تنشر يوميًا في الصحف، وكان يتم وسم منازلهم بواسطة اللافتات وعزل عائلاتهم صحيًا (12). تسبب انتشار وباء شلل الأطفال عام 1916م في انتشار الذعر مما أدى إلى فرار الآلاف من المدينة متوجهين إلى المساكن الجبلية القريبة، وتم إغلاق دور السينما، وألغيت العديد من الاجتماعات، وكانت التجمعات العامة شبه منعدمة، وتم تحذير الأطفال من شرب المياه من الصنابير العامة وطلب منهم تجنب المتنزهات، وأحواض السباحة والشواطئ (11)، ومنذ ذلك العام ظهر وباء شلل الأطفال كل صيف، وكانت سنوات الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين هي الأكثر خطورة (1)، ففي عام 1949م -على سبيل المثال- تم تسجيل ما يزيد عن 42 ألف حالة إصابة و2700 حالة وفاة في الولايات المتحدة (13).

عادة ما يعاني الأطفال الصغار الذين يصابون بالمرض من أعراض بسيطة، لكنهم في المقابل يصبحون منيعين تمامًا ضد المرض بشكل دائم.

قبل القرن العشرين، كان من النادر مشاهدة مرض شلل الأطفال في الأطفال أقل من 6 شهور من العمر، وكانت معظم حالات الإصابة تقع ما بين سن 6 شهور و4 سنوات (14). عادة ما يعاني الأطفال الصغار الذين يصابون بالمرض من أعراض بسيطة، لكنهم في المقابل يصبحون منيعين تمامًا ضد المرض بشكل دائم (15). في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، خاصة في الدول المتقدمة، تزايدت المجهودات الخاصة بالحفاظ على النظافة العامة بما في ذلك مجهودات تحسين الصرف الصحي، وتوصيل المياه النظيفة للمواطنين، أدى ذلك إلى تقليل فرص الأطفال في الإصابة بالمرض وتكوين مناعة ضده في سن صغيرة؛ ومن ثم فإن التعرض للإصابة بالمرض قد تأخر حتى مراحل الطفولة المتأخرة حين تكون الأصابة أكثر خطورة ومن المرجح أن تؤدي للإصابة بالشلل (14). يتسبب المرض بإصابة واحد من كل ألف طفل مصاب بالشلل، بينما ترتفع تلك النسبة بين البالغين لتصبح واحدًا لكل خمسة وسبعين مصابًا (16). بحلول عام 1950م، انتقل العمر الذي يسجل به أكبر نسبة من حالات الإصابة بالمرض من الأطفال حديثي الولادة إلى الأطفال بين 5 إلى 9 سنوات، وكان عدد الإصابات بين المواطنين أكثر من 15 عامًا تمثل حوالي ثلث عدد الإصابات بالمرض (17). وكنتيجة لذلك، فإن معدلات الإصابة بالشلل ومعدلات الوفاة نتيجة للمرض ارتفعت هي الأخرى في تلك الفترة (1).

في الولايات المتحدة، كان وباء شلل الأطفال عام 1952م هو الأسوأ في تاريخ البلاد، ويعود الفضل لذلك الوباء في توجيه الانتباه إلى الحاجة الماسة لتطوير لقاح لوقف انتشار المرض (18)، فقد تسبب الوباء في وفاة ما يزيد عن 3100 مصاب، وإصابة ما يزيد عن 21000 بالشلل، من أصل 57628 حالة مصابة بالمرض تم تسجيلها في ذلك العام (18).

أدى هذا التاريخ الطويل من المرض والمعاناة لجعل مرض شلل الأطفال واحدًا من أكثر الأمراض رهبة في القرن العشرين، كان المرض يصيب الناس دون سابق إنذار ولم يكن من الممكن توقع من سوف يصاب. تلك المعاناة والرهبة جعلت المرض صوب اهتمام الأطباء والعلماء لتطوير علاج له، وفي المقال التالي نتتبع تاريخ تطور علاج المرض والمحاولات المختلفة لمجابهته.

المراجع
  1. The Spatial Dynamics of Poliomyelitis in the United States: From Epidemic Emergence to Vaccine-Induced Retreat, 1910–1971
  2. The end of polio is within our grasp
  3. Poliomyelitis
  4. A History of English Literature, in a Series of Biographical Sketches; Page 400
  5. WAS SIR WALTER SCOTT'S LAMENESS CAUSED BY POLIOMYELITIS?
  6. Disfigurement and Disability: Walter Scott’s Bodies
  7. A Summer Plague: Polio and Its Survivors; Chapter One
  8. A treatise on the diseases of children : with directions for the management of infants from the birth
  9. Poliomyelitis (Heine-Medin disease)
  10. Polio's legacy: an oral history
  11. Current Status of Poliovirus Infections
  12. AIDS: The Burden of History; Chapter 3
  13. Major U.S. Epidemics
  14. Post-Polio Syndrome: Pathophysiology and Clinical Management
  15. Tropical and Geographical Medicine (2nd ed.). McGraw-Hill. pp. 558–76.
  16. THE HISTORY OF VACCINES