ما الحب؟

قد يكون أحد أكثر الأسئلة التي طرحها البشر يومًا ما، والتي نميل في كثير من الأحيان للإجابة عنه بطريقة رومانسية تتناسب مع الأطر التي وضعتها فيها الثقافة وانطبع عن طريقها في عقولنا، ولكن بمرور الوقت نعرف العديد من الإجابات الأخرى، إجابات فلسفية عديدة، إجابات ذات طابع علمي طبيعي يظهر فيها الحب كشبكة من المواد الكيميائية، أو من وجهة نظر علم النفس، حيث يظهر الحب كعملية نفسية متكاملة يتم فيها تعويض وإشباع احتياجاتنا النفسية، نستطيع أن نرى الحب كذلك من وجهة نظر العلوم الإدراكية؛ علم الاقتصاد السلوكي ومجالات عديدة أخرى.

السبب الذي يجعل ذلك ممكنًا ليس كون الحب هو أحد هذه الأوصاف، من منظور أحكام القيمة التي تعدمه أهميته، ولكن السبب هو كون الحب مثله مثل الحياة والعالم الذي صنعناه، أي كون الحب خبرة أو تجربة متعددة المستويات، تتجاوب فيها أصداء لجوانب عديدة داخلنا، تتفاعل معه ومع العالم في حالة خوض التجربة، فهنالك وسائل عدة للتعبير وللوصف لما نمر به حينما نخبر الحب، وهنا سنرى جوانب خاطفة وبسيطة وعلى الأغلب إشكالية من تلك العاطفة، من خلال أعين ورؤى «الانحيازات المعرفية» كما عرضها «دانييل كانيمان» في كتابه «التفكير: السريع والبطيء».

التفكير السريع والبطيء

في عام 2002 تلقّى عالم النفس الأمريكي «دانييل كانيمان» جائزة نوبل للعلوم الاقتصاديّة، عن عمله المشترك مع زميله «عاموس تفيرسكي» في مجال إصدار الأحكام واتخاذ القرار، وهو موضوع بحثهما الذي استمر لسنوات طويلة، والذي ينتمي لعدة مجالات علمية في آن، مثل علم النفس الإدراكي، وعلم النفس الاجتماعي، وكذلك علم الاقتصاد السلوكي.

بعد نحو تسع سنوات من ذلك أصدر دانييل كانيمان كتابه «التفكير: السريع والبطيء»، والذي يعرض فيه نتائج أبحاثه في المجال سابق الذكر، ويشمل الكتاب مقارنة بين نمطين من التفكير يستخدمهما العقل البشري في تناوله للعالم.

النمط الأول، هو نمط التفكير السريع الذي نستخدمه أغلب الوقت في التعامل مع المواقف الحياتية اليومية، فهو المسئول على سبيل المثال عن القيام بالعمليات الرياضية البسيطة، فإذا كنا نرغب في معرفة ما هو حاصل جمع 2+2، فنمط التفكير السريع في عقولنا سيستخرج إجابة مثل ذلك السؤال من الذاكرة بشكل تلقائي وفوري، وهو ذاته المسئول عن بعض الأعمال التي تبدو استثنائية، والتي يقوم بها أهل الخبرة في مجالاتهم.

إن لاعب الشطرنج المحترف الذي نراه يتخذ قراره في وقت لا يكاد يُذكر حيال حركته التالية على الرقعة أو ينصح أحد اللاعبين باتخاذ خطوة بعينها صحيحة تمامًا بمجرد إلقاء نظرة واحدة على رقعة الشطرنج، يكون نمط التفكير السريع لديه هو المسئول عن مثل تلك القرارات، والتي يقوم بها بناءً على مئات أو حتى آلاف المرات التي مارس فيها اللعبة مسبقًا، وهو المسئول على الأغلب عن ذلك الشيء الغامض الذي ندعوه «الحدس».

