في الأجواء البهيجة المصاحبة لعيد الميلاد لجأ البعض لمشاهدة ما يُطلَق عليها «أفلام الكريسماس»، التي تدور أحداثها في أجواء عيد الميلاد، وتتسم بالخفة، ويغلب عليها الرومانسية والكوميديا.

وهناك البعض ممّن يشاهدون أفلاماً اشتهرت بها هذه الفترة، نظراً لوقوع أحداثها في ليالي عيد الميلاد، مثل (Home Alone). ولكن هناك البعض من محبي السينما يكون لديهم خيارات مختلفة، مثل (It’s a Wonderful Life) أو (Carol). أمّا بالنسبة لي كان الخيار مُختلفاً عن كل ذلك.

كان خياري هو فيلم (Manchester by the Sea) لسببين: أولهما هو أنها أصبحت عادة سنوية منذ مشاهدة الفيلم لأول مرة، ولم يمر عام من دون مشاهدة لحن المخرج الأمريكي كينيث لونيرغان، ذلك اللحن الحزين العالق في ذهني ولم يفارقني منذ مشاهدتي الأولى. أمّا السبب الثاني هو أنه الفيلم المناسب للأجواء بالنسبة لي.

المعضلة الحقيقية في الحديث عن فيلم (Manchester by the Sea)، هي إن الحديث عن فيلمك المفضل هو همّ ثقيل تشعر أنه مهما بلغت من براعة لن تستطيع كلماتك أن توفي الفيلم حقه، أو أن تُوضح جماليات الفيلم بشكل دقيق.

الموت يصاحب لونيرغان في جميع أفلامه

يحل الموت ضيفاً ثقيلاً في جميع أفلام لونيرغان. لا يختلف الوضع هنا، حيث يفتتح فيلمه بكدرات واسعة تنقل لك المدينة الهادئة التي تقع على الشاطئ الشمالي لخليج ماساتشوستس -إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة- ثم ينقلنا مباشرة إلى القارب الذي يحمل أبطالنا الثلاثة أفراد عائلة تشاندلر، الأخوين (لي) و(جو) و(باتريك جو)، في مشهد افتتاحي عذب يُوضِّح لنا كيف تسير الأمور في هذه العائلة وطبيعة العلاقة بين أفرادها.

يخبرنا لونيرغان ببساطة منذ البداية أن هذه هي قصتنا التي سنتابعها طوال أحداث الفيلم. فيلمنا هنا عن العلاقات بين البشر وكيف يحاولون أن يساندوا بعضهم البعض، وكيف يتعاملون مع فاجعة الموت.

ظهور (لي) منذ البداية يخبرك أن هناك شيئاً حلّ بهذا الرجل، هو ليس ودوداً، ولكن ليس لأنه وقح بطبعه، هو حزين وكأن الاكتئاب أصبح جزءاً من حياته وجعله غير مبال أو لديه رغبه لفعل أي شيء، حتى الفتاة التي تحاول أن تتقرب منه لا يبادر نحوها بأي خطوه، هو فقط يذهب للعمل ويشاهد التلفاز وربما يمر بالحانة ليحتسي شراباً.

ما يخرجه من حياته الغارقة في الروتين، هو تلقيه هاتف يخبره أن أخاه في المستشفى، ولكن عندما يصل يجد أن الوقت قد فات، نستكشف بعد ذلك مسار القصة الرئيسي، حيث قام جو بإسناد مهمة الوصاية على باتريك إلى أخيه الأصغر (لي). يندهش (لي) في البداية، لما اختاره! يرى أن دوره كان يقتصر على وجوده عند دخول أخيه المستشفى من حين لآخر، لكن ليس أن يكون الوصي!

في البداية ينتابنا الدهشة لرده فعله، فمانشستر هي المدينة الذي وُلد بها، كما أن حياته في «كوينسي» ليس بها ما يتمسك به، ليجيب علينا لونيرغان في مشاهد الفلاش باك وهو أسلوب أعتمده منذ المشهد الأول، ليقص علينا الحكاية على خطين زمنيين، الماضي والحاضر والبطل المشترك بينهما هو (لي).

فعلها لونيرغان بحرفيه متناهية، لا نتشتت ولو للحظة، لقطات الماضي ذات أهمية بالغة، ليست هنا من أجل الحشو، بل لنقل الصورة كاملة، ويتم استدعاؤها في الزمان والمكان المناسبين.

