حجزنا أول طائرة متجهة إلى الأرجنتين وذهبنا إليه في بيونس آيرس لنعقد معه اجتماعًا نعرفه فيه عن دوري الدرجة الأولى الإنجليزي وطبيعة النادي، فوجدناه يسرد لنا ترسانة من الملاحظات التكتيكية عن الشامبيونشيب ويستعين بمباراة من الموسم السابق بين بولتون وبورتون لإثبات ملاحظاته!
فيكتور أورتا المدير الرياضي لنادي ليدز يونايتد الإنجليزي

إن كنت لا تعرف من هو مارسيلو بيلسا، أو لم تقرأ شيئًا عنه سوى منشورات مواقع التواصل الاجتماعي، فيمكنك ببساطة وضع إطار عام لتلك الشخصية من خلال هذا التصريح.

في تقرير بعنوان: «مارسيلو بيلسا وليدز يونايتد: الفشل الجميل»، سأل الصحفي الإنجليزي «جيم سويني»: «من هو مارسيلو بيلسا؟ الحالم الذي فاز بالألقاب في روزاريو والقلوب في مرسيليا؟ أم هو المجنون الذي رفع دعوى ضد مالكي ليل الفرنسي، واشتبك مع صناع القرار في بلباو، ووقع واستقال من تدريب لاتسيو الإيطالي في غضون 24 ساعة؟»

الحقيقة أن الأمر أشبه بلوحة الكاريكاتير، فبالرغم مما تحمله من صور خيالية وأبعاد مبالغ فيها لعناصر الصورة، إلا أنها تحمل بداخلها الحقيقة والرسالة التي يقصدها الرسام.

تمامًا مثل بيلسا، فبالرغم من غرابة مشواره التدريبي وما حمله من مواقف غير اعتيادية إلا أن هذا المشوار يحمل حقيقة واضحة للجميع: «الرومانسية المفرطة تجاه تفاصيل وتكتيك كرة القدم».

رومانسية جعلت بيلسا يصف نفسه بشخص مهمته الرئيسية هي تقديم مشاعر قوية لجماهير كرة القدم: حماس وشغف وفرحة وتعلق بالفريق. حصد الألقاب؟ ربما يأتي بعد ذلك، ولكن ليس قبل تقديم تلك المشاعر للجمهور.

مدير وليس مجرد مدرب

– إذا كان لديك كل الأموال وبإمكانك اختيار أي مدرب، فمن ستختار؟
* مارسيلو بيلسا
– اتصل به الآن
حوار بين أندريا رادريزاني رئيس نادي ليذز يونايتد وفيكتور أورتا المدير الرياضي.

يقول أورتا إن بعد شراء الإيطالي «أندريا رادريزاني» لنادي ليذز يونايتد الإنجليزي واسترجاع ملعب «Ellan Road» بعد بيعه عام 2004 بسبب الأزمة المالية الطاحنة التي مرّ بها ليدز، شعر رادريزاني بأن ثمة أشياء أخرى يجب أن تحدث حتى يستعيد هوية النادي.

سأل رجل الأعمال الإيطالي مديره الرياضي أورتا عن الرجل المناسب دون التفكير في مرتبه، فأجابه بيلسا بدون تفكير. على الفور قاموا بحجز تذاكر الطيران إلى بيونس آيرس، بنية عقد لقاء مع بيلسا لشرح مناخ الشامبيونشيب له. لكن المفاجأة أنهم وجدوه على دراية بكافة تفاصيل الدوري أكثر منهم!

في الجلسة ذاتها حدد بيلسا بعض الشروط للموافقة على قيادة الفريق في مقاطعة يوركشاير. أول هذه الشروط هي قدومه على منصب «مدير» وليس «مدربًا فنيًا»، حيث يكون له الحق في التحكم بقطاعات الناشئين ومدربيها بجميع فرق كرة القدم، وكذلك النظام الغذائي والتدريبات والهيكلة الإدارية لجميع الوظائف المتعلقة بفرق كرة القدم.

