إن الظواهر الاجتماعية مهما بدت تفاهتها هي ثمار سيرورات أكثر تجذّرًا وجدية. تكشف هذه الظواهر في حال تمحيصها عن بنى الإنتاج والاستهلاك والثقافة وحركة رؤوس الأموال والقوى وتمثّلات السلطة المادية والرمزية في المكان والزمان المعيّنين. مهمة التمحيص هذه التي يضطلع بها الباحث الاجتماعي لا تنشأ من موقع متعالٍ، إنّما من موقف منحاز في معركة السيرورات الاجتماعية يبغي لنفسه انتصارًا.

بالتأكيد وفقًا لما سبق، فإن كورس «الشفاء من الحب» ليس مزحة سمجة تحلّق وحدها بعيدًا عما ينتجه المجتمع وما يحتاجه. الشفاء من الحب قد يكون أكثر ما يحتاجه المجتمع أخيرًا بعد أن فقد كل كوابحه التي عرقتله عن اللحاق بركب العولمة النيوليبرالية الحديثة. تلك التي اجتهد عالم الاجتماع البولندي الشهير زيجمونت باومان في رسم معالمها عبر سلسلة السيولة (الحداثة السائلة- المراقبة السائلة – الحب السائل …). بإمكاننا والأمر كذلك أن نلجأ لباومان لاستخلاص مقاربة تفسيرية تخبرنا لمَ أصبح الشفاء من الحب ممكنًا ومرغوبًا؟

كما ذكرنا آنفًا، لا تقف سلسلة باومان موقفًا متعاليًا محايدًا، بل تشنّ هجومها على الحداثة من موقع نماذجي (paradigmatic) يضع فيه الحداثة (وهو المصطلح الذي يطلقه على المجتمعات الحديثة التي وصلت ذروة التحديث بأركانها الثلاثة: علمانية – عولمة – نيوليبرالية، وليس مجتمعات التحديث أو عصر التنوير بمصطلح كانط التي سارت على طريق العقل – الأمة القومية – الاقتصاد الصناعي) مقابل النموذج ما قبل الحداثي، وهي نفس مقاربة (المجتمع التراحمي – المجتمع التعاقدي) التي يتّبعها عبد الوهاب المسيري، وقريبة من مقاربة (الحكم الإسلامي – الدولة الحديثة) التي يتبعها وائل الحلاق.

آفة هذه المقاربة هي الطُّهورية المتخيّلة التي يتمظهر بها كل نموذج مقابل الآخر، معلنًا تفرّده الكامل نقيًا من كل الشوائب ومعاديًا. على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى مقاربة (العلمانية – الوحي)، فالمجتمع الحديث وإن كان يرفع شعار العلمانية، لم يسلَم من ارتدادات دينية إلى المجال العام، وحضور لافت له في شؤون الاجتماع، مقابل مجتمعات الوحي التي لم تخلُ يومًا من علمانية شائبة. لم يكن هناك بدٌّ من هذه الإشارة قبل الغوْص في سرد مقاربة باومان للحب السائل، ولماذا يجب علينا أن نشفى من الحب ولو عن طريق دورة يقدّمها وليد خيري؟


استهلاك الحب

النطاق المركزي الذي يؤسس باومان الحداثة السائلة عليه هو العلمانية الشاملة، أي قتل العالم الآخر وإلحاق الغيب بالزمن الراهن. لا تستطيع هذه العلمانية قتل الغيب نفسه مهما سعت، فهو خصيصة من خصائص الزمن، لكنها ربطته بالعالم الدنيوي. بعبارة أخرى، تخبرنا الحداثة أن كل ما سيتحقق، سيتحقق هنا قبل الموت. بهذا يفقد الموت كونه حدثًا ويتحول إلى حد يعلن نهاية كل الأحداث.

