«الأنفس الميتة» و«القاهرة الجديدة» هما روايتان تُصنَّفان تحت خانة الواقعية/ الاجتماعية. «الأنفس الميتة» هي رواية «نيقولاي جوجول»، والتي نُشرت عام 1842، أمَّا «القاهرة الجديدة» فهي رواية «نجيب محفوظ» التي نُشرت عام 1945، أي بعد حوالي 103 سنوات من نشر الرواية الأولى.

في «الأنفس الميتة» تبدأ أحداث روايتنا في الإمبراطورية الروسية. لا يوجد تاريخ محدد للأحداث، ولكن من المؤكد أن الأحداث تقع قبل عام 1861، وهو عام تحرير الأقنان الروسية (الفلاحون المملوكون لكبار الإقطاعيين)، على باب أحد الفنادق المتواضعة في مدينة (ن)، تصل عربة، يدل شكلها أن صاحبها قد ارتقى إلى الطبقة المتوسطة مؤخرًا، وأنه يحاول التظاهر فقط أنه أحد الأعيان، لن نتعرف على بطل الرواية إلا بعد العديد من الصفحات، لأن جوجول صمَّم على وصفه بـ «السيد»، فلا تدري هل هي شخصية ثانوية تخدم البناء الدرامي لظهور البطل، أم أنه البطل نفسه.

فقد تعامل معه جوجول بغموض، فالقارئ لن يعرف حتى اسمه إلا بعد 6 صفحات، تجد المؤلف يتحدث عن شخص جاء المدينة، يُخطِّط لأشياء، يُقابل أشخاصًا، لديه خدم، دون أن تعرف من هو؟ من أين جاء؟ ما هو وصف شكله الخارجي حتى؟ لماذا جاء ذاك المكان وماذا يفعل؟ ما هو الماضي الذي جاء منه بطلنا؟ وما هي المحطات والتجارب التي مر بها ليصل إلى هذه النقطة من الأحداث؟

أعتقد أنه لا توجد طريقة أفضل في البناء الدرامي لهذه الشخصية المعقدة سوى ما قدمه لنا جوجول، لتكون نقطة انطلاق مميزة للتعرف على «بافيل إيفانوفيتش تشيتشيكوف».

أمَّا بالنسبة إلى «القاهرة الجديدة» فتبدأ أحداث الرواية عام 1928، وهو عام السماح للفتيات بدخول الجامعة، حيث كانت مصر تحت الحكم الملكي وتعاني من الاحتلال البريطاني. نرى أربعة شباب يسيرون في الحرم الجامعي يتناقشون في ماهية المرأة/ الأنثى ككيان مُلغز بالنسبة لهم لم يكشف عن نفسه بعد، ولم يكتشفوه بحكم التقاليد الاجتماعية والدينية والمرحلة العمرية، ثم تناقشوا في مسألة «المبادئ»، وهل هي ضرورية للإنسان أم الأوْلى أن يتحرر منها؟

ليكون ذلك السؤال الأخير وإجابات الشخصيات عليه هي نقطة انطلاق مميزة لأحداث الرواية، وحجر أساس يُبنى عليه مصير وقرارات كل شخصية، وبداية التعرف على «محجوب عبد الدايم».

بطل واقعي!

نجيب محفوظ في رواية «القاهرة الجديدة»، والتي تعتبر أول رواية اجتماعية له بعد سلسلة من الروايات التاريخية، اختار لها الاتجاه الواقعي وليس الاتجاه الرومانسي الذي اشتهرت به الروايات الأوروبية في الحقبة الأولى لبزوغ فجر الرواية، اتجاه واقعي اتفق فيه مع «نيقولاي جوجول» أحد أعمدة الأدب في العالم في تقديم المجتمع ونقده بسرد واقعي كما فعل في رائعته «الأنفس الميتة».