بلغت ذروة المزج بين الماضي والحاضر في مشهدنا هذا: نستكشف أثناء جلوسه مع المحامي لعرض الوصية عليه، سبب رفضه لأن يصبح الوصيّ والحزن والألم، اللذين لا يفارقان عينيه. هو أحد أفضل مشاهد الفيلم، بل أحد أفضل المشاهد على الإطلاق.

إن الديناميكية الخلّابة بين الماضي والحاضر لا يرجع فيها الفضل لونيرغان فقط، بل بكل تأكيد تُشاركه «جينيفر لام» مونتير الفيلم، الذي تغاضت الأكاديمية عن ترشيحها، في شيء يدعو للدهشة. ثم تكتمل عظمة المشهد بموسيقى «ليزلي باربر» التي تصحبنا موسيقاها إضافة إلى مقطوعات كلاسيكية أعادت توزيعها، لتدمجهما معاً طوال أحداث الفيلم، لتدغدغ ما تبقى من مشاعرنا بألحانها التي يكسوها الحزن.

بين «لي» و«باتريك»

الفارق بين بطلينا جوهري، تعامل كل منهما مع فاجعته مختلف، باتريك يريد أن يتجاوز أحزانه، لا يريد أن تتوقف حياته عند موت أبيه، نلتمس ذلك في أفعاله كذهابه لمران الهوكي، أو حضوره بروفات فرقته الموسيقية وعلاقته ببنتين في آن واحد. وما ساعده في ذلك هو معرفته أن هذا اليوم آتٍ لا محالة، كان يعلم بسبب مرض والده أنه سيتوفى قريباً، وهذا ما ساعده على تجاوز حزنه. على عكس (لي)، الذي توقفت حياته عند الحادث الذي ستكتشفه خلال متابعتك أحداث الفيلم، وما تبقّى منه هو جسد بلا روح.

في النهاية يجد (لي) كرة صغيرة على الأرض يمسكها، وأثناء سيره مع باتريك يرمها إليه يلتقطها باتريك ويعيد رميها له، لكن (لي) يميل بجسده قليلاً يحاول أن يلتقطها لكنه يفشل ثم يكمل سيره، يعيد باتريك الكره ويرمها إليه لكن مجدداً (لي) لا يلتفت أو يحاول إمساك الكرة، يختزل هذا المشهد البسيط كل شيء الفارق بين (لي) الذي توقفت حياته، حتى الاستمتاع بأبسط الأشياء، بل لم يعد لديه القدرة أو الرغبة في فعل شيء حتى التقاط كرة صغيرة، ليقوم باتريك بالمحاولة مجدداً ولا ييأس فيلتقط الكرة للمرة الثالثة ويرمها إلى (لي) الذي يلتقطها هذه المرة، وكأن باتريك هو منْ يجب أن يكون الوصيّ على (لي)، وليس العكس.

واقعية خلابة مُغلفة بلمسة كوميدية

ما يُميِّز لونيرغان هي الواقعية، تكثيف الحياة عن طريق سرد أدق التفاصيل اليومية دون الوقوع في فخ الملل، تفاصيل بسيطة كتقطع الصوت أثناء مكالمة تليفونية أو أن يرن هاتفك أثناء العزاء أو أن تضل الطريق باستخدام الـGPS، ولحظات الصمت والتلعثم التي يمتلئ بها الفيلم. كلها أشياء بسيطة تُقرِّب القصة إليك، وتجعلك تشعر أنك تشاهد أناساً حقيقيين مثلك.

اللافت للنظر أن لونيرغان القادم من خلفية مسرحية -فهو كاتب مسرحي بالأساس- لا تجد في أفلامه مونولوجات مسرحية كالتي تملأ عديداً من الأفلام، وذلك لإدراكه التام لاختلاف الوسيطين. وإضافة للواقعية السحرية تتميز أفلام لونيرغان بلمسة كوميدية أخّاذة، فهو قادر أن ينتزع منك ضحكة من قلب التراجيديا، تتجلى لمسه الكوميدية في المشهد الذي تقوم فيه الطبيبة في شرح مرض جو لعائلته.

