في العاشر من مايو ينجح «ترافيس بيكل»، الذي قام بدوره «روبيرت دي نيرو»، في الحصول على وظيفة بعد معاناة من ليالي التسكع بلا معنى أو قيمة، ها هو يخرج من مكتب سائقي سيارات الأجرة بعد أن حصل على ما يريد؛ مساحة بعيدة عن الضغط العصبي وعمل يكتسب من خلاله صفة تكسر تدريجيًا حلقة الضبابية التي تحاوط حياته.

يعود لبيته ويبدأ بكتابة مذكراته التي تبدأ بجملة «الحمد لله على الأمطار».

يعجب «ماريو بالوتيلي» بما فعله «ترافيس»، يسارع بالاتصال بوكيله «رايولا» ليخبره بموافقته على الانتقال لفرنسا، مركز دائم بتشيكلة «نيس» يلائم موقفه الحالي أكثر من محاولات فاشلة للحاق بقطار «ليفربول» الذي بات يمنح وسام النجومية فقط للعب الجماعي، الطريق للقب «نجم الفريق الأول» بدا له أسهل وربما أكثر ملحمية بـ«نيس»!.

«رايولا» على الخط سعيد، لكن صوته يبدو مضطربًا، الوكيل ذائع الصيت حاول إقناعه بالأمر ذاته لأسابيع مضت مؤكدًا له أن داهية نيس «لوسيان فافر» سيعتني بإمكانياته ويعمل على حسن توظيفها، لكن «بالوتيلي» لم يبدِ حماسًا سوى باليوم الأخير للميركاتو.

يصمت «ماريو»، وبهدوء وتلقائية يرد: «رايولا، لم أكن شاهدت تاكسي درايفر بعد»!.

بوستر الفيلم الفذّ الذي يشير لتطابق قَصة شعر البطل مع تلك الخاصة بالمهاجم الإيطالي لم يكن الملفت الوحيد لبالوتيلي، لكن المتأمل سيجد مساحات مشتركة كبرى في عمق الشخصيتين. من الردود والتعامل مع الآخر والدور الحيوي الذي يلعبه الدافع النفسي بمسيرة كليهما يبدو تمامًا أن ترافيس بيكل هو المرادف الدرامي لماريو.


النجاة من صفة المجهول

الاغتراب الذي يبدو عليه «بيكل» طوال الفيلم منتقدًا المجتمع الذي يرعى القُبح يعرفه تمامًا ناشئ مقاطعة «بيرشيا»، بالرغم من تألقه اللافت وسط أقرانه وتوقع مستقبله الباهر للدرجة التي دفعت أحدهم لجذب أنظار «برشلونة» لـ«ماريو» إلا أن الحقيقة التي تؤرقه، وتحولت لاحقًا لمأساته، تزداد ارتباكًا مع بزوغ نجمه.

«ماريو» ولِد بباليرمو لأبوين غانيين مهاجرين، فقير ولا يلقى الرعاية الصحية الكافية فكان قدره أن يتبناه أبوان إيطاليان ميسوري الحال، لكنه بقي شريدًا بين اكتساب إحدى الصفتين؛ «مواطن» أو «مهاجر»!.

المدربون يريدون «ماريو» الهداف مواطنًا، لكن أوراقه تميل لتصنيفه كمهاجر، وأسرته تسعى لحسم المعضلة، ودافع يُغرَس داخل الصغير لإضافة شيء يساوي أحقيته بالمواطنة؛ قيادة خط هجوم عملاق إيطالي ربما؟.

«روبيرتو مانشيني» يلقتط الخيط، مكتشفه الأبرز الذي ضمه لقائمة «فيجو، فييرا، زانيتي، وكريسبو».

من اللحظة الأولى آمن «مانشيني» بموهبة صاحب الـ17 عامًا، وأخبره أن الطريق لقميص الأتزوري يبدأ فقط من هنا، فقط أثبت حضورك.

