لم تقنع الستة عشر عامًا التي قضاها بعيدًا عن السلطة رئيس الوزراء الماليزي الأسبق «مهاتير محمد» بالبقاء في مقاعد المتفرجين أو حتى الداعمين، إذ إن حماسه المتوقد للعمل، والذي لم يهدأ طوال تلك الفترة، دفعه للعودة للساحة السياسية من أوسع أبوابها رغم عمره الكبير الذي جاوز التسعين بثلاث سنوات. فها هو اليوم ينجح في توحيد تحالف المعارضة تحت رايته، ليختاروه مرشحًا لهم في مواجهة رئيس الوزراء الحالي «نجيب عبدالرزاق»، في الوقت الذي يعيش المعارضون فيه أقوى لحظاتهم التاريخية وتترنح الحكومة تحت ملاحقة الاتهامات بالفساد.

فمنذ تم اكتشاف تلقي «نجيب» هدية مالية من العائلة المالكة السعودية لحسابه الشخصي في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، والاتهامات بالفساد تلاحقه، ويطالبه المعارضون بالاستقالة. وقد شكلت تلك الأحداث بداية مرحلة جديدة في حياة «مهاتير‌»، الذي فاجأ متظاهري المعارضة بوقوفه بينهم في أغسطس/آب 2015، وطالب نجيب بالاستقالة. وقد قوى هذا الموقف جبهة المعارضة بسبب ما يتمتع به من ثقل ومصداقية بين الناس.

وقامت الحكومة بالتحقيق مع من صدرت منه إهانات أو اتهامات لرئيس الوزراء،وعلى رأسهم «مهاتير» نفسه، الذي رحب بالتحقيق وخضع له أكثر من مرة، وازداد إصراره على إزاحة نجيب. وفي فبراير/شباط 2016 أعلن استقالته من حزب «الأمنو» الحاكم الذي أسسه بنفسه قبل ذلك، وأسس حزبًا جديدًا في أغسطس/آب 2016 اسمه حزب «أبناء الأرض» الماليزي المتحد. وأجرى محادثات مع الأحزاب المعارضة، انتهت باختياره يوم الأحد الماضي مرشحًا محتملًا لمنصب رئيس الوزراء في الانتخابات التي من المقرر إجراؤها قبل شهر أغسطس/آب القادم، وحال فوزه سيصبح أكبر زعماء العالم سنًا.

اكتسب مهاتير شهرته العالمية وأصبح بطلًا في العالم الإسلامي بسبب تصريحاته ضد الكيان الصهيوني وأمريكا والعولمة، ووقفته الشهيرة عام 1997 خلال الأزمة المالية للنمور الآسيوية [1]، ورفض تعويم العملة والانصياع لتعليمات صندوق النقد الدولي، ما جعل ماليزيا أول دولة تنهض من الأزمة بنجاح لا مثيل له.

لكن لا تكفي المكانة الرمزية للرجل أو تجربته الرائدة في السابق للتنبؤ بأن طريق عودته للسلطة سيكون مفروشًا بالورود، فبالرغم من النجاح الكبير الذي حققه طوال 22 عامًا قضاها في سدة الحكم، فإن تركيبة المشهد السياسي اليوم تختلف تمامًا عن السابق.

فمهاتير اليوم يسعى لقلب المشهد السياسي رأسًا على عقب عن طريق إزاحة حزب «الأمنو» عن السلطة لأول مرة منذ الاستقلال، فمنذ جلاء الإنجليز عام 1957 والحزب يحكم البلاد معتمدًا على تمثيله للأغلبية المسلمة والعرقية المالاوية.

وقد بدأ مهاتير حياته السياسية كعضو في «الأمنو»، ثم ما لبث أن تركه بسبب انتقاداته الحادة لرئيس الوزراء، وتم منع تداول كتابه «معضلة المالايو» الذي هاجم فيه سياسة الحزب، ليعود إليه بعد ذلك ويتدرج في المناصب حتى يصبح رئيسًا له ورئيسًا للوزراء، ويخوض معركة ضد الملك ينجح فيها في تقليص صلاحياته، وينفرد بحكم البلاد.