بكل بساطة، يصنع لونيرغان أفلاماً عن الحياة نفسها، وكأنه يُمسِك بكاميرا ليرصد حياة مجموعة من الناس في فترة محددة، لتدرك عند نهاية الفيلم أنه لا يوجد نهاية للقصة، هؤلاء سيستكملون حياتهم، نحن فقط منْ توقّفنا عن اختلاس النظر على مجريات حياتهم، هذا ما يجعل أفلامه قابلة للمشاهدة مرة وأكثر، لأن الحبكة ليست محركها الرئيسي، بل قوة الحكاية وبراعة سردها وعذوبة تجسيد أدق المشاعر الإنسانية في قصة بسيطة.

نص محكم يصنع أداءات متميزة

هناك صنّاع أفلام لديهم القدرة على إخراج ما في جعبة كل ممثل وظهوره بأفضل أداء ممكن، ما بالك إذا كان المخرج ينتمي إلى سينما المؤلف، وأن يكون كاتب بحجم لونيرغان، الذي ترشّح له أربعة ممثلين لجائزة أفضل ممثل، في مسيرته التي بلغت ثلاثة أفلام فقط.

لن أتحدث عن أداء «لوكاس هيدجز» أو «كايل تشاندلر» اللذين أبدعا، ولكن سنتحدث خصيصاً عن مشهد واحد بلغت حدة المبارزة بين أدائي كيسي أفليك وميشيل ويليامز ذروتها، عن أكثر مشاهد الفيلم شهرة وتميز أتحدث، فهذا الفيلم ملئ بالمشاهد الذي من الممكن أن نطلق عليها تحفة فنية، بكل تأكيد هذا المشهد أحدهم.

كما يظهر في المقطع الترويجي للفيلم، راندي [ميشيل ويليامز] تخبر لي أنها كانت قاسية عليه في الماضي لأن قلبها كان محطماً وسيظل، وفي تورية ولا أجمل من لونيرغان، يخبرها (لي) محاولاً التخفيف عنها بأنه ((There’s nothing there، وكأنه يحاول أن يخبرها أنه لا يحمل أي ضغينة من الماضي، ويخبرنا نحن أنه لم يعد يحمل أي شيء بداخله، فقط العدم.

يرجع الفضل هنا بكل تأكيد للونيرغان، ليس لإدارته للممثلين في المشهد المذكور سابقاً فقط، بل يخبرنا أفليك في حوار مع مجلة GQ أن لونيرغان دقيق للغاية في كتابة نصه، وأنه لا يوجد أي لحظة صمت أو تلعثم إلا وكانت مكتوبة في النص.

هل حقاً هي حياة رائعة؟!

في النهاية طوبى لمن اختار أن يشاهد فيلم «It’s a Wonderful Life»، فأتمنى يوماً ما أن يكون فيلم رأس السنة بالنسبة لي فهو جيد للغاية، ويستطيع أن يصل إلى قلب المشاهد ويترك فيه لمسة دفء ويرسم ابتسامة على وجه في نهاية الفيلم، ولكن حتى يأتي هذا اليوم لا أُفضِّل هذه النوعية من الأفلام -حتى وإن بلغت قدراً فنياً عالياً- التي تخبرني أن الحياة جميلة، وأنه يجب عليّ النظر حولي لأشاهد كم تنطوي على صور بديعة ربما لم ألاحظها ولم أدرك احتواءها على عديد من الصور التي تجلب الفرح.

ببساطة لأنه أثناء النظر لهذه المظاهر البديعة من حولي، تقع عيني على كثير من الجانب الآخر، فيكفي أن تسير قليلاً في الطرقات أو تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي لتعلم أن العالم، عالمك الصغير منه والكبير، ليس بخير، فهناك منْ يمر بتجارب تُغيِّر من حياتهم بلا رجعة، قسوة التجربة ربما تقتل الإنسان بداخله، وحتى يتعافى منها -إذا استطاع- ربما يكون فاته قطار الحياة ولا يستطيع المواكبة.

في ليالي عيد الميلاد، ماذا تحتاج أكثر من فيلم عن الحياة نفسها، لا يخدعك بأن كل شيء سوف يتغير، وأن قصصنا دائماً ما تنتهي بنهايات سعيدة، هذا لا يحدث في أرض الواقع. مثل هذه النهايات ربما تُغرِق الإنسان في كآبته عندما يتذكر حاله بعد نهاية الفيلم السعيدة الغارقة في دنيا الأحلام. لذلك كان (Manchester by the Sea) ختام عامي المنصرم، فحياتنا جميعاً ليست كحياة جورج بيلي -بطل (It’s a Wonderful Life)- بل هناك الكثير مثل لي تشاندلر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.