وعد المدرب كان له وقع السحر على «ماريو» الذي تبلور دافعه مدعومًا بكيان كالإنتر، فكان لريتم مسيرته أن ينطلق بسرعة الصاروخ!.

من بديل يستحق الفرصة، لمهاجم يصنع الفارق، وأخيرًا قطعة ضرورية بالتشكيل؛ هكذا تدرج «بالوتيلي» بفريقه الجديد فأصبح أصغر لاعب بتاريخ الإنتر تهديفًا بدوري الأبطال، وذاق للمرة الأولى متعة الهتاف باسمه بـالسانسيرو مسجلًا بشباك اليوفي، روما، وفيورنتينا، أثبت حضوره بالفعل وعاش انطلاقة مبشرة.

http://gty.im/89106680

لم تمر شهور وخضعت الأوراق لإمكانيات المهاجم الأسمر، تحول لمواطن إيطالي بعامه الثامن عشر مقيمًا احتفالًا بالقرار الذي تضاعف أثره بالاستدعاء الأول لمنتخب شباب إيطاليا وسط إشادة إعلامية بالغة.

أخيرًا نال مراده، كان شخصًا آخر غير بالوتيلي الذي نعرفه!.


كيف بدأ الجنون؟

-مذكرات «ترافيس بيكل»

بوادر أزمة تحمل أبعادًا يصعب على مراهق لم يكمل العشرين التعامل معها ظهرت بالأفق!.

تشتيت مهاجم صغير من جمهور الخصم مهمة سهلة، تزداد سهولة باستخدم هتافات عنصرية عدائية غرضها التحقير منه، الأمر تضاعف لـ«بالوتيلي» برحيل صديقه «مانشيني» الذي أدرك ضرورة التعامل النفسي الملائم مع أول مهاجم أسمر بتاريخ منتخب إيطاليا!.

تيار الهتاف العنصري شمل تقريبًا الكل ضد «ماريو» حتى دفع الأمر الصحفي «بوب خوما» لكتابة مقال ساردًا معاناته اليومية كمواطن إيطالي أسمر مع أفعال التمييز وإسقاط الأمر على الناشئ الصغير.

في اليوم التالي كتب «توم كينجتون» بالجارديان يهاجم ما يتعرض له لاعب الإنتر مؤكدًا أن فرنسا أو إنجلترا كانت ستعمل على تطوير إمكانيات «ماريو» وليس تحطيمه!.

«بالوتيلي» لم يتحطم، لكنه بدأ سلسلة أفعاله الجنونية.

ردود أفعاله العدائية بالملعب ومثيلتها مع بعض زملائه أثناء التدريب باتت خبرًا صحفيًا عاديًا، حتى أطلق مدربه الجديد «مورينهو» تصريحه الناري متهمًا مهاجمه بعدم الجدية والتكاسل، كان ذلك التصريح بالطبع بعد صورة ارتداء «ماريو» لتيشرت «الميلان» عدو الإنتر التاريخي!.

«ماريو » على الطريق الصحيح، فقط كما يصفه «بيكل».


لماذا دائمًا أنا؟

مسيرة «بالوتيلي» مجموعة سباقات قصيرة يطارد أثناءها هدفًا معينًا، لكنه يقرر بعد الحصول عليه التخلي بطيب خاطر عن الحد الكافي من الجدية والالتزام وشغف المواصلة، وكأنه قراره الذاتي الذي يستعد دائمًا لتحمل كلفته!.

طوق نجاته يلتقط الخيط مرة أخرى، «مانشيني» خلّص الإنتر من «ماريو» قبل التأكيد لجماهير السيتي أنها ستسعد بأداء المهاجم الجديد، كان يعلم أن دافعه لإثبات الذات تولّد من جديد خصوصًا بعد أن طلب رقمه الذي ظهر به مع الإنتر «45».

يفسر لنا ذلك كيف فاز الـ 45 بجائزة الجولدن بوي نهاية 2010 وبعد شهور من انضمامه للسماوي، فعادت أسهمه تزاحم بالصف الأول، هل يمكن توقع تصرفات «ماريو» التالية؟، نعم، بكل سهولة!.

