«أرجنتين، أرجنتين، أرجنتين».

إذا أخبرناك أن الهتاف أعلاه يعود إلى الجمهور الأرجنتيني في أحد مباريات منتخبهم، أو لأحد الفرق الأرجنتينية في مواجهة فريق برازيلي مثلًا، فلن يُثير الموضوع دهشتك، لكن دعني أُخبرك أن الهتاف يَخُص جمهور نادي «مانشستر يونايتد» الإنجليزي، في ملعب «الأولد ترافورد» العريق.

يمكنك أن تتوقع أنه هتاف عابر، لتحية أحد اللاعبين الأرجنتينيين في صفوف النادي الإنجليزي. حسنًا، لقد أصبت في نصف الإجابة فقط، فالهتاف السابق تحديدًا كان لتحية مدافعهم الأرجنتيني ليساندرو مارتينيز، لكن النصف الآخر من الإجابة خاطئ، فهو ليس مجرد هتاف عابر.

سنزيدك من الشعر بيتًا، فالهتاف للأرجنتين هو جزء أصيل من هوية مشجعي مانشستر يونايتد، والأنكى أن جزءًا كبيرًا من جمهور اليونايتد سُيشجع المنتخب الأرجنتيني في كأس العالم التي تُقام في قطر هذه الأيام. فما القصة؟

أكبر من فيرون وتيفيز ودي ماريا

يعتقد البعض أن أصل هذا الهتاف يعود لعام 2001، حين تعاقد اليونايتد مع النجم الأرجنتيني «سيباستيان فيرون»، أو حين تعاقدوا مع نجم أرجنتيني آخر بعدها بست سنوات، وهو «كارلوس تيفيز» أو لـ «أنخيل ديماريا» بعده، وصولًا لـ «ليسنادرو مارتينيز»، و«أليخاندرو جيرانتشو» في هذه الأيام، لكن الأمر يعود لما هو أبعد من ذلك.

رفرفت الأعلام الأرجنتينية في الأولد ترافورد حتى عندما لم يكن هناك أي لاعب أرجنتيني في صفوف الفريق، كما تعج أكشاك الهدايا التذكارية في طريق السير مات بوسبي، المؤدي لملعب الأولد ترافود، بالبضائع التي تحمل اللونين الأزرق السماوي والأبيض، وأقراص الشمس، وهي ألوان العلم الأرجنتيني.

يتخطى الهتاف للأرجنتين كونه مجرد هتاف لأحد اللاعبين الأرجنتينيين، ليكون جزءًا من قصة أوسع تُشكل هوية اليونايتد.

حرب الفوكلاند: دم وكراهية أبدية

في عام 1982 اشتعلت حرب ضروس بين الأرجنتين والمملكة المتحدة، على إقليمين واقعين في جنوب المحيط الأطلسي، تابعين لبريطانيا، وهما: جزر فوكلاند وأقاليم جورجيا الجنوبية، وساندويش الجنوبية الملحقة بها.

كان النزاع بسبب مطالبة الأرجنتين بسيادتها على الإقليمين، مؤكدة أنها ورثتهما عن التاج الإسباني عام 1767، زاعمة أن بريطانيا استولت على الجزر عام 1833، لكن بريطانيا ردت بأنها تسيطر على الجزيرة وتديرها منذ عام 1833، وهي الأحق بإدارتها.

انتهت هذه الحرب باستسلام الأرجنتين، وراح ضحيتها آلاف القتلى من الطرفين، مخلفة وراءها عداوة إلى الأبد بين البلدين.

أثرت تبعات هذه الحرب على كل شيء بين البلدين، حتى كرة القدم. في مباريات كرة القدم في الأرجنتين هناك جملة شهيرة تُقال للشخص الذي يقف صامتًا ولا يهتف لتشجيع فريقه، وهي: «من لا يهتف، فهو إنجليزي»، وكأن نعت أحدهم بكونه إنجليزيًّا يُعد أعلى درجات الخيانة بالنسبة للأرجنتينيين.

