خلال أربع سنوات فحسب قضاها بولسونارو في قيادة البرازيل تراجعت مكانة البلد دوليًا، ودخل في ما يشبه العزلة عن العالم. كثير الهفوات ويخالف الأعراف، هكذا تتفق معظم الصحف العالمية عند الحديث عنه. يصفه بعضهم أحيانًا بالفاشي، وهو نفس الوصف الذي يناديه به دائمًا منافسه الانتخابي السابق، ورئيس البرازيل الحالي، لولا دا سيلفا.

في عهد بولسونارو كانت القرارات متركزة في يد الرئيس فقط. وحين تتوسع دائرة صنع القرار قليلًا فإنها تمتد لتشمل المقربين منه، أبناؤه وقلة من المستشارين الذين يميلون لليمين المتطرف مثلما يفعل هو. لم يكثر بولسونارو السفر خارج البرازيل، فغالب الدول قد كسب عداءها. مثل جارته الأرجنتين التي صرّح عنها بأن رئيسها سيئ، وأنها اختارت رئيسها بصورة سيئة.

 كما وقف ضد المجتمع الدولي في قضايا متعلقة بالمناخ والبيئة وحقوق الإنسان. لكن في المرات القليلة التي خرج من البرازيل زار دولًا تقع في عزلة دولية هي الأخرى. مثل المجر وبولندا. وأبرزهم روسيا التي زارها قبل أسبوع واحد فقط من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. فكانت سياسة بولسونارو لا تعتمد على الترويج الاقتصادي لبلاده، بل سياسة لبناء تحالفات متطرفة خارجيًا ليحقق مكاسب سياسية داخلية.

وقضى الرجل سنواته الأربع يشتم قضاة المحكمة العليا. ويسبّ النساء والصحافيين والسكان الأصليين. وشن حملة قوية على الأفارقة، وهاجم المثليين، ووصف اللاجئين بالحثالة. كما أبدى إعجابه بهتلر، وتحسر أنه لم يقتل المزيد من الناس. ويحنّ للأنظمة العسكرية، ويتحسر على ضياع زمان الانقلابات المسلحة. ويرفض تلقي لقاح كورونا، أو توفيره للشعب، رغم مئات الآلاف التي حصدها الوباء في البرازيل. فقد حصد 700 ألف روح، كان يمكن إنقاذ ثلثهم على الأقل لو أدار بولسونارو الأزمة بشكل أكثر حكمة. وقد استقال 3 وزراء للصحة اعتراضًا على سياساته.

بولسوناور كتم أنفاس العالم

كما تغاضى، وسمح بتعبير أدق، لأصحاب المناجم ومقاولي الأخشاب بقطع غابات الأمازون، التي تُعتبر رئة العالم، فهي تضخ منفردة 10% من أكسجين العالم. وعذب بولسونارو الآلاف من البرازيليين، وتسببت عديد من قراراته في وفاة أعداد كبيرة منهم، ما يعرضه للملاحقة القانونية حال تركه السلطة.

كذلك توترت علاقات بولسونارو مع فرنسا، إيمانويل ماكرون تحديدًا، حين سخر من شكل زوجته بريجيت ماكرون. صرّحت الحكومة البرازيلية منذ شهرين بأن فرنسا دولة تافهة، ولتذهب إلى الجحيم. تلك الأشياء لم تكن مسبوقة في الدبلوماسية البرازيلية، أو في الدبلوماسية بصفة عامة. لكن بولسونارو كان يراهن في كل ذلك دعم صديق دونالد ترامب له. وهي أيضًا سابقة للبرازيل، أن تصطف مع الولايات المتحدة بهذه القوة.

بولسونارو غير معجب بالنظام الإلكتروني للتصويت في البرازيل. قال أكثر من مرة إنه نظام يسمح بحدوث تزوير دون وجود أي أدلة على ذلك. لهذا دعت اللجنة الانتخابية عددًا ضخمًا من المراقبيين الدوليين للوجود في لجان الاقتراع. جاءت النتيجة بفارق ضئيل لصالح دا سيلفا. توقع عديدون اعتراضًا من بولسونارو لكنه لاذ بالصمت.