أمّا النمط الثاني، فهو نمط التفكير البطيء وهو يعد النمط الواعي من تفكيرنا، والذي نحتاجه معظم الوقت لمواجهة المواقف الجديدة التي لا نمتلك خبرات سابقة تساعدنا على معرفة كيفية التعامل معها، فهو النظام كما يسميه «كانيمان»، أو النمط الذي نستخدمه لنستطيع التوصل لحل مسألة حسابية معقدة أو للتعامل مع مواقف عدة تتطلب درجة مرتفعة من التركيز والقيام بقدر من الجهد لمعالجتها.

يمتاز النظام الثاني للتفكير بكونه أقل عرضة لارتكاب الأخطاء، وهذا لا يعني بالطبع أنه أكثر أهمية أو نجاحًا في التعامل مع جوانب الحياة بصورة عامة، وحتى منها تلك التي تتطلب اتخاذ قرارات عقلانية متمهلة، ولكنه أقل عرضة للانحيازات المعرفية التي قد يقع ضحية لها.

أول الحب

تبدأ قصتنا حينما يلتقي شخصان ويقعان في الحب، يرى «ثيودور رايك» في كتابه «سيكولوجية العلاقات الجنسية» الكيفية التي يشعر بها المحب بعاطفة الحب تجاه المحبوب، أول الأمر كوسيلة لتعويض ما يشعر بنقصانه في ذاته، فحين يلتقي المحب شخصًا ما في سياق مناسب، فإن استيهاماته العاطفية حول المحبوب يخلقها إلقاء المحب بظلال نواقصه حول شخصية المحبوب، فهو يود من خلال شعور الحب أن يدمج في ذاته سمات المحبوب ليشعر بالكمال.

والتساؤل هنا، هل نرى بالفعل ذلك الآخر، وكيف ينسج عقلنا حوله تلك الاستيهامات التي تجعل منه في النهاية الشخص الذي نحب؟

يجيب «دانييل كانيمان» عن تلك الأسئلة من خلال مفاهيم مثل آلية التداعي والاستباق وتأثير الهالة وأثر التعرض المتكرر واليسر الإدراكي، وهي بعض الآليات العديدة التي يعمل عن طريقها وبها النمط الأول من تفكيرنا.

فحين نلتقي شخصًا للمرة الأولى ويتكون لدينا انطباع أولي جيد، وليكن من خلال المظهر الخارجي اللائق أو الجذاب، ومن خلال سلوك أو اثنين سمح لنا اللقاء الأول بملاحظتهم، يقوم النمط الأول من تفكيرنا–والقائم على مبدأ أن «ما تراه هو كل ما هناك»- بإكمال الفراغات من تلقاء ذاته بما يتناسب مع السياق.

وعلى ذلك، فالشخصيات التي يبدر منها سلوكيات جيدة وجذّابة بالنسبة لنا في اللقاء الأول، نكون أكثر ميلًا لاستباق معرفتنا بهم واستكمال باقي سماتهم من خلال ما يُعرف بآلية التداعي بما يتناسب معها، فالشخص الذي رأيناه أول مرة وكان يبدو ممّن يتسمون بالكرم، سنميل إلى تخيله كشخص لطيف وهادئ الطبع وعطوف وما يشابهها من السمات، والعكس صحيح بالطبع.

عند تكرار تلك التجربة يظهر ما يسمى أثر التعرض المتكرر، وهو الشيء الذي يجعل عقولنا تشعر براحة أكثر عندما تتعرض لمدة أطول للمثيرات نفسها، والتي تُطابِق توقعاتنا، مما يخلق متعة اليسر الإدراكي، متعة أن نعتاد شيئًا ونعرفه بسهولة ونتيّقن من مطابقته لاستيهاماتنا وتوقعاتنا.

ماذا بعد؟

يحوي الإنسان داخله ما يكفي من التعقيد الذي يُصعِّب عليه فهم دواخله، وأن يكون على وعي باحتياجاته وبالتعارض مع عالمه الخاص وعوالم الآخرين، وهو الشيء الذي يخلق الصراع في مرحلة ما، في صلة ما مع آخر، يحدث ذلك في الحب أيضًا، بل من الممكن أن نقول– من دون مبالغة- إنه يحدث في الحب أكثر من حدوثه في باقي الصلات الإنسانية، نتيجة لطبيعة صلة الحب ذاتها التي تتطلب درجة كبيرة من التداخل بين حياتين، وبالتالي تنشأ فرصة هائلة لكثير من التعارض ولكثير من الصراعات.