خناق مع زميله «بواتينج» بالتدريب، ثم محاولة لإفساد تمرين فريق الشباب، تدخلات عنيفة كلفته الطرد وكلفت السيتي الخروج الأوروبي، ومزيد من التهور عند زيارته لإحدى المدارس رفقة مشجع طفل لحل مشكلة دراسية وطلبه مقابلة المدير!.

اتهمته الصحافة بالجنون عقب انتشار خبر زيارته لسجن نسائي بإيطاليا فقط لتقديم المساندة المعنوية، لكن «مانشيني» كان يخرج بشجاعة لرفض ادعاءات الصحافة والتأكيد أن مهاجمه ينفذ المطلوب بالملعب. لاحقًا خذله «ماريو».

يوليو 2011، «مانشيني» يستشيط غضبًا أثناء مباراة ودية أهدر خلالها «ماريو» فرصة انفراد بكل استهتار وسخافة الكون وبدا غير مبالٍ عند استبداله بالتوازي مع صراخ مدربه، كانت لحظة مفصلية بعلاقة الثنائي على كل حال.

استمرت سلسلة الإجادة ثم التصرفات المنحرفة حتى تم استدعاؤه لتمثيل إيطاليا بيورو 2012، أهم محطة بتاريخ اللاعب الذي انتظر لتمثيل بلده ببطولة هامة. بدون شك فإن «مانشيني» قد مرر نصائحه لـ«براندلي» فوثق بـ«ماريو» الذي قاده لاجتياز أصعب عقبة للنهائي بهدفين بشباك ألمانيا هما الأبرز ليتشارك مع آخرين لقب هداف البطولة.

«بالوتيلي» كان أكثر من يريد الفوز بالبطولة، لذلك كان أكثرهم حزنًا على التتويج الفضي، مباراة واحدة كانت تفصله عن أعالي المجد الأوروبي قبل بلوغه الثانية والعشرين، لكن للأسف «إنيستا» لم يكن إيطاليًا.

http://gty.im/147861824

إبريل 2012، يخرج «مانشيني» عقب الهزيمة من أرسنال وطرد «ماريو» للصحافة ليعبر عن شعوره بالأسف لتفريط مهاجمه بموهبته، أشار إلى أنه آخر موسم لمهاجمه هنا قبل أن يعبر عن حبه وتمنيه كل الخير لمواطنه لكن طفح الكيل.

برغم كل شيء جمهور السيتي أحب ماريو، هتف وغنى له ولا يزال يتذكر أنه من صنع هدف الفوز بدوري 2012، مانشستر هي من حولته لسوبر ماريو.

«بيكل» يتشارك مع المهاجم الإيطالي بتصرفاته وردود فعله التي تنال استغراب واستنكار من حولهما. يعيش الأول الحياة بنمط واحد، يشاهد نفس الفيلم، لا يجيد التورية بل ينطلق ليعبر عما يريد، لا يعبأ بركاب سيارته ولا بأهداف رحلتهم، فقط يدرك أن أغلبهم سيئون لذلك فإن تبني بعض الأفكار السيئة لن يضر أو على الأقل ستذوب وسط هذا القبح.

ماريو يكره التصنيفات كلها، لا أقول التمييز على أساس لونه، بل تصنيف أفعاله وتصرفاته والحكم على مدي صحتها وفقًا لمعايير بشر آخرين غيره. قال يومًا إنه يعلم أنه يقوم بأشياء غريبة لكنها أفعال ماريو التي تخصه، لهذا انطلق يعبّر عن تساؤله الأبرز بمسرح الأحلام «لماذا دائمًا أنا؟».


هل تمتلك مسدسًا؟

«لا ينبغي على الإنسان تكريس حياته لاجتناب الهفوات»!.