بخصوص الفريق الأول لكرة القدم، فقد كان له عدة طلبات لقبول المهمة أولها هو استبدال أرضية ملعب التدريب «Thorp Arch» التي تفاجأ رادريزاني وأورتا بتحصل بيلسا عن بعض المعلومات عنها.

كذلك طلب مضمار مخصص للجري حول الملعب، وغرفة ألعاب رياضية جديدة ببناء خاص وضحه لهم، وغرف متنقلة للنوم «Sleeping Pods» سيحتاجها اللاعبون الذين أعدّ لهم بيلسا برامج تدريبية شاقة خلال الستة أشهر الأولى.

شعر مسؤولو ليدز أنهم أمام رجل يعرف عن فريقهم أكثر مما يعرفون هم فوافقوا في الجلسة ذاتها، وبدأت رجلة بيلسا مع ليدز يونايتد.

جاسوس يفوز بجائزة اللعب النظيف

في ظهيرة الخامس من أغسطس/آب عام 2018 احتشد حوالي 40 ألف متفرج من جماهير ليدز يونايتد في ملعب «Ellan Road» ليشاهدوا مباراة فريقم الأولى تحت قيادة بيلسا. مباراة انتهت بفوز فريقهم على ستوك سيتي الهابط لتوه من البريميرليج بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد.

مباراة صرح بعدها «إيدي جراي» أسطورة ليدز يونايتد أنه لم يشاهد لاعبي ليدز ينتشرون بهذا الذكاء ويضغطون ضغطًا عاليًا بهذا الشكل من قبل بهذه الاستمرارية منذ عقود، بل وأنه صار متأكدًا الآن أن ليدز عائد للبريميرليج.

لعب ليدز 27 مباراة قبل أعياد الميلاد فاز فيهم ب 18 مباراة وتعادل في 6 مباريات وهُزم في 3 مباريات فقط. أرقام مذهلة تصدر بها جدول الترتيب قبل أعياد الميلاد لتأتي بعد ذلك مباراته الثانية في الموسم أمام ديربي كاونتي.

تفجرت قبل تلك المباراة بأيام قليلة أزمة التجسس الشهيرة. حيث لاحظ أحد سكان مدينة ديربي كاونتي بالقرب من ملعب تدريب الفريق شخصًا متخفيًا يقوم بحركة غير طبيعية، ليقوم بإبلاغ الشرطة والنادي على الفور.

بعد القبض على الشخص تبين أنه أحد موظفي ليدز يونايتد قام بيلسا بإرساله للتجسس على تدريبات خصمهم المباشر على بطاقة التأهل للبريميرليج. تواصلت إدارة ليدز مع ديربي كاونتي لإطلاق سراح الموظف وهو ماحدث، لكن لامبارد لم يمرر تلك الواقعة مرور الكرام وخرج في وسائل الإعلام ليندد بأسلوب مارسيلو بيلسا غير الرياضي والذي يجب أن يواجَه بحزم من المسؤولين عن اللعبة.

وكما بدأ النصف الأول من الموسم بسلوك غير رياضي من بيلسا، انتهى بلقطة حاز على إثرها جائزة اللعب النظيف من الفيفا للموسم ذاته بعدما أجبر لاعبيه على السماح للاعبي أستون فيلا بإحراز هدف، وذلك بسبب استغلال لاعبي ليدز سقوط مهاجم أستون فيلا وقيامهم بإحراز هدف أثناء توقف لاعبي المنافس عن اللعب.

انتهى الآن موسم 2018/2019، الموسم الأول لبيلسا في مقاطعة يوركشاير. موسم بدأ بسلسلة انتصارات مبهرة وأداء لا يقل إبهارًا عنها، وتوسطه حادثة تجسس، وانتهى بجائزة اللعب النظيف.

