مع أكتوبر من كل عام ينشغل المثقفون بانتظار الفائز بجائزة «نوبل» للآداب، أملاً في أمرٍ من اثنين: الأول أن تذهب الجائزة لأديب عربي، وبالتالي تنتفي صفة أن نجيب محفوظ هو الأديب العربي الأوحد الذي نالها، أو أن تذهب إلى أديب غير عربي فيبقى اسم محفوظ وحيدًا في قائمة الشرف تلك.

مفهوم بالتأكيد، غاية ونوايا الفريقين، إلا أن فريقًا ثالثًا يظهر في بعض الأوقات ثم يختفي، وهو الفريق الذي يؤكد أن محفوظ نال الجائزة بسبب موقفه السياسي «المهادن» من معاهدة السلام التي وقعت في 1979 بين مصر وإسرائيل، هذا بالطبع غير فريق رابع يرى أن محفوظ حصد الـ«نوبل» بسبب ما ظنوه تكريمًا عالميًا لموقفه من الدين الذي أخرجه في روايته المهمة «أولاد حارتنا»!

أكتوبر من هذا العام تحديدًا (2022) كان مختلفًا، فمع حصول الأديبة الفرنسية آني أرنو على الجائزة، ظهر على السطح أصحاب الفريق الثالث، وكان ممثلهم الدكتور جمال ضرغام، الذي ذكر أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحم بيجين، هو أول من أبلغ محفوظ بفوزه بالجائزة.

ثمة الاختلاف هنا أن ضرغام، وله مني كل تقدير واحترام، ذكر أنه اعتمد على مقال لي في معلومته هذه، وقد كتب على صفحة الأستاذ عبدالعظيم حماد الكاتب الصحفي بالأهرام في موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» ما يلي:

الصحفي الكبير الأستاذ/ عبدالعظيم حماد (….)، ما سلف بخصوص نوبل محفوظ ليس كلامي بل كلام زميلكم الصحفي في أخبار اليوم، الذي وصل للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس 2020 الصحفي الأستاذ/ محمد الشماع. غير هذا، نشر الشماع مقالته التي تواترت معها مقالات كثر حول جوانب من الموضوع في وجود من نسب إليهم الكلام. هل لو كان في الكلام شبهة الخطأ، وقد قاله على لسان الروائي الكبير يوسف القعيد، كيف يقبل القعيد أن ينسب له هذا الكلام، لو لم يكن صحيحاً؟

ثم أضاف:

أين كان دكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، ولمَ لم يرد على الشماع وغير الشماع ممن تواتر كلامهم؟ فقد توفي عصفور 2021، ومقال الشماع منشور بتاريخ 8 يوليو 2016 (….)، ويستطيع الأستاذ حماد أن يتصل بالشماع والقعيد، وإن كان هذا لا يعني شيئًا أمام الحجة والبرهان (وهو مقال الشماع)».

إلى هنا انتهى كلام ضرغام، وقد آثرت حذف بعض الجمل التي يؤكد فيها الرجل احترامه لمحفوظ كأديب، وعلاقته بأستاذه الطبيب الذي أجرى له عملية إنقاذ حياته بـ«الرقبة» بعد واقعة طعنه من متطرف سنة 1995.

ولأن ضرغام ذكر أنه اعتمد عليّ كمصدر لتوثيق ما يقوله، كان لا بد لي من توضيح بعض الأمور:

الواقعة تعود إلى شهر يونيو من سنة 2012، عندما طلب الدكتور عطية عامر، أستاذ اللغة العربية في جامعة ستكهولم، زيارة الأستاذ صلاح عيسى رئيس تحرير جريدة «القاهرة» وقتها، وقد رحب عيسى بالطبع، وعندما جاء عامر إلى مقر الجريدة، هاتفني الأستاذ صلاح لأحضر الجلسة التي تجمعهما، حيث كنت حينها المحرر الثقافي بالجريدة.

طرقت باب غرفة الأستاذ صلاح ودخلت، فوجدت رجلاً طاعنًا في السن، ومعه صديق عرّفه بأنه الدكتور وحيد موافي، الذي كتب ما يُشبه بسيرة ذاتية لعامر، التي كان من المفترض أن تُنشر حينها في كتاب عن دار نشر «مكتبة مدبولي».