ما وضع المجتمع في حيرة تجاه الرجل، خصوصًا أنه سوف يستمر في الحكم لفترة انتقالية حتى نهاية يناير/ كانون الثاني 2022. وأنه صرّح أكثر من مرة بأنه وصل للحكم بإرادة الله وحده، وأن الله وحده هو القادر على إزاحته من على كرسي الحكم. وكرر أكثر من مرة أنه لا يمكن أن يخسر الانتخابات إلا بالتزوير، ولو خسر فسوف يتصرف أتباعه مثلما تصرف أتباع قدوته دونالد ترامب. مشيرًا إلى اقتحامهم مبنى الكابيتول.

نصف الشعب لا يريد النصف الآخر

حالة الارتباك لم تولد في الجولة الثانية، بل أتت مع مفاجآت الجولة الأولى. استطلاعات الرأي كلها كانت تتوقع فوزًا سهلًا لليساري دا سيلفا. وأكدت غالبية الاستطلاعات أن الرجل سيحصل على ما يزيد على نصف الأصوات فيصبح رئيسًا من الجولة الأولى. لكن جاءت النتائح لتقول إن الشعب البرازيلي لم يزل محتارًا بين الرجلين. لولا وصفها بأنها صراع بين الديمقراطية والهمجية. وبولسونارو قال إنها انتخابات للمفاضلة بين الخير والشر. لكن يبدو أن كل طرف يرى نفسه هو الخير في هذه المعركة.

حتى الطبقات الوسطى، التي تُحسب دائمًا للولا، كانت هي حصان الرهان الذي جعل بولسونارو يقفز سور الـ40% من الأصوات. يُرجع المحللون ذلك أن بولسونارو يستطيع الوصول لتلك الطبقة أكثر مما يفعل لولا. فمتابعو بولسونارو يفوقون متابعي لولا بالضعف على «فيسبوك»، وثلاثة أضعاف على تطبيق الصور، «إنستجرام».

لكن تحليلات أخرى أكدت أن مؤيدي بولسونارو يرفضون الإفصاح عن ذلك. بسبب ما يصدر عنه من تصريحات عنصرية ضد منافسيه وضد العالم.

بعيدًا عن موقف بولسوناور، الذي أطفأ أضواء القصر كلها وخلد للنوم بعد ظهور النتائج، فإن من المرعب ألا يسمع البرازيليون صوت رئيسهم المنتهية ولايته يعترف بالهزيمة. وتعلو فوق أصوات أمنيات دا سيلفا وهو يأمل أن تكون الحكومة المنتهية ولايتها متمتعة بحسِ حضاري يجعلها تُسلم السلطة بلا خسائر.

وهو ما يكشف الجانب الآخر من القضية. ما سيجب على لولا فعله في أيامه الاولى، توحيد الأمة المضطربة التي عانت من ولاية سلفه لأربع سنوات. والأهم الأمة التي عاشت أكثر الحملات الانتخابية استقطابًا في التاريخ الحديث. الأمر الظاهر في أن نصف السكان تقريبًا صوتوا لبولسونارو، ما يعني أن نصف البرازيل غير راضٍ عن نتيجة الانتخابات، ولا عن وجود سيلفا على رأس الحكم.

لولا يحكم ببرلمان يوالي خصمه

الأرقام تكشف أن مرشحين اثنين فقط استحوذا على 91% من أصوات الناخبيين. وهي نسبة لم يسبق أن شهدتها المنافسة في البرازيل. ما يعني أن المجموعات السياسية في البرازيل باتت تتكتل ضد فكرة ما أو توجهٍ ما، وليس تأييدًا لفكرة معينة. فمن انتخبوا بولسونارو لم يريدوا دا سيلفا، والعكس. لكن لا تظهر استطلاعات الرأي أن تلك النسبة الكبيرة من الناخبين هي الأصل معجبة بسياسات لولا لهذا تختاره، أو تحب سياسات بولسونارو لذلك انتخبوه.

المعضلة الأكبر أنه حتى لو قبل البرازيليون، 215 مليون نسمة، بالرئيس الذي صوت له 58 مليونًا منهم. فإن البرلمان البرازيلي قد لا يقبل. الانتخابات التشريعية الأخيرة، في أكتوبر/ تشرين الأول، أفرزت برلمانًا يميل لليمين المتطرف أكثر مما يميل لليسار. وأصبح الحزب الليبرالي بقيادة بولسونارو هو الكتلة الأكبر في مجلسي النواب والشيوخ.

