بسبب الحرب الأهلية الأمريكية (1861 – 1865) تحولت عيون البريطانيين إلى مصر لسببين: أولهما أن القارة المكتشفة حديثًا كانت تمر بفترة عصيبة من الصراعات، ما صعَّب على الأوروبيين المشتغلين بالتجارة الهجرة إليها، مفضلين الذهاب إلى مصر باعتبارها أرض فرص تجارية مستقرة، لا سيما أنها كانت تشهد طفرة كبيرة في تجارة القطن، وهي التجارة التي كان لبريطانيا فيها اليد العليا بالعالم.

ثاني الأسباب هي الرغبة التي سيطرت على عقول دولة أبناء محمد علي باشا في التأكيد على فكرة الانفصال التدريجي عن الدولة العثمانية، والتمتع بالحكم الذاتي، وذلك عن طريق الاستعانة بالأوروبيين، طمعًا في مساعدتهم في أي صراع ينشأ مع الدولة العثمانية، وهو الأمر الذي نتج عنه وجود عدد كبير من الأجانب في عصر إسماعيل مثلًا، إذ بلغ عدد الفرنسيين عشرين ألفًا، ومثلهم من الطليان، بينما بلغ عدد البريطانيين نحو عشرة آلاف، أما اليونانيون فبلغوا خمسة وعشرين ألفًا، فضلًا عن جنسيات أخرى.

في سنة 1863، كان شاب بريطاني يدعي «صمويل سيليج كوسيل» لبَّى رغبة والده في الهجرة إلى مصر، حيث رأى الأب فيها أرضًا موعودة مليئة بالفرص والعمل. جاء الشاب «كوسيل» المولود في «ليفربول» إلى مصر عقب تخرجه مباشرة، فعمل في أول الأمر في محالج القطن ومصانع الزيوت بالزقازيق، ثم انتقل إلى الإسكندرية ليعمل في الجمارك، ثم اختير لفترة قصيرة قنصلًا بالإسكندرية.

عاش الشاب البريطاني «كوسيل»، المولود لأبوين من أصل ألماني، أكثر من نصف حياته خارج وطنه بريطانيا، عاش أكثر من 25 سنة منها في مصر، وكتب مذكراته فيها وأصدرها سنة 1915. ووفقًا لموقع الأنساب البريطاني الشهير «Ancestry.com»  فإن سجلات الوفيات في إمارة ويلز البريطانية سجلت وفاته بعد نشره للمذكرات بسنة واحدة فقط، على الأرجح.

كان «كوسيل» شاهد عيان على العديد من الأحداث المهمة التي وقعت في تاريخ مصر، فقد حضر افتتاح قناة السويس سنة 1869، والثورة العرابية في 1881، بل قدم في مذكراته التي صدرت عن دار «إشراقة» بعنوان «ربع قرن في مصر.. مذكرات البارون كوسيل» وترجمها محمد علي ثابت وراجعها وعلق عليها وليد كساب، وصفًا تفصيليًّا لهذين الحدثين الكبيرين، فضلًا عن شهادته عن أوبرا عايدة، وكذلك لمحنة وباء الكوليرا التي ضربت مصر في 1865، وخلفت أكثر من 60 ألف ضحية، كما ذكر.

ولعل زواج «كوسيل» من شقيقة مؤسس البريد المصري «تيتو تشيني»، جعله على مقربة من صناعة القرار في مصر حينها، لكنه في ذات الأمر، تحدث تقريبًا عن كل ما يخص الحياة الاجتماعية، من رصد لأحوال المصريين وحياتهم اليومية وعاداتهم، لا سيما وصفه للموالد وعادات الزواج والوفاة وغيرها.