جز الحشائش

إلا أن التحدي الأكبر بعد ذلك أتاه من داخل حزبه عندما اختلف مع نائبه «موسى هيتام»، الذي كون جبهة مضادة داخل الحزب، ضمت وزير المالية «غزالي حمزة»، وبعض قادة الحزب. وبدأ مهاتير يفقد السيطرة على الحكومة، وارتفعت أصوات المعارضين على اختلاف جبهاتهم، وهنا رأى «مهاتير» أن الحل الوحيد هو شن هجمة استباقية ضد الجميع.

في مشهد مشابه لـ «اعتقالات سبتمبر» التي قام بها الرئيس المصري أنور السادات في مصر في آخر عهده، أطلقت الشرطة الماليزية حملة أمنية كبيرة في 27 أكتوبر/تشرين الأول 1987، تحت شعار «عملية جز الحشائش» أو «Operasi Lalang»، وجرى اعتقال 119 من أبرز النشطاء والمعارضين واحتجزوا بموجب قانون الأمن الداخلي، والذي يعرف اختصارا بـ«ISA»، وهو قانون طوارئ من أيام الاحتلال الإنجليزي يبيح اعتقال المعارضين بدون محاكمة، وقام بحملة إقالات وتغييرات واسعة في الحكومة والحزب الحاكم، وحكومات الولايات، وجرد المعارضين له من مناصبهم، فلجأوا للقضاء لأخذ حقوقهم.


الحزب الحاكم «جماعة محظورة»

استمرت المداولات القضائية عدة أشهر، وفي 4 فبراير/شباط 1988 أصدرت المحكمة العليا بكوالالامبور قرارًا تاريخيًا، بحل الحزب الحاكم، طبقًا لقانون الجمعيات الصادر عام 1966، إذ صار الحزب غير قانوني بسبب كثرة الانشقاقات بين صفوفه بحيث لم يعد يمثل أعضاءه.

لكن مهاتير أسس حزبًا جديدًا باسم «أمنو بارو»، أي «الأمنو الجديد»، بعد أسبوع من قرار المحكمة، وورث الحزب الجديد مقرات وممتلكات حزب الأمنو، وانضم إليه الفريق الموالي لمهاتير.

لكن الطامة الكبرى كانت في خلافه مع نائبه «أنور إبراهيم»، الرجل الثاني في البلاد، والذي كان يُـتوقع أنه الوحيد المرشح لخلافته. لكن طموحه السياسي كان أعجل من ذلك، فبدأ عام 1998 منافسة مهاتير على السلطة، وبدأ يعارضه بصوت عالٍ، فأقاله من جميع مناصبه، وعين مكانه «عبدالله بدوي»، وزير الخارجية، وزج بأنور في السجن بتهم شنيعة يعرف القاصي والداني أنها ملفقة.

اقرأ أيضًا:كيف هزم الصينيون مشروع النهضة الماليزي؟

وفي الانتخابات العامة لعام 1999، هبطت شعبية الحزب بسبب تعاطف الناخبين مع مظلومية «أنور إبراهيم»، ولم يحصل إلا على 54% من الأصوات، فبدأ مهاتير في تحضير أوراقه لمغادرة السلطة، فأعلن تخليه عنها طوعًا في 2002، لكن بعد ضغوط من قادة حزبه أجَّل القرار لعام واحد، ثم ترك السلطة في العام التالي، وبكى في خطاب اعتزاله معلنًا فشله في إدارة البلاد، حيث لم ينجح في تحقيق العدالة الاجتماعية بالدرجة التي كان يأملها، رغم ما حققه الاقتصاد في عهده من نهوض هائل شكل مصدرًا لإلهام الدول الإسلامية والدول النامية عمومًا، حيث حول اقتصاد بلاده الزراعي إلى اقتصاد يعتمد على الصناعة والخدمات في المقام الأول، وارتفع دخل الفرد بشكل كبير، لكن الأغلبية لم تحصل على نفس القدر من الثروة الذي تمتعت به الأقلية الرأسمالية، وهو ما منعه من أن ينظر إلى تجربته بعين الرضا رغم النجاحات.