كان اللقاء عامرًا بذكريات الرجل في السويد، ولقاءاته بالزعماء العرب، وكذلك الأدباء والنقاد العرب والمصريين، إلا أنه كان دائم التأكيد على أن لولاه ما حصل نجيب محفوظ على نوبل! كنت أستمع بأذن الصحفي الذي وجد مادة دسمة للنشر، إلا أن المادة الدسمة الحقيقية كانت في مخطوط الكتاب الذي تركه لي حتى أكتب مقالاً مطولاً عنه.

من عطية عامر؟

بالتأكيد عطية عامر، أو «البروفيسور عطية عامر» كما أحب هو أن يُطلق على نفسه، اسم غير معروف لدى كثيرين، اسمه بالكامل عطية محمد نصر عامر، ولد في مارس 1922، ينتهي نسبه إلى عباس الوكيل (عمدة «اسطنها» بمركز «قويسنا» في المنوفية)، ترتيبه السادس بين إخوته، درس في كتاب الشيخ محمد المتولي، ثم انتقل إلى مدرسة «اسطنها» الأهلية، وفي سن العاشرة انتقل إلى تحضيرية المعلمين بالعباسية، حتى يصير مدرسًا كباقي أهالي «اسطنها».

قرار من الأب والعم، هو الذي دفعه إلى الدراسة في الأزهر الشريف حتى يستكمل مسيرة ابن عمه المتوفى، هذا القرار كان على غير إرادته، لكنه استمر في الأزهر تسع سنوات، حتى حصل على الثانوية الأزهرية. بعدها فضل الالتحاق بكلية «دار العلوم» ضمن 40 طالبًا تم قبولهم من أصل 3000 طالب، وكان ذلك في عام 1943، ولكن في عامه الثاني سمع عن معهد التمثيل، وكان مديره الممثل الكبير زكي طليمات، وتشجع للالتحاق به، فكان يدرس في «دار العلوم» صباحاً، وفي معهد التمثيل مساءً.

تعرف في المعهد بعلامة النقد في مصر، الدكتور محمد مندور، ويقول إن صلته به توطدت وتعدت فكرة علاقة الأستاذ بالتلميذ، فقد وفر له مندور فرصة تدريس العربية في مدرسة «الليسيه» بمصر الجديدة، بواسطة من طه حسين شخصيًا، وهو ما ساعده على تقوية اللغة الفرنسية عنده.

هنا استغل عطية عامر علاقاته بهذين الرجلين في دراسة الأدب المقارن، ومن ثم السفر إلى باريس، وتحديدًا في جامعة السوربون، لكنها كانت رحلة قصيرة كما يرى، وصل بعدها إلى محطته الأهم في السويد، 1959.

اتصل هناك أولًا بقسم اللغات السامية في أقدم الجامعات السويدية (جامعة أوبسالا)، نصحه رئيس هذا القسم بالرحيل عن السويد، لكنه أبى، وفكر في الالتحاق بجامعة استكهولهم. وللمصادفة كان عميد كلية الدراسات الإنسانية بجامعة استكهولم يفكر في إنشاء قسم لـ«اللغة العربية». تلاقت الفكرة في رأس الرجلين، واتفقا أن تبدأ الدراسة في خريف 1959، وفقًا لقرار حكومي بإنشاء القسم رسميًا، وبدأ القسم بـ25 طالبًا، لتبدأ رحلته الأكاديمية.

لعامر تجارب أدبية، يحكي عنها في الكتاب، منها قصة بعنوان «حمار الميري» وأخرى بعنوان «عصفور من الريف»، وهو يقول عنها إنها قصص رمزية تجسد الحالة السياسية في مصر أثناء ثورة يوليو.

أما عن آرائه التي وردت في مخطوط الكتاب، وفي مقابلتي معه، فكانت غريبة بعض الشيء، فهو يرى مثلاً أن سيد قطب هو أعظم مفكر في جماعة الإخوان المسلمين، ربما لأنه كان درعميًا مثله، وقد قرأ عامر لقطب، كما يقول، نسخة مترجمة من كتاب «معالم في الطريق»، إذ كان يرى أن هذا الكتاب كان سببًا في إعدامه، لأنه فتح الباب أمام مواجهة الغرب.