من الممكن للطرفين- ومن المفترض في العديد من الحالات- أن يتوصلا لوسيلة أو وسائل عدة للتفاهم وحل الصراعات، لينعما ببعض السلام وبعض مما يستطيع الحب بصورته الرومانسية أن يمنحه، ولكن في كثير من الأحيان لا يكون ذلك ممكنًا. إذًا لماذا يستمر البعض في تلك الحالات، أليس من الأفضل أن تنتهي تلك الصلات قبل أن تستنزف كثيرًا من طاقة وجهد الطرفين؟

بصورة عقلانية قد يكون ذلك صحيحًا، ففي الحالات التي تكون فيها علاقة الحب مستحيلة وفشلها محتومًا، فمن المفضل دائمًا إنهاؤها ليكون هناك فرصة لبداية جديدة من جهة، ومن جهة أخرى كمحاولة لتقليل الخسائر في الجهد والطاقة النفسية لكلا الطرفين، ولكن على مستوى تعاملاتنا التقليدية يقود قراراتنا انحيازات معرفية عديدة، فعلى سبيل المثال قد يؤدي الانحياز التفاؤلي ببعض الأشخاص إلى الاستمرار في تلك الحالة، وخصوصًا حينما تظهر دلالات لعدم إمكانية الاستمرار من البداية.

في حالات أخرى، وهي الغالبة، يستمر الأشخاص في علاقات سيئة وفشلها محتوم نتيجة لما يسميه كانيمان أثر التأطير الضيق والحسابات الذهنية وأثر تجنب الخسارة، فالأشخاص ممّن يستمرون في مثل تلك العلاقات لفترات زمنية طويلة يكون تفكيرهم نتيجة لأثر التأطير الضيق منحصرًا في قرارين فقط، إمّا الاستمرار والحظوة بمتعة انتهاء الأمر بمكسب غير مضمون، أو إنهاء العلاقة وخسارة كل ما تم بذله وصنعه وبناؤه بالفعل.

هنا تتدخل صورة أخرى لآليات عمل وانحيازات النظام الأول للتفكير، والتي من خلال أثر التأطير الضيق تجعل العالم منغلقًا على الاحتمالين سابقي الذكر وحسب، ومن خلال الحسابات الذهنية وتسجيل النقاط تجعل الخسارة تبدو هائلة، مع أن الحقيقة أن الاستمرار واستثمار جهد ووقت وعناصر عديدة أخرى لفترة أطول هي خسارة أكبر، ويأتي أثر تجنّب الخسارة في النهاية ليكون له الكلمة الأخيرة ويحسم القرار لصالح الاستمرار، إلى أن تأتي اللحظة التي لا يكون الاستمرار فيها خيارًا مطروحًا.

النهايات

تمتلك جميع القصص نهاية ما، والنهايات أحد بديهيات الحياة بصورة عامة، أمر لا مناص منه، ولكن يصعب تقبله كجزء ضروري من الحياة، يحدث ذلك أيضًا حين تنتهي علاقة حب، وهو الأمر الذي يجعلنا نفكر دائمًا في العودة، لماذا إذن لا نمضي قدمًا ونحاول مرة أخرى؟

تلعب ذاكرتنا هنا دورًا مهمًا إلى جانب مجموعة من الانحيازات المعرفية (شبيهة بتلك التي تؤثر على قرارنا بإنهاء علاقة أو تلك التي تجعلنا نقع في الحب من البداية)، فالكيفية التي يعمل بها عقلنا كذلك ينقسم في مجال الذاكرة بحسب وصف «كانيمان» إلى جانبين، جانب يسميه «النفس المستشعرة» وهو وصف لمجموع مشاعرنا خلال التجربة في وقت معايشتنا لها، و«النفس المتذكرة» وهي مجموع مشاعرنا وانطباعاتنا عن التجربة بعد انتهائها وخلال استرجاعنا لها من الذاكرة.