تشيتشيكوف هو بطل من نوع جديد على الأدب الأوروبي -باستثناء الأدب الروسي- حيث إن جوجول شعر بالملل من الرواية الرومانسية التي سادت أوروبا في عصره، رأى أنه طفح الكيل من البطل الشاب (الخيالي)، وسيم الشكل، ممشوق القوام، الذي يقع في قصص حب تراجيدية، وأنه قد حان الوقت لبطل يعيش بيننا. تشيتشيكوف ليس فيه من الشباب شيء، بل إنه رجل في منتصف العمر، سمين، وجهه ممتلئ، رأسه شبه خالٍ من الشعر، حليق الوجه، بعيد عن الوسامة تمامًا، صاحب كرش عظيم، ذو مِزاج صلب.

ومن منكم لا يحتمل أن يمر به في شارع ذات يوم أحد معارفه، فيلكز جاره ويقول بسخرية لا تكاد تخفى: انظر! هو ذا تشيتشيكوف! إن الذي مر بنا هو تشيتشيكوف نفسه!

اختار نجيب محفوظ أن يكون بطل روايته نموذجًا لشاب من المجتمع المصري. محجوب هو شاب طويل القامة، نحيف، شاحب، شعره مفلفل، جاحظ العينين، يميل إلى السمرة المصرية، حليق الوجه، ابن لأسرة من الطبقة المتوسطة، أقرب إلى الفقر، تعيش في منزل متوسط الحال في القناطر، أسرة مكونة من أب وأم وثلاثة أبناء: محجوب، وفتاتان لكنهما ماتتا في سن مبكرة. الأب كاتب بشركة الألبان اليونانية في القناطر بمرتب ثمانية جنيهات بعد خدمة خمسة وعشرين عامًا، أمَّا الأم فهي ربة منزل.

الحرية المطلقة… طظ المطلقة… ليكن لي أسوة حسنة في إبليس… الرمز الكامل للكمال المطلق… هو التمرد الحق، والكبرياء الحق، والطموح الحق، والثورة على جميع المبادئ!
المجتمع يقدس المظاهر… ليكن هذا سلاحي!

تشيتشيكوف هو شخص متملق منذ صغره مع معلميه، ثم بعد ذلك مع مُديريه، اكتسب القدرة على الإقناع، لديه لسان معسول، جشع، وبخيل، لديه قدرة خارقة على الاحتيال، يهتم بآداب الحديث وآداب الطعام وكل الآداب المتعارف عليها (الإتيكيت) بهوس شديد، يهتم بهندامه عند الذهاب إلى أي مكان، لدرجة الوقوف أمام المرآة لمدة تقترب من الساعة أحيانًا، وفي المواعيد المهمة قد يحلق لحيته 3 مرات. فقد كان يبيع المظهر الحسن والآداب المتفق عليها مقابل المال والنفوذ، فإذا كان هذا ما يحب الناس رؤيته فلا تحرمهم منه، ولكن لن أنكر أن لديه كودًا أخلاقيًّا بشكل ما.

وظهر في كل مكان على أنه رجل حنكته الحياة. فقد كان دائمًا يحافظ على أن يكون له نصيب في الحديث، لا يعيقه عن ذلك مهما كان موضوع الحديث. فلو دار الحديث عن تربية الخيول، فعن تربية الخيول خاصةً هو أهل الكلام، ولو أثير حديث عن الفضيلة، فعن الفضيلة يفيض بحديث يستنزف الدمع من كل عين.

السؤال هنا لماذا ظهر النموذج «التشيتشيكوفي» في المجتمع الروسي؟

لأن الإنسان في النهاية هو كائن طبيعي تجبره البيئة/ المجتمع على التكيف باكتساب سلوكيات اجتماعية معينة، وإلا فسيكون مصيره الإقصاء من المجتمع، ومجتمع روسيا القيصرية هو مجتمع سادة وعبيد، فماذا سينتج من سلوكيات غير حب الظهور والادعاء، وما على نفس السياق بالتأكيد.