بالثلث الأخير من الفيلم يبدو «ترافيس بيكل» غير عابئ بأي شخص بطريقه في سبيل تحقيق شيء يساوي احترامه لذاته، عيناه تؤكد لك تغافله التام عن أي عواقب تضره في مقابل إصرار بالغ على تدمير الشر، 3 مسدسات وخنجر وجسد نحيل بدون أي درع، ماذا سيخسر بعد أن كتب وداعًا لأهله قبل انطلاقه؟، ولكن تدمير أي شر؟.

الصدفة وحدها هي من جمعت السائق بفتاة بسن 12 عامًا تقع تحت استغلال مجموعة من المجرمين للعمل بالدعارة بعد أن نجحوا في السيطرة على تفكيرها وحصارها بمدار لا تستطيع مغادرته، السائق التقى بها مرات لمحاولة إقناعها بالهروب، لكن محاولاته كلها باءت بالفشل.

الإحباط وكسر روتين الأيام المملة أشعل بداخله دافع الانتقام بجانب رمزية إنقاذ مستقبل طفلة من مصير هالك وإن كلفه التضحية بنفسه!.

«بالوتيلي» يشاهد الفيلم ويتذكر كيف استنزف كل حيله في «ميلان» ولكنه انتهى به الحال غير عابئ، قدم أداءً جيدًا وتعالت تساؤلات عن دوره بمونديال 2014 لكن النتيجة واحدة ويبدو أنها ستستمر حتى لو عاد بكأس العالم، العنصرية مستمرة وتزداد ضغطًا بمرور الأيام، استمع يومًا للهتافات العنصرية من دكة الروسونيري فانفلتت أعصابه وانطلق باكيًا تعصف به تساؤلات الدنيا بدون إجابة واحدة.

حاول مرات قبل ذلك الابتسام في مواجهة الهتافات والظهور ثابتًا وربما ارتداء ثوب «إبراهموفيتش» أثناء تعامله مع الخصم أو الصحافة، ومرات أخرى حاول إظهار غضبه بتهديده بقتل من يتعرض له بعنصرية،لكن لا شيء يتغير، بل أصبح جمهور الإنتر –على الأقل- أكثر عدائية!.

أما فترته بـ«ليفربول» تبدو ثقيلة الظل غير مفهومة، قضاها فقط للتدريب والحصول على الأموال وتسجيل هدف واحد، وبرزت كأسوء فتراته الفنية وسط شكوك حول إمكانية عودته لمستواه، طلب «ردوجرز» من مهاجميه حينها أدوارًا تتخطى انتظار الكرة بمنطقة الجزاء بل الضغط على الخصم والتحرك أحيانًا لنصف الملعب للمساندة بصناعة اللعب.

الأمر مع «كلوب» يتضاعف من دون شك بسبب الجيجن بريسنج كما الفوضى الهجومين بين الأطراف والمهاجم، «بالوتيلي» لم يبدِ حماسة أبدًا وكأنه اكتفى بلقب البريمرليج مع «السيتي».

عمومًا باختياره لـ«نيس» يبدو كـ «بيكل» أرهقه الروتين والحياة بلا معنى ويبحث عن مغامرة وتجربة في بلد يزيد عدد اللاعبين المهاجرين بمنتخبه الوطني عن أصحاب الأصول الأوروبية، قراره الذي أكد بشكل مبدئي صحته بتسجيله 6 أهداف بـ 5 مباريات واعتلاء فريقه صدارة الدوري في حاجة ماسة للظهور بمستوى ثابت أطول فترة، بذلك فقط يمكن لـسوبر ماريو أن يعود، خصوصًا وأن «فينتورا» يتابع عن جد تطورات مغامرة نيس في ظل تدهور مستوى مهاجمي الأتزوري.

http://gty.im/602418910

المراجع
  1. مقال الجارديان- بالوتيلي في نيس والعودة للمنتخب الإيطالي
  2. ردود بالوتيلي علي الهتافات العنصرية
  3. مقال بيزنيس إنسايدر- أغرب أفعال بالوتيلي
  4. https://www.theguardian.com/world/2009/dec/13/italy-racism-football-mario-balotelli