حكى عامر عن لقاء جمعه بالرئيس الليبي الراحل معمر القذافي في بني غازي، وقد طلب منه إنشاء جامعة عربية حرة في استكهولم بدعم من ليبيا، فوافق القذافي وأمر بتخصيص خمسة ملايين دولار لهذا الأمر، وأمر كذلك بإرسال ألف كتاب لقسم اللغة العربية الموجود هناك بالأساس، ولكن لم يصلهم لا دولار واحد ولا كتاب واحد، كما قال عامر في المخطوط!

قصة نوبل

ربما كانت هذه نبذة ضرورية عما ورد في مخطوط الكتاب، الذي يُعتبر مقدمة للتعرف أكثر بفكر الرجل صاحب رواية اتصال بيجين بمحفوظ، وصاحب التأكيدات الدائمة عن دوره الأكبر في حصول أديبنا الكبير على الجائزة.

أما قصة نوبل فيرويها الرجل كالتالي:

في فبراير سنة 1978 وصل إلى منزل عطية عامر خطاب من الأكاديمية السويدية لترشيح أديب عربي للحصول على جائزة نوبل، كانت هذه هي المرة الأولى التي تطلب فيها الأكاديمية منه هذا الطلب، خصوصًا بعد عدة مرات خاطبهم فيها متبرعًا لترشيح أديب عربي، فيقول إنه في عام 1967 رشح عميد الأدب العربي طه حسين! ولو كان طه (المتوفى أواخر أكتوبر 1973) موجودًا في 1978 لرشحه، هكذا يقر عامر في المخطوط الذي كان بين يدي حينها، أما عن رأيه في توفيق الحكيم مثلاً، فيقول إنه لا يمثل الروح المصرية العميقة، رغم تدخل الرئيس الراحل أنور السادات لترشحه، أما عن يوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي، فقال إنهما بالفعل أرسلا له يطلبان دعمه، لكنه كان قد حسم أمره بدعم محفوظ.

ويقول عامر إنه ذهب لسفير مصر في السويد وقتها، عمر شرف، وطالب منه الدعم في حملة دعائية كبيرة لنجيب محفوظ في معرض الكتاب بمصر، عن طريق استقدام أعضاء الأكاديمية السويدية لإلقاء محاضرات عن الأدب السويدي.

وفي نفس العام، 1978، قال عامر إنه جاء إلى كلية الآداب في جامعة القاهرة، ليحضر محاضرة جامعية للراحلة جيهان السادات، وقد طلبت منه أن يرشح توفيق الحكيم للجائزة، وهو، كما يقول عامر، نفس ترشيح الرئيس الراحل أنور السادات الذي تحدث إلى السفير المصري وطلب منه أن يقول لعامر إنه يريده أن يرشح توفيق الحكيم لأنه صديقه، وإن الرئيس جمال عبدالناصر كان يحبه!

من الواضح أن ترشيح عامر لمحفوظ في 1978 لم يؤتِ ثماره حينها، فهو يؤكد أن الأكاديمية اعتادت بعد هذا التاريخ أن تطلب منه نفس الطلب، وكان بالفعل يرشح محفوظ، إلا أنه في سنة واحدة رشح اسمين، أولاً محفوظ، وثانيًا يوسف إدريس، رافضًا توصية الرئيس الراحل حسني مبارك مرة بترشيح الأديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي!

عامر يحكي العجب عن يوسف إدريس، فيقول إنه كان يلتقيه عند الناقد الكبير جابر عصفور في القاهرة، وقد ذهب إدريس إلى السويد في مرة بدعم من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، الذي أشار عامر إلى أنه كان يرتدي في يده ساعة عليها صورة الرئيس العراقي، ولكن رحلته تلك أضرت به، هكذا كان يرى عامر، الذي قال إن إدريس هاتفه أول ما وصل ستكهولم، وسأله «هل رشحتني؟»، فقال له «نعم، ولكن كمرشح ثانٍ بعد نجيب محفوظ»، فقال إدريس: «سيبك من نجيب محفوظ، هذه الجائزة سترفعني في السماء، فلماذا لا تريد لي كذلك». وحكى عامر أن جابر عصفور كان يريد فوز إدريس بالجائزة.

موضوع مكالمة بيجين

يروي عامر في مخطوط كتابه أن رئيس لجنة نوبل هاتفه في مرة وسأله عن جماعة «المهجر» الأدبية، وعن جبران خليل جبران تحديدًا، فقال عامر له إنه لا يعرف سوى ميخائيل نعيمة الذي كتب عن مسرحيته «الآباء والبنون» وقابله مرة واحدة، وقال عامر للرجل إن نعيمة يجيد الفرنسية والروسية كالعربية، وهو رجل عالمي، لذلك فلا مانع من ترشيحه أيضًا لنيل الجائزة عندما طلب رئيس اللجنة ترشيح شاعر.