تفقد في المقابل الحياة وحدتها، أي معناها الذي يؤسس ترابطها وتتشظّى إلى مجموعة من الأحداث؛ كل حدث هو «آخرة» الحدث الذي يسبقه و«دنيا» الحدث الذي يليه. والموت هنا هو الاستهلاك أو الاستنفاد. كل شيء في الحياة إذن يخضع لمنطق الاستهلاك والاستنفاد في ظل الحداثة؛ حتى الحب والعلاقات العاطفية والإنسانية.

هذا الاستهلاك الحداثي يحوّل الإنسان إلى ذات مستهلِكة بتعبير باومان، مقابل الذات المنتِجة ما قبل الحداثة. ففي حين تقتنص الذات المستهلِكة لحظة الحياة لتمارس الإفناء، يسعى الإنسان المنتج إلى بناء متواصل متحملًّا أعباءه ومشاقّه عارفًا أنه لا بد حاصدٌ نتائج هذا الجهد؛ إن لم يكن في الدنيا ففي عالم ما بعد الموت.

يؤسّس إنسان ما قبل الحداثة المنتِج بناه الاجتماعية وثقافته وعاداته وتقاليده وثقافته وعلاقاته (المصاهرة والنسب) على هذه القاعدة، بينما يتخفّف الإنسان المستهلِك تحت وقع السيولة الاقتصادية والإنتاجية والسياسية والاجتماعية التي يغرق فيها من عبء هذه البنى مفضّلا إشباع رغبته اللحظية. يشير باومان إلى أن استعمال مصطلح الرغبة هنا هو استعمال تعسفي؛ فما تعد به ثقافة الاستهلاك ليس إشباع الرغبة التي تتطلب تعهدًا ورعاية، بل تحقيق الأمنيات التي تسوّقها آلات الدعاية والأمنية التي ما إن تتحقق حتى يبحث الإنسان عما يليها.

بحسب باومان، ما من شيء أقرب إلى الموْت من الحب، فظهور أحدهما هو ظهور واحد منفصل، لكنّه ظهور نهائي لا يقبل التكرار. إذا فقد الموت قدرته على أن يظل واحدًا نهائيًا لا يتكرر، وتم اختزاله في موت الرغبة أو نفاذها، كان لزامًا على الحب أن يتبعه، فما الحب إلا تجاوز هذا الموت. تحت ظل الحداثة، يتشظى الحب ليصير سلعة، إن كان الحب وعاءً حاملًا لرغبات ومضامين عديدة كالاتصال الجسدي والأمان المادي والمعنوي وتحقيق الذات والتعاطف والبذل والتضحية. يصير لزامًا على المستهلك إلقاؤه بعيدًا، أو الشفاء منه بتعبير وليد خيري، ما إن تُستهلَك هذه المضامين وتستنفد هذه الرغبات. من ثمّ عليك التوجه مرة أخرى إلى السوق التجاري لشراء حب جديد.

لماذا يخشى الإنسان المستهلك من الحب طويل الأجل الذي لا يفرقه سوى الموت؟ لأنه يغرق في سيولة العالم الحديث ومن يخشى الغرق يجب عليه التخفف من الأعباء. والآن ماذا يعنيه باومان حقًا بمصطلح السيولة؟ أول مظاهر هذه السيولة من وجهة نظر باومان هو تفكك الروابط العائلية الممتدة وبنى الضمان الاجتماعي الاقتصادي التي كانت علامة على وحدة المصير والوجود في المجتمعات ما قبل الحديثة، واستبدال مفهوم الهوية المشتركة بمفهوم المصالح المشتركة.

لا يقتصر الأمر على البنى الاجتماعية، بل لم تعد أدوات وأساليب الإنتاج وحيازة الثروة تحظى بأي نوع من الثبات يؤهّل المرء للسعي دون قلق عالما أنه لابد يومًا سيصل. السهولة التي تنتقل بها رؤوس الأموال وأدوات الإنتاج، وبزوغ عصر اقتصاديات الخدمات وريادة الأعمال والمضاربات المالية، وانزواء مفهوم العمل بسبب التطور التقني مفسحًا المجال لسيادة (الفكرة – المعرفة – السوق العالمي) جعل من المستحيل على الإنسان المستهلِك الرهان على مستقبل لا ينفكّ يتغير باستمرار.