ولكني أودُّ أن أذكر هنا أنني لا أحب أن أشغل بال القارئ بشئون أشخاص هم من طبقة أحط من طبقته، فقد علمتني التجارب أن لا رغبة لهم في التعرف على الطبقات الدنيا، وأن من طبع الروسي العادي أن يتعرف على أشخاص في درجات السلم الاجتماعي العليا. وفي الواقع فإن تعرفه على أمير أو كونت، حتى ولو بانحناءة لهما، يعتبر في نظره أهم كثيرًا من العلاقات المتينة بينه وبين الناس العاديين.

معادلة محجوب عبد الدايم

محجوب عبد الدايم هو بطل رواية فريد من نوعه على الأدب المصري، فهو شخصية أقرب إلى أن يكون عدمي/ لا اكتراثي، يحتقر الأخلاق ويراها منظومة واهية تناسب الضعفاء، يرفض المبادئ، يحتقر المجتمع ولا يراه أكثر من وسيلة لبلوغ أهدافه، يرفض الأديان ويراها تناسب مادة الأسطورة والخرافة، أقرب إلى فوضوي في الفكر وليس الفعل.

حاقد على الطبقة الأرستقراطية، ويتساءل دائمًا لماذا لم يَجُد عليه الزمان بأسرة تنتسب لتلك الطبقة، يُفرِغ طاقته السلبية بالسخرية من كل شيء. يُقدِّس المتعة ويسعى إليها، الآخر بالنسبة له مجرد سُلم ليرتقي به إلى نفسه، نفسه قدس الأقداس بالنسبة إليه.

كان صاحب فلسفة استعارها من عقول مختلفة كما شاء هواه، وفلسفته الحرية كما يفهمها هو. وطظ أصدق شعار لها. هي التحرُّر من كل شيء، من القِيَم والمُثُل والعقائد والمبادئ، من التراث الاجتماعي عامة! وهو القائل لنفسه ساخرًا: «إن أسرتي لن تُورثني شيئًا أسعد به، فلا يجوز أن أرث عنها ما أشقى به!» وكان يقول أيضًا: «إن أصدق معادلة في الدنيا هي: الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق = طظ».

رحلة الصعود

تطورت شخصية محجوب بشكل يشبه انفجارًا تم إعداده على نار هادئة، على عكس شخصية تشتيشيكوف الذي ظهر في بداية الرواية في ذروة الشخصية ثم تدرج الحكي على مراحل لتعرف كيف وصلت الشخصية لمرحلة الغليان على مدى سنوات.

محجوب وتشيتشيكوف تشاركا نفس الهدف تقريبًا، وهو الوصول إلى القمة من أقصر الطرق، فتجد محجوب من أول يوم دخل فيه المدينة/ الكلية وهو يفكر في طرف الخيط لأقصر الطرق، ولم يختلف الأمر كثيرًا لدى تشيتشيكوف، فمنذ تعيينه موظفًا في الحكومة وهو يفكر في نفس الشيء.

المرحلة الأولى:

محجوب طالب في كلية الآداب في السنة الأخيرة، واحد من أبناء الريف يعاني من إغراءات المدينة، فالمدينة ندَّاهة لأبناء الريف، يسكن في دار الطلبة. أمَّا تشيتشيكوف فوجد نفسه طفلًا صغيرًا، تشرف على تربيته امرأة عجوز قريبة والده، لأن والده مريض لا يستطيع الاعتناء بطفل، وأمه شخصية ضبابية لم يبرزها جوجول واكتفى بالإشارة إليها، وقد يكون ذلك دلالة لحياة المؤلف نفسها، فقد أودعه أبواه مدرسة داخلية.

المرحلة الثانية:

تزيد العُقد ويزيد الضغط على أبطالنا؛ جاء مرض والد محجوب كحدث مدمر لأحلامه، الثلاثة الجنيهات التي تأتي من والده شهريًّا صارت جنيهًا واحدًا. محجوب أصبح مُجبَّرًا على التقشف أكثر مما كان في السابق، فتتغير حياته؛ حيث يذهب ليعيش بمفرده في حجرة على السطح بمقابل مادي أقل، ثم يقضي معظم أيامه يتناول وجبة واحدة ليوفر ثمن كتاب أو نقودًا لمشوار مهم، ويحاول الهروب من مصير أن يصبح عاملًا في وظيفة متدنية لأجل إعانة أسرته.