لكن الأهم أن هذا الموسم لم ينتهِ بصعود ليدز يونايتد للبريميرليج بعدما انتهى مجموع مباراتي التصفيات النهائية أمام فريق لامبارد بأربعة أهداف مقابل ثلاثة. وبالرغم أن الانكسار لم يكن شيئًا جديدًا على جماهير ليدز، إلا أنه كان أكثر قسوة ومرارة هذه المرة؛ لأنه جاء بعد شعور قوي بالأمل.

لكن جماهير ليدز لم تكن تعلم أن موسم 2019/2020 يحمل لهم طفرات هائلة وأنباء سارة للغاية.

كيف وصلنا إلى هنا؟

نشعر وكأننا جنود في قوات عسكرية، لا في دوري كرة قدم. تكتيك .. تكتيك .. تكتيك .. ولياقة بدنية.
ماتيوس كليتش متوسط ميدان ليدز يونايتد لإذاعة يورك شاير البريطانية

تستطيع أن تعتبر تصريح كليتش هذا هو ملخص ما حدث في موسم 2019/2020 لبيلسا مع ليدز، الموسم الذي انتهى بصعودهم للبريميرليج بعد غياب 16 عامًا وانهيار اقتصادي غير مسبوق.

قام فريق التحليل الإحصائي في موقع «StatsPerform» بعمل رسم بياني لموسم 2019/2020 يربط بين متوسط استحواذ جميع فرق الشامبيونشيب في الموسم من جهة، ومعدل آخر يُسمى «PPDA» وهو متوسط عدد التمريرات التي يقوم بها الفريق المنافس لك قبل أن ينجح ضغطك في عدد الكرة.

فائدة هذه الإحصائية هي إيضاح مدى فاعلية الضغط العالي الذي يقوم به الفريق، فكلما قل عدد تمريرات منافسك قبل قطع الكرة كلما دلّ ذلك على قوة ضغطك العالي، وكلما زاد استحواذك بعد قطع الكرة دلّ ذلك على حضورك الذهني الطاغي في بناء الهجمة والصعود بالكرة.

 

وكما ترى في الرسم البياني الموضح أمامك، يحلق ليدز بعيدًا في أقصى يمين الرسم من الأسفل، بأعلى نسبة استحواذ (64%) وأقل عدد تمريرات للفريق المنافس ( 7.9 تمريرة )، مما يعني أنه يقوم بأفضل ضغط عالٍ متصل -أعلى لياقة بدنية- وأفضل بناء للهجمة بعدها -أعلى تركيز وحضور ذهني- بين كل فرق الشامبيونشيب.

لكن تفاصيل بيلسا أبت أن تقبل بذلك فقط بل قامت بما هو أكبر من ذلك. قام فريق محللي موقع «StatsBomb» بعمل إحصائية أشبه بالخريطة الحرارية لكنها خاصة بأماكن ضغط الفرق على الفريق المنافس فقط، وليست خريطة حرارية كالتي تشاهدها دائمًا بجميع تحركات اللاعبين في الملعب.

أماكن ضغط فريق ليدز يونايتد على الفرق المنافسة في موسم 2019-2020 (أقصى يمين الصف الثاني)

كما ترى خريطة الضغط العالي لفريق ليدز مع بيلسا على فرق الشامبيونشيب في الصف الثاني أقصى اليمين، خريطة طغى عليها اللون الأحمر تمامًا.

يقول المحلل الإنجليزي «جيمس يورك» المسؤول إن فريق ليدز قد غطى في موسم 2019/2020 ما يقرب من 89.5% من مساحة الملعب في المباراة الواحدة تقريبًا، وهذا مستوى إعجازي نادر في كرة القدم، لا ينافسه فيه سوى ليفربول كلوب الذي غطى بضغط فريقه العالي في الموسم نفسه حوالي 86% من مساحة الملعب للمباراة الواحدة، وسيتي جوارديولا بحوالي 83.3% من مساحة الملعب في المباراة الواحدة.