استثمار الحب

يجب الشفاء من الحب لأنه استثمار بلا جدوى، لأن أقل ما يعِد به، وهو الجنس، لم يعد مشبِعًا للرغبة. يرى باومان أن عملية العلمنة ونزع الميتافيزيقا لم تفوّت حتى الجنس، إذ نزعت عنه غطاءه الثقافي ورفعت عنه مهابة الإثارة والغموض، وجرّدته من أهدافه العليا مثل التكاثر وتقوية الروابط العاطفية. في المقابل حوّلته هذه الميتافيزيقا إلى فيزيقا، أي سلّطت الضوء على الأداء الجيد أثناء الجنس بدلا من النشوة، وحوّلته من ثقافة إيروتيكية إلى علم لا مجال فيه للغموض ولا الإشباع الروحي. في المقابل، تولّى العلم مسؤولية تسليع التكاثر وإنجاب الأطفال.

حتى وإن كان الحب استثمارًا مكلفًا وغير مشبع، إلّا أنه قد ينجح أحيانًا في تجاوز الجيب العلوي وشق طريقه إلى طبقة أعمق من وعي الفرد، حينها يصبح مرضًا يعد وليد خيري بالشفاء منه في كورس منهجي يتبع محاور هي:

* كيف تخرج من علاقة حب مؤذية؟ وهي العلاقة التي يصفها باومان بالاستثمار الخاسر الذي يجب الانسحاب منه.

*حبوب النسيان وقواعد الهجر والنجاح خير انتقام: تدور هذه المحاور الثلاثة حول التخلص من الآخر والارتداد إلى ما يسميه تشارلز تايلور في كتابه «منابع النفس»: «الشخصية النرجسية» التي يفرزها نمط الحياة في المجتمع النيوليبرالي المولع بالفردية والتفاصيل الشخصية.

* الحياة تبدأ بعد الانفصال: يحمل هذا المحور وعداً غيبياً بما بعد الموت أو انقضاء الحب.

*الوقوف على أرض صلبة من جديد: لا تعني هذه الأرض الصلبة سوى سوق علاقات الحب التجارية لشراء حب جديد يسع الجيب العلوي بعد نفاد الحب السابق.

تتبع محاور الدورة إذن بوعي أو دون وعي التوصيف الذي يضعه باومان للحب السائل. تعي هذه الدورة التغير الذي طرأ في نظرة المجتمع إلى الحب وتعي حاجة الإنسان الجديد إلى من يقوده في رحلاته العاطفية الاستهلاكية. لكن المفارقة أنه في حين يقدّم وليد خيري إجابته للتعامل مع الواقع الجديد ويعد بالشفاء من الحب لا يبدو أن هناك من يقدم بديلاً حقيقياً للنجاة من هذه السيولة ولا حتى من أخضعوها لمجهر نقدهم ومبضع تشريحهم.

يشير الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر إلى نزعة مهمة في النقد الاجتماعي حين يقول: «إن الأشياء لا تكشف نفسها للوعي إلا عن طريق الإحباط الذي تسببه، أي إفلاسها واختفائها واخلافها لما هو متوقع منها وعدم الوفاء بوعودها». من هذا المنطلق لا تظهر الحداثة فعلا على مسرح النقد الاجتماعي محتلّة مركز الضوء إلا بعد إخفاقها في تنفيذ وعودها. هذا الإخفاق لا يتم إدراكه إلا بعد أن تستنفد الحداثة إمكاناتها، وتظهر في أقصى مدى ممكن لها. لا عجب إذن أن تكون سيادة النيوليبرالية ونقد الحداثة وجهيْن لعملة واحدة. من هذا المنظور لا يعزّز هذا النقد إذن أي إمكانية لتجاوز الحداثة؛ بل هو معبّر عن الإخفاق في إيجاد بدائل اجتماعية للتعامل مع الواقع الذي أنتجته.