وفي ظل هذا وذاك، يزيد حقده على زملائه أكثر وأكثر بمرور الأيام، وصار مضطرًّا أن يكافح في المذاكرة أكثر لكي ينجح ويتخرَّج بدرجات جيدة تضمن وظيفة راقية. يحاول التشبث بأي فرصة مهما كانت وبدون السؤال عن ماهيتها. وأخيرًا، فقد أصابه الهزال وشيء من الهلوسة بسبب قلة الطعام.

أمَّا تشيتشيكوف، فبعد الانتهاء من التعليم حصل على وظيفة حكومية؛ موظف نسخ وثائق، نجح في تملق رئيس الكتبة، واستطاع التقرب من ابنته وجعلها تحبه ووعدها بالزواج، ولكن مع حصوله على الترقية إلى «رئيس كتبة» بمساعدة والدها، أخل بوعده واختفى. أسَّس شبكة رشوة تبدأ من صغار الموظفين لتنتهي إليه، لكنه لم يستغرق وقتًا طويلًا حتى تم كشف أمره وإيقافه عن العمل.

المرحلة الثالثة:

محجوب وصل إلى القمة التي حلم بها، ولكن بأي ثمن، وصل إلى ذروة التحول، التطبيق العملي لفلسفة (الطظ)، يتم تعيينه سكرتيرًا شخصيًّا بمكتب موظف كبير بالوزارة (قاسم بك فهمي) بمعاونة «سالم الإخشيدي»، وهو معرفة قديمة من القناطر ورجل فاسد بدرجة «محجوب عبد الدايم»، وثمن الوظيفة أن يصبح قوادًا، ولكن بشكل خفي وغير معلن، حيث يجب أن يقبل الزواج من «إحسان شحاتة» عشيقة قاسم بك والحب القديم لصديقه «علي طه»، ويوفر له قاسم بك شقة في حي راقٍ ومفروشة بالكامل ويتكفل بنفقات الزواج كاملة، ولكن يبقى لـ «قاسم بك» مكانه الدائم في حجرة نوم (محجوب وإحسان).

أمَّا تشيتشيكوف، فبعد إيقافه عن العمل، التحق بوظائف متدنية إلى أن وصل إلى وظيفة في الجمارك، عمل بضمير لمدة عام إلى أن شغل منصب رئيس الجمارك، ثم تعاون مع شركة تهريب واستطاع أن يُكوِّن ثروة قدرها نصف مليون روبل، تم اكتشاف أمره ومصادرة أمواله، التحق بوظيفة كاتب دعاوى بعدها، ومن هنا جاءته فكرة شراء الأنفس الميتة بمقابل زهيد وتحصيل مبلغ مقابل من (مجلس الخزينة العام) على أنها أقنان على قيد الحياة.

سقوط حر

محجوب وصل إلى مبتغاه، وظيفة (مدير مكتب الوزير)، مرتب مرتفع يكفي لتحويله إلى أحد أعضاء الطبقة الأرستقراطية، نفوذ، زوجة جميلة، يرتدي ملابس على أحدث موضة، ويتناول ما يشتهيه من أطمعة، ويشرب أجود أنواع الخمور، حتى إنه في حياته كلها لم يدخن، ولكنه قال ولمَ لا أدخن، كنوع من تقليد الأشخاص الذين يتعامل معهم ونوع من الرفاهية.