تشير التجارب التي قامت بها «كانيمان» مع زملائه إلى أن تأثير النفس المتذكرة لدينا دائمًا ما يكون أقوى، وهو الشيء الذي يجعل التجارب التي انتهت بصورة جيدة أو ليست بالسيئة، تترك أثرًا حسنًا في أذهاننا، بغض النظر عن مشاعرنا خلال الأوقات السيئة في التجربة حينما كانت مستمرة.

يستكمل ذلك الدور تأثير الحسابات الذهنية، والتي تجعل للصلة وزنًا وقيمة مقارنة بأي تجربة جديدة ممكنة، وتجعلنا نرغب في استكمال ما لم ينته بمكسب بالنسبة لنا. وأخيرًا يساعد اليسر الإدراكي- وهو الشعور المريح للتجارب المألوفة- على حسم القرار أحيانًا في صالح العلاقات العاطفية المنتهية وفي استعادتها أو قبول العودة إليها بدلًا من التوجه للأمام.

الفرق بين أن نعرف وأن نرى

في فصل «الإجابة عن سؤال أسهل»، يطرح كانيمان للمرة الأولى في كتابه مسألة الكيفية التي يسلك بها العقل حين اكتشافه خطأ إدراكيًا ما، مثل ذلك الذي يحدث حين نرى صورة تحتوي على خداع بصري، كصورة السهمين المتجهين للخارج وللداخل على سبيل المثال، والتي يبدو فيها أحدهما أطول من الآخر، وندرك بعد ذلك أن السهمين بنفس الطول ونعرف السبب، ومع ذلك يقول كانيمان، إننا سنظل نرى السهمين أحدهما أكثر طولًا من الآخر، فالطريقة التي يعمل بها العقل ويدرك ويعي العالم بالشكل التقليدي تشتمل على بعض الأخطاء التي لا يمكن تصحيحها إدراكيًا حتى لو وعينا بالأمر، نستطيع أن نفكر في المرة التالية التي نرى فيها الصورة ذات الخداع البصري في الحقيقة، ونخبر أنفسنا إياها، ولكن ذلك لن يُصحِّح من الطريقة التي تراها بها أعيننا على الأقل.

الأمر ذاته ينطبق على جوانب أخرى عديدة، عن كيفية رؤيتنا الحياة وكذلك عن الحب، فأن نكتشف جوانب مغلوطة من تفكيرنا في الحب لن يكون كافيًا بذاته في أن يُفكِّك من ردود فعلنا التلقائية على ما نتعرّض له من مثيرات في خبرة الحب المُعاشة، والتي تمثل بطبيعتها وعناصرها وثنائياتها المتناقضة شرطًا ضروريًا لكي نشعر بتلك العاطفة ونستمتع بتأثيرها علينا.

هناك ما لا يمكن أن نختبره أو نتحقق منه، فلا يمكن أن نختبر الحب كتجربة كلية متعددة الأوجه والمستويات والطبقات، كمصفوفة لها ناتج نهائي، لا كوحدات وعناصر ومكونات بعضها قد لا يكون مرضيًا للطريقة التي يعمل بها عقلنا وتستجيب لها عواطفنا.

لا يعني ذلك بالطبع أن نلغي تفكيرنا الواعي وأن نستسلم تمامًا لخمول النظام الثاني من تفكيرنا، وبالتالي نتعرض لتجارب سيئة نتيجة لانحيازاتنا المعرفية أو الجوانب المغلوطة من تفكيرنا، فهناك العديد من اللحظات مثلما يحدث في نماذج العلاقات السيئة التي ذكرناها مسبقًا، نحتاج فيها إلى أن يتسلم نمط تفكيرنا الثاني والعقلاني مقاليد الأمور، ويتخذ القرار بصورة واعية وبناء على معطيات واقعية وموضوعية، لكي نستطيع أن نُحيِّد قدر الإمكان من الخبرات السيئة التي تنتج عن قرارات وأحكام سيئة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.