وفي عام 1988، وهو عام حصول نجيب محفوظ على نوبل، اتصل به شاعر كبير من اللجنة، ليطلب ترشيح شاعر آخر غير نعيمة، فرشح أدونيس!

هنا يؤكد عامر أنه تم تداول اسم أكاديمي بريطاني يهودي الديانة قيل إنه سبب كذلك في ترشيح نجيب محفوظ لنوبل، وهو الدكتور أفيهاي شفتيل، رئيس قسم الدراسات العبرية الأسبق في جامعة «ليدز» البريطانية، فيقول إنه لم يسمع عن ذلك الأمر، خصوصًا أن الأكاديمية، التي تتكون لجنتها من خمسة أعضاء، يرشحون ويختارون ويكتبون تقريرًا عن كل مرشح، ثم يصوت عليها 18 عضوًا متخصصًا، وكان باللجنة شاعر يهودي وليس من إسرائيل، ولم يكن هو شفتيل هذا.

مسألة دعم إسرائيل تلك كانت هاجسًا عنده في ما رواه في الكتاب، فأكد مرة أنه سأل الأديب الكبير يوسف القعيد: «هل كوفئ محفوظ على موقفه الحيادي من معاهدة كامب ديفيد؟» فرد القعيد أنه لا دخل للسياسة بنوبل للآداب على الإطلاق، والدليل أنه عرف قبل حصول محفوظ على الجائزة أن اللجنة انتهت إلى مرشحين اثنين، هما محفوظ المصري وشاعر صيني، وأنه إذا حصل عليها الأخير فإن محفوظ سيحصل عليها في العام الذي يليه.

القعيد قال لعامر، وفقاً لعهدة الأخير، إن هناك مستشرقًا يهوديًا في إنجلترا أرسل لمحفوظ خطابًا يقول فيه إنه صاحب الفضل في منحه جائزة نوبل، فأرسل محفوظ له خطاب شكر، وإن محفوظ ذاته لم ينكر ذلك، بل وطلب من القعيد معلومات عنه وعن عمله.

عامر يروي في كتابه المخطوط أيضًا قصة رواها له القعيد، فيقول إن محفوظ قال له إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بيجين هنأه بالجائزة قبل حصوله عليها بدقائق، وكذلك شيمون بيريز، الذي أكد له أن إسرائيل هي التي أتت له بالجائزة! بل ويروي عامر أن القعيد قال له في مرة، إنه كان أحد ثلاثة كانوا بجوار محفوظ عندما هنأه بيجن وبيريز!

هذه هي القصة الأقرب للحقيقة

نُشر مقالي على صفحات جريدة «القاهرة» في يوليو 2012 على مدار أسبوعين متواليين. وقتها كان السبق الصحفي هو أكثر ما يُهمني، إلا أنه مع قراءة مخطوط الكتاب مرة بعد مرة كانت دهشتي تزداد من كم المعلومات المغلوطة والمتداخلة وغير المنطقية أيضًا، أبسطها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي عام 1988 كان إسحاق شامير، وليس بيجين، كما ذكر عامر.

وثانيها عدم معقولية رفضه طلب الرئيسين الراحلين السادات ومبارك لترشيح أديب ما، فضلاً عن التشكك في روايته حول يوسف إدريس.

بعد نشر المقالين تصورت أن الدنيا ستقوم ولن تقعد كما كانت، ولكن الغريب أن جميع من ذُكرت شهادتهم في الكتاب، الراحل جابر عصفور والأديب الكبير يوسف القعيد تحديدًا، كانا يضحكان من كم المعلومات غير الصحيحة في وجهة نظرهما، مؤكدين أن عطية عامر لا يقول الحقيقة دائمًا، وباحث عن شهرة إلصاق اسمه باسم نجيب محفوظ ونوبل.

لا أعرف الآن مصير البروفيسور عطية عامر، فإن كان حيًا فهو قد تعدى المئة عام، وإن كان قد لقى ربه، فله الشكر إن كان أحد الأسباب الكثيرة جدًا لفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وتبقى حكاياته في ذمة التاريخ والعقل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.