فما الذي يجعل جمهور فريق إنجليزي مثل مانشستر يونايتد يهتف للأرجنتين بالرغم من هذه العداوة في كل مبارياته تقريبًا؟

ديفيد بيكهام هو السبب

في كأس العالم 1998، الذي أُقيم في فرنسا، كان المنتخب الإنجليزي على موعد مع المنتخب الأرجنتيني في أحد لقاءات دور الـ 16. وضع الإنجليز نُصب أعينهم الانتقام لما حدث في المباراة الشهيرة التي جمعتهم بالأرجنتين في ربع نهائي مونديال المكسيك 1986، والتي حسمها هدف ماردونا الشهير بيده في مرماهم.

كانت الأمور في المباراة تسير على ما يُرام، حتى قرر ديفيد بيكهام نجم نادي مانشستر يونايتد حينها، ضرب متوسط ميدان المنتخب الأرجنتيني دييجو سميوني، أمام أعين الحكم، ليقوم بطرده مباشرة. انتهت المباراة بفوز الأرجنتين على إنجلترا بركلات الترجيح، وصار بيكهام أكثر شخص مكروه في العالم بالنسبة للإنجليز.

لم تكن العلاقة بين جمهور مانشستر يونايتد وجماهير الفرق الإنجليزية على أفضل حال، لكنها وصلت إلى الحضيض بعد مونديال 1998. حيث قُتل بيكهام نقدًا في كل أرجاء إنجلترا، داخل وخارج الملاعب بمحتلف انتماءاتها، حتى إن صحيفة الديلي ميرور الشهيرة طبعت وجهه على لعبة السهام، كما تم تعليق دمية له مشنوقة خارج حانة في جنوب لندن.

كانت المباراة الأولى لليونايتد بعد مونديال 1998، مع فريق ويستهام على ملعبه، أُلقيت صافرات الاستهجان على بيكهام طيلة التسعين دقيقة من قِبل جمهور ويستهام، لتهتف القلة الحاضرة من جمهور يونايتد باسم الأرجنتين طيلة المباراة، وصار من وقتها الهتاف للأرجنتين جزءًا لا يتجزأ من ثقافة مشجعي اليونايتد، وشاهدًا أصيلًا على عداوتهم لإنجلترا، التي لم يكن موقف بيكهام – بالرغم من جوهريته – هو سببها الوحيد.

الجميع يكرهوننا

إذا كان هناك سبب يجعل الجماهير الإنجليزية من جميع الأعمار في جميع أنحاء إنجلترا تكره يونايتد كثيرًا، فهذا ليس فقط بسبب الانقسام بين الشمال والجنوب الإنجليزي، ولكنه يُعزى بشكل أساسي إلى النجاح الذي تمتع به هذا النادي لسنوات عديدة من تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن.

لا يبذل مشجعو إنجلترا أي جهد لإخفاء غيرتهم من نادي مانشستر يونايتد، ويمكن تجربة ذلك خلال أي مباراة دولية، حيث غالبًا ما تستهدف الهتافات المشينة لاعبي يونايتد بشكل خاص. بالرغم من أن لاعبي اليونايتد شكلوا جزءًا مهمًّا من تاريخ المنتخب الإنجليزي، لمَ لا، والهداف التاريخي للمنتخب الإنجليزي، هو واين روني، نجم نادي مانشستر يونايتد برصيد 52 هدفًا.

أدت هذه الكراهية إلى توليد إحساس دائم من طرف اليونايتد كإدارة ولاعبين وجماهير بكراهية الجميع لهم. دائمًا ما تحدث المدرب التاريخي لمانشستر يونايتد السير أليكس فيرجسون عن هذه الكراهية، ووُضِعت من قِبله في سياقات مختلفة على مدى أكثر من عشرين عامًا، للمطالبة بحقوق يراها مشروعة لفريقه، ولا يستطيع الحصول عليها مباشرةً. 