هذا الفريق سيمثل كابوسًا لفرق الدوري الإنجليزي جميعها. لا يتركون سنتيمترًا واحدًا في الملعب لا يضغطون فيه على حامل الكرة!
مايكل أرتيتا لوكالة رويترز عقب لقاء أرسنال وليدز يونايتد الموسم السابق في كأس إنجلترا

كانت النتيجة الطبيعية لكل ذلك أن متوسط عدد الأهداف التي استقبلتها شباك ليدز للمباراة الواحدة هو الأقل للنادي منذ موسم 1973/1974 الذي حقق فيه الفريق لقب الدوري الإنجليزي، حيث خرج ليدز بشباك نظيفة في موسم 2019/2020 في 21 مباراة كاملة.

أرقام إعجازية كما وصفها الفريق التحليلي لموقع «Statsbomb» صعدت ببيلسا ولاعبيه إلى المجد نهاية الموسم، إلى البريميرليج!

إلى البريميرليج

السؤال الذي يسأله الآن جميع متابعي تجربة بيلسا من البداية قبل جمهور ليدز أنفسهم: هل ستنجح تجربة ليدز التكتيكية مع البريميرليج؟ أو كما سألت صحيفة الجارديان البريطانية: هل ستنجح رومانسية بيلسا التكتيكية مع عنف الدوري الإنجليزي؟

الرسم التكتيكي لفريق ليدز يونايتد في الحالة الدفاعية ( يسار ) وفي حالة الاستحواذ على الكرة ( يمين ).

اعتمد بيلسا مع فريقه في أغلب مبارياته في الشامبيونشيب على طريقة 4-1-4-1 أثناء فقدان الكرة والتي تتحول بمجرد حيازة الكرة إلى 3-3-1-3 بتقدم الأظهرة إلى الأمام، وسقوط أحد لاعبي الدائرة إلى الخلف وتقدم الآخر للأمام، وقيام قلبي الدفاع بفتح المساحة بينهما لزيادة خيارات التمرير كما موضح في الصورة.

يقول بيلسا إنه يفضل تلك الطريقة لأنها تحافظ دائمًا على 3 خيارات للتمرير لأي لاعب في تشكيلته، هي «Diamond» خاصة بكل لاعب في الفريق وليس لاعبي المنتصف فقط، وتكرارها بشكل دائم ومعدل كبير في الملعب يحافظ على حالة التركيز المطلوبة من لاعبيه؛ لذلك يؤمن أنها الأفضل.

ولكنه مع ذلك مرن تكتيكيًا لتغييرها إذا استلزم الأمر. فأمام ليفربول ومدرسة الضغط العالي المنافسة غير رسمه التكتيكي إلى 5-4-1 أثناء فقدان الكرة و 4-1-4-1 أثناء امتلاكها خوفًا من ترك مساحات مبالغ فيها لصلاح وماني، وعندما عاد ليلعب أمام فولهام عاد لطريقته القديمة.

الشاهد في الأمر أن للرجل إستراتيجيته الجديرة بالإعجاب، والتي تخبرنا مع معدل الأعمار الصغير للاعبي ليدز يونايتد -والذي يفضله بيلسا لسهولة فرض ضوابطه عليه- أن لتجربة ليدز في البريميرليج حظوظ نجاح ليست بالقليلة من الجانب التكتيكي. ولكن ماذا عن الجانب الآخر: خارج الملعب؟

كيف سيتعامل بيلسا مع الضغط العالي خارج الملعب: ضغط الإعلام الإنجليزي؟ وكيف سيواجه استفزازات تصريحات مدرسة جوزيه مورينيو وعدوه القديم فرانك لامبارد وكلاسيكية مدرسة كارلو أنشيلوتي؟ وهل سينجح في الحفاظ على شغف وطموح لاعبيه الصغار أمام فرق منتصف الجدول خلال موسم طويل مليء بالتقلبات؟

أسئلة لا يمكن للأرقام والإحصائيات أن تجيب عليها بكل أسف. فقط التجربة هي التي يمكنها أن تجيب؛ لذا يجب علينا الانتظار ومتابعة مغامرة بيلسا بشغف، فإما فشل جميل معتاد وإما إبهار غير مسبوق للجميع!