ويواجه مهاتير اليوم انتقادات مفادها أنه رجل يتمسك بآرائه إلى الحد الذي لا يقبل فيها نقدًا ولا معارضة، ويُستشهد على ذلك بما حدث مع «موسى هيتام» و«أنور إبراهيم» من قبل. إلا أن المثير في الأمر هو أن مهاتير اليوم يترشح من أجل إفساح المجال أمام «أنور إبراهيم»، إذ إن «عزيزة وان إسماعيل» زوجة غريمه السابق، ستكون نائبته حال الفوز، وينص الاتفاق بينهما على أن يتولى زوجها الحكم بعد مهاتير الذي من المقرر أن يسعى لاستصدار أمر ملكي بالعفو عن «أنور» من التهم الذي سبق أن ألقاه بها في السجن، ليتمكن من ممارسة حقوقه السياسية، والأمر الأكثر إثارة أن محامي مهاتير هو من يتولى الدفاع عن أنور أمام القضاء.

ويشكك خصوم مهاتير في احتمالية وفائه باتفاق تسليم السلطة لأنور حال فوزه،زاعمين أنه حال عودته للسلطة فلن يسلمها إلا لابنه «مخريز» فقط، رئيس الوزراء السابق لولاية قدح ونائب رئيس حزب «أبناء الأرض».

ويسمى التحالف المعارض بـ«جبهة الأمل»، ويضم: حزب أبناء الأرض، وحزب الأمانة الوطني الذي أسسه المنشقون عن الحزب الإسلامي منذ حوالي عامين ونصف، وحزب العمل الديمقراطي ذا التوجهات العلمانية، والذي يضم عددًا كبيرًا من الأقلية الصينية الوثنية، الذي حصد 17% من المقاعد في الانتخابات الأخيرة عام 2013، وأصبح أكبر حزب معارض في ماليزيا، وثاني أكبر حزب سياسي بعد الحزب الحاكم، بالإضافة إلى حزب العدالة الشعبية الذي تتزعمه زوجة أنور إبراهيم، والذي يسيطر على 13% من مقاعد البرلمان.

وقد حصلت الجبهة الوطنية التي يقودها الحزب الحاكم على 47% من المقاعد في الانتخابات الماضية، من ضمنها 29% خاصة بالأمنو، فيما حصدت أحزاب المعارضة مجتمعة 40%، ويقول المعارضون إنهم حصلوا على 52% من الأصوات، لكن توزيع الدوائر الانتخابية كان في صالح الحزب الحاكم، ما أفقدهم ميزة الاستفادة من أصوات كثيرة في الدوائر المؤيدة لهم، وتتهم الحكومة بتزوير الانتخابات القادمة مبكرًا عن طريق توزيع الدوائر بهذه الطريقة.

ويشكل دخول حزب «أبناء الأرض» ميزة مهمة لتحالف المعارضة بعد خروج «الحزب الإسلامي» من التحالف والذي يسيطر على 9% من المقاعد، إذ إن الحزب الحاكم بعد تراجع شعبيته في أوساط المسلمين المالايو حدث تقارب بينه وبين الحزب الإسلامي، وطرح قانون تطبيق الشريعة في ولاية «كلنتن» في البرلمان.

ويقف مهاتير اليوم على أعتاب تجربة سياسية جديدة ستمكنه حال نجاحها من تعزيز العمل بخطة «2020» التي أطلقها عام 1990، وها هي اليوم تشارف على نهايتها وتنتظر تقييمها، بعدما كاد نجيب أن يستبدل بها خطة «TN 50» لولا الوقفة التي وقفها نواب المعارضة في البرلمان.


[1] النمور الآسيوية مصطلح ظهر قبل ثلاثين عامًا للإشارة للنمو الاقتصادي الكبير الذي شهدته سنغافورة وتايوان وهونج وكونج وكوريا الجنوبية، ثم تبعتها إندونيسيا وماليزيا وتايلاند والفلبين، إذ تحولت من دول فقيرة إلى دول متقدمة، وحققت هذه الدول قفزات صناعية واقتصادية مذهلة وصلت إلى 10% في العام الواحد.