طبَّق الترقي الاجتماعي من طبقة إلى طبقة بحذافيره، بدأ يبحث عن أصدقاء في مستواه الاقتصادي، فمن خلالهم سيعيش حياة اجتماعية لم يُجرِّبها بعد، لكنه نسي شيئًا ما في خضم حياته الجديدة، نسي والديه: والده المريض الذي يرقد في الفراش بلا عمل ولا نقود، وأمه المغلوبة على أمرها، تركهم ثلاثة أشهر لا يعلم هل هم على قيد الحياة أم لا، ثلاثة أشهر تربع فيها على القمة، أصابه ذهول في أحد أيام السبت عندما تفاجأ بزيارة والده ليُذكِّره بأنه ما يزال على قيد الحياة، وفي وقت الزيارة جاء قاسم بك فهمي لزيارة عشيقته فلم يدرِ محجوب ماذا يفعل، ليتحول الموقف إلى مأساة بزيارة زوجة قاسم بك في نفس الوقت، وتهدد بفضيحة للوزير ولمحجوب الزوج والقوَّاد.

ذلك الفخ كان من إعداد «سالم الإخشيدي»، لأنه لم ينسَ غدر محجوب به في أخذ وظيفته والترقي على حسابه، الإخشيدي وعبد الدايم كائنان طفيليان بطبعهما، يعيشان على حساب غيرهما في سبيل البقاء والارتقاء.

الوزير يستقيل من منصبه، ويتم نقل محجوب إلى أسوان، ليسقط سقوطًا حرًّا من القمة إلى القاع مباشرةً، فأصبح بلا زوجة، ولا أهل، ولا مال، ولا نفوذ، ولا وظيفة راقية، راهن على معادلته الشخصية، ولكن ككل مقامرة كبيرة قد يكون مكسبها الدنيا بما فيها أو خسارة كل شيء.

بينما نجد أن تشيتشيكوف قرَّر أن يذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد ليبدأ من جديد، فذهب إلى مدينة (ن)، سأل عن أغنى المالكين في المدينة وقرَّر زيارتهم بحجة بدء صداقة، وأنه أحد الأغنياء ويريد شراء الأقنان الميتة ليخلصهم من الضرائب، وأقنع كل شخص فيهم بأسباب مختلفة لما يفعل، وبعد أن جمع أكثر من 400 من الأقنان الميتة قد يحصل مقابلها على مائة ألف روبل أو يزيد من (مجلس الخزينة العام) على أساس أنهم أقنان أحياء، وبعد أن أسس شبكة من العلاقات الاجتماعية وشبكة من الفاسدين والمرتشين ليعتمد عليهم، جاء مالك سكير (نوزدريف) في حفلة في بيت حاكم المدينة وأذاع حقيقة تشيتشيكوف على آذان الحضور.

بدأت المدينة تتكلم عن أنه مجرد محتال وليس الشخص الذي ظنوا فيه الغِنَى، وقرر تشيتشيكوف الهروب بما تبقى لديه من مال، وخسر طموحه في هذه الأرض الجديدة، وسقط من القمة إلى القاع، وذهب إلى مكان آخر يبدأ فيه من جديد.

مقابلة لم تحدث بين جوجول ومحفوظ

برغم أن جوجول ونجيب محفوظ لم يتقابلا أبدًا، لكنك تشعر أن الاثنين بينهما اتفاق ضمني على بعض العُقد التي ساهمت في البناء الدرامي لشخصياتهما. هناك ثلاث عُقد أو ثلاثة محاور لشخصيات أبطالنا ترتكز عليها قراراتهم وتحولاتهم النفسية.

العقدة الأولى: الفقر

محجوب كان يعيش على ثلاثة جنيهات من والده كل شهر تكفي بالكاد حد الكفاف، فهو لا يستطيع أن يرتدي على أحدث موضة مثل أصدقائه، ولا يقدر على السهرات الفاخرة أو الأطعمة الباهظة. أمَّا تشيتشيكوف فقرر مع دخوله المدرسة أن يبيع الأطعمة والألعاب لأصدقائه ويجني ما يؤمِّن به حياته، فلا يدري هل سيرى والده ثانية أم لا.