أدى ذلك أيضًا إلى كراهية متبادلة من جمهور اليونايتد الذي تبنى في أغانيه لتشجيع فريقه أغاني معادية لإنجلترا، كردة فعل لما يفعله معهم الجمهور الإنجليزي، ومنها الأغاني التي تتحدث عن الأرجنتين، والتي تُثير حنق الجماهير الأخرى بمجرد التلفظ بها، وهو رد الفعل الذي تسعى له جماهير اليونايتد بشكلٍ أساسي.

يتحدث «نيكي ويلش»، مدرب في أكاديمية مانشستر يونايتد للشباب، في كتابه «My United Road»، عن التغير الذي لاحظه في تغير علاقة الجماهير الإنجليزية بجمهور اليونايتد، وكذلك علاقة جمهور اليونايتد بمنتخب إنجلترا، قائلًا:

اعتدت السفر لتشجيع منتخب إنجلترا منذ الثمانينيات، أتذكر أنه كان ينضم إلينا العديد من جمهور اليونايتد، لكن بمرور الوقت، ومع نهاية التسعينيات، لم أعد أشهد أحدًا منهم. تزامنت التسعينيات مع سنوات مجد يونايتد، كانت هناك أوقات كان فيها دعم يونايتد يعني أنه يمكن استهدافك من قبل مشجعين آخرين في مباريات إنجلترا، ثم كانت هناك الأغاني المعادية لجمهور اليونايتد، والتي كانت تُسمع بانتظام في مباريات إنجلترا خلال تلك الفترة.
نيكي ويلش

أكبر من إنجلترا

وصلت الأمور بين جمهور اليونايتد والجماهير الإنجليزية إلى طريق مسدود، حتى إنه في الذكرى الخمسين لمأساة ميونيخ الجوية، التي راح ضحيتها 23 من أعضاء فريق اليونايتد. كان اتحاد الكرة مدركًا للثقافة المناهضة لليونايتد، حيث قرر أنه يجب أن يكون هناك دقيقة تصفيق لهذه الذكرى بدلًا من دقيقة الصمت التقليدية، لم يثق الاتحاد الإنجليزي في التزام مشجعي إنجلترا بالصمت.

كل هذه التراكمات أدت إلى إصرار جماهير اليونايتد على أن فريقهم أكبر وأهم من إنجلترا نفسها، حيث يعلقون لافتة في كل مباراة لهم للتأكيد على هذا الأمر، والنقطة الأخرى كانت ولا تزال الغناء للأرجنتين، نكايةً في الجميع.

يقول «بيت بويل»، أحد المشجعين المنتظمين لمباريات يونايتد، وهو شخصية مشهورة في أولد ترافورد وينسب إليه الفضل في ابتكار بعض الأغاني الشهيرة لليونايتد:

نظر بعض الناس إلى مشكلتنا بعمق شديد عندما بدأنا نغني للأرجنتين في المباريات. يعتقد البعض أن ذلك عدم احترام بسبب حرب الفوكلاند. لكن هذا لم يكن أبدًا عدم احترام من وجهة نظري، نحن نريد أن نقول لهم إننا موجودون، ولا نستحق كل هذه الكراهية.
بيت بويل أحد مشجعي المان يونايتد

كما يقول«بارني شيلتيرن»، محرر موقع «Red News» في «United Fanzine»:

لقد تحدثت إلى الزوار الأرجنتينيين في أولد ترافورد، وقد شعروا بالدهشة من ذلك وأحبوه، إنه ليس موقفًا سياسيًّا، لكننا كنا نحمي لاعبينا.

يؤكد بارني أنه يتمنى التوفيق لفريق ساوثجيت في كأس العالم بقطر 2022، لكنه عنده يقين أيضًا أن فئة كبيرة من جمهور اليونايتد ستتمنى فوز الأرجنتين باللقب، وستقف لتساند ميسي ورفاقه طيلة البطولة.