 في حين أن لولا يرأس ائتلافًا يتكون من حزب العمال، وعشرة أحزاب أخرى، هي في الأصل غير متجانسة. لكنها تكاتفت معه للإطاحة ببولسونارو فحسب. كما اختار لولا نائبه وسطيًا، جيراليد ألكمين، الذي كان خصمه سابقًا، والمهزوم أمامه في انتخابات عام 2006. في محاولة لجذب مزيد من ناخبي الأوساط المعتدلة.

قد تغلب الأمل أخيرًا على الخوف، وقرر المجتمع البرازيلي أن الوقت قد حان لاتباع مسارات جديدة.. أنا لست نتيجة انتخابات، أنا نتيجة التاريخ، أنا أحقق أحلام جيلي والأجيال التي حاولت قبلي وفشلت.
لولا دا سيلفا- الرئيس البرازيلي المنتخب.

هذا التشرذم، وهذه الرغبة في توحيد البلد، ستحتم على لولا اختيار حكومة متنوعة. كأن يعطي نسبة أعلى للنساء في الحكومة، فلم توجد سوى سيدة واحدة في وزارة بولسونارو. كما سيُدمج السكان الأصليين في الحكومة عبر إسناد وزارة تم إنشاؤها حديثًا لشئون السكان الأصليين. كما سيتوجب عليه إيجاد موارد مالية لتمويل سياساته الاجتماعية الموعودة. خصوصًا في غياب تسجيل أي نمو في عهد سلفه بسبب توزيعه مليارات من خزائن الدولة كمنح للدعاية الانتخابية.

يساري كلاسيكي في زمن غير مواتٍ

كذلك فإن الأصوات التي حصل عليها بولسونارو، ووجود حزبه في البرلمان، تعني أن بولسونارو ليس أمرًا طارئًا على المشهد الانتخابي. بل بات هو وداعموه لاعبًا أساسيًا في معادلة السلطة. وبات قادرًا على بسط نفوذه في عديد من المناطق التي اعتادت أن تميل لليسار أو أحيانًا تميل الحزب الاجتماعي الديمقراطي الذي أسسه فراناندو إنريكي كاردوزو.

على الجهة الدولية فإن فوز لولا سيعزز من جهود التكامل الإقليمي من حالة الانعطاف نحو اليسار التي تشهدها أمريكا اللاتينية حاليًا. ما سيؤدي إلى تقوية كل رئيس يساري على رأس دولته. الرؤى المتقاربة، ورغبتهم في التعاون مع بعضهم، ومع العالم وفق منهج معين، ستجعل أمريكا اللاتينية تتصرف كوحدة واحدة ما يزيد من ثقلها السياسي عالميًا.

لكن ما يلفت النظر في النموذج اليساري الذي يستند له لولا أنه لم يعد موجودًا. فالرجل قدّم برنامجه الانتخابي معتمدًا على أمجاده السابقة، وتصوره عن اليسار المناضل. الوضع تغير، تغيرًا لدرجة قد تجعل لولا ساحرًا لكن بلا قدرات سحرية. كما أن فترات حكم لولا السابقة، صادفت ربيع العالم وحدوث طفرة في نمو الاقتصادات العالمية وحركة السوق السريعة. ما أسهم بصورة ما، طبعًا كان لسياسات الرجل ورغبته في انتشال بلاده من الفقر، دور بارز في نهضة البلاد، لكن كانت الظروف المحيطة مساعدة له لا تضاده. وهو ما يحدث هذه المرة حيث تزامن فوز لولا مع خريف الاقتصاد. وباء وحرب واقتصاد راكد وتضخم متزايد وبطالة مضطردة. ما يعني أن الركود والنمو قد لا يرتبطان بعوامل داخلية فحسب، وقد لا تقدر إرادة لولا وسعيه في التغلب عليهما.

العمال الأبرز أن اليسار نفسه تغير، فقد كان اليسار الذي صعد للحكم منذ 20 عامًا يسارًا يهتم بالفقراء والتنمية والتصنيع، يسار العمال والعصر الوردي الذي يجابه الرأسمالية والإمبريالية على رأس أولوياته. لكن اليسار حاليًا يهتم بالمناخ أكثر، وبحرب الهوية الجنسية، ومشغول غالب الوقت في نقاشات عن المرأة والحريات، وحقوق المثليين، لا باعتبارهم أقلية مضطهدة ضمن أقليات أخرى، لكن لأنهم مثليون فحسب. لذا فلوقت المقبل وحده هو من سيكشف هل ينزلق لولا إلى حروب اليسار الجديدة، أم يحكم بعقلية اليسار الكلاسيكي القديم.