العقدة الثانية: الكبت الجنسي

محجوب لم يجد أي طريق إلى الأنثى بسبب الفقر، فالنقود لا تكاد تكفي احتياجاته الأساسية، فلم يحظَ بالأنثى إلا من خلال فتاة جامعة أعقاب سجائر عن طريق تهديدها بفضح سرها، أجبرها على علاقة جنسية في الشارع مثل اللصوص.

وفي طريق البحث عن المتعة وصل محجوب إلى القاع عندما حاول التحرش بـ «تحية» بنت «أحمد بك حمديس» قريب والدته -لكنها تصدت له- رغم أن الفتاة كانت طفلة حملها على يده في الماضي ولعب معها وهو في الثامنة من عمره.

تشيتشيكوف وصل إلى منتصف العمر، ولم يتماس مع الأنثى تقريبًا، لأنه يرى أن الزواج من الرفاهيات التي لا يسمح بها نمط حياته، لكنه أحب ابنة الحاكم، وفكر أن يتزوجها، ولكن الوقت لم يساعده.

العقدة الثالثة: افتقاد الحياة الأسرية

محجوب ابتعد عن أسرته منذ سن الكلية ولم يعد إليها مرة أخرى، قضى معظم طفولته في الشارع بعيدًا عن المنزل، فلم يعش في بيئة أسرية آمنة. كذلك تشيتشيكوف ربَّته امرأة قريبة لوالده، وتقريبًا لم يعش مع أبويه إلا سنوات الطفولة المبكرة.

التأقلم في بيئة فاسدة!

عندما تتأمل كلًّا من محجوب وتشتيشيكوف من زاوية خارجية/ فوقية تجدهما بلا أي كود أخلاقي، شخصيتان تعوَّدتا أن تتغذيا على الفساد وتتنفسا هواءً ملوثًا، أشبه بالطفيليات التي تتغذي على دماء الغير فلا تنمو هذه الكائنات ولا تنضج إلا على حياة الآخرين، لكن بنظرة أخرى/ داخلية، مع التعرف على ما يقبع في نفسيهما، تجد أنهما مجرد شخصين تفاعلا مع الواقع كما هو موجود وبما هو موجود، لم يضيفا إليه شيئًا، بل حاولا انتهاز الفرص والاستفادة من مناخ فاسد وبيئة مجتمعية عفنة بالفعل.

المجتمع لا يعنيه إلا أن يحافظ على ذاته، ويُعادي في ذلك حتى عُشَّاقه الذين ينشدون له الكمال، فهو كالمرأة المغرورة إذا آنست من عاشق انتقادًا نبذته، ولذلك فنصيب هؤلاء التعب والكفاح وربما السجن.

كل منهما كان موظفًا في نظام بيروقراطي متأكل من الداخل وفاسد بما فيه الكفاية لأي شخص لديه بعض الذكاء وقليل من الجهد لاستغلال الظروف والوصول إلى القمة بأسرع الطرق. كلاهما كان مدفوعًا بالفقر والرغبة في الترقي الاجتماعي. هما فقط حاولا التكيف فلم يكونا صاحبي شر مطلق بلا مبرر مصدره منبع داخلي أو اضطراب نفسي، هو مجرد تأقلم أو كما تفعل الكائنات الحية في البيئات القاسية، ونطلق عليه «التكيف». التكيف مع مجتمع مريض أو مصاب بالعفن، ليكونا مجرد مرآة لحقيقة ما يعيشه الناس ويرفضون الاعتراف به.

إن لم يفعل محجوب وتشتيشيكوف ما فعلاه فهناك بالفعل ألف محجوب وألف تشتيشيكوف. ولكن قبل الحكم عليهما من خلال بوصلة أخلاقية، يجب العودة إلى المجتمع الذي ساهم في إنتاجهما.

المدينة وكر لسفلة مشغولين بسلب بعضهم بعضًا. وليس فيهم رجل إلا وهو مستعد لبيع المسيح.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.