ذكريات رجل إنجليزي عن مصر

تعلم «كوسيل» اللغة العربية، وربما زاد هذا في فهمه للمجتمع المصري، إلا أنه حينما كتب المذكرات كتبها بلغته الأم، الإنجليزية، وقد أعطاها اسم «ذكريات رجل إنجليزي عن مصر من 1863 إلى 1887». بدأها الرجل بذكر رحلته إلى الزقازيق، وعمله في محلج للقطن هناك، لكن أول صدمة تعرض لها هي تفشي وباء الكوليرا في القاهرة وبعض المحافظات الأخرى، وقد توفي على إثرها وكيل المحلج في الإسكندرية، ما كان يحتم على شخص من المحلج الذهاب لاستلام بذور القطن الخاصة بهم، وقد كان هذا الشخص هو «كوسيل».

ذهب الرجل إلى الإسكندرية في أول أيام العام 1865، وقت كانت الكوليرا تحصد يوميًّا المئات، وقد وصف شوارع الإسكندرية بشكل مريع، فيقول إنه كان يرى في كل زاوية أشخاص يحملون نعشًا وتتبعهم نسوة يصرخن بشدة، وحينما سأل السائق الذي استأجره في مهمته تلك عن كون تلك الساعة التي وصل فيها الإسكندرية هي ساعة لدفن الموتى، رد السائق بأنه ليس هناك ساعة خاصة بالدفن، بل إن الأمر مستمر يوميًّا منذ طلوع الشمس حتى غروبها.

يقول «كوسيل» في مذكراته إن الحياة عادت إلى هدوئها المعتاد في شهر أغسطس من العام 1865، أي بعد شهر واحد من انتقاله للعمل في شركة «باركر وشركاه» لخطوط الملاحة البخارية والتجارية العموميين، وهي الفترة التي اقترب فيها من عالم التجار الأجانب في مصر.

افتتاح قناة السويس: مواكب وجولة وعلى الأحصنة

في 16 نوفمبر من العام 1869 بدأت مراسم افتتاح قناة السويس، وكما يقول «كوسيل» إن هذا العمل استغرق عشر سنوات كاملة لإكماله بتكلفة حوالي سبعة عشر مليون جنيه استرليني، وقد حضر «كوسيل» حفل الافتتاح، بدعوة من الخديوِ إسماعيل شخصيًّا. ويضيف الرجل أنه في رحلته من الإسكندرية إلى القناة رأى يخت الإمبراطورة الفرنسية أوجيني، وعندما وصل إلى بورسعيد وجد المرفأ مزدحمًا بالسفن، خصوصًا الفرنسية والإيطالية والنمساوية، بينما ترسو خارج المرفأ خمس سفن حربية بريطانية، فضلًا عن قوارب انتشار سريع، وبارجتين مدرعتين نمساويتين.

في منتصف نهار اليوم، كما يروي «كوسيل»، ارتفعت دعوات علماء الدين الإسلامي، وصلوات رجال الدين المسيحي، وأقيم سرادق على شاطئ البحر لهذا الغرض، وكانت القوات المصرية تصطف أمامه، بينما أقيمت سرادقات أخرى للخديوي وضيوفه الملكيين.

ويصف الرجل مشهد موكب المنصة بتفصيل شديد، حيث أكد أن ولي عهد مصر حينها، الأمير محمد توفيق (أو توفيق) قاده مع أميرة هولندا، والإمبراطورة أوجيني كانت تستند إلى ذراع إمبراطور النمسا جوزيف الأول، أما الخديوي إسماعيل فكان يسير إلى جوار ولي عهد بروسيا فريدريك الثالث، وخلفهم دوق روسيا الأكبر ميخائيل، والأرشيدوق فيكتور شقيق إمبراطور النمسا، والأمراء أوغسطس أمير السويد وأماديوس أمير سافوي، ولويس أمير هيسن، يتبعهم العديد من الضباط الفرنسيين والنمساويين والإيطاليين، وبينهم كان يسير فيردناند ديليسبس صاحب فكرة مشروع القناة، والعقيد ستانتون القنصل العام البريطاني.

كانت بورسعيد في تلك الليلة مدينة وميناء مضاءة ببراعة، مثلما يروي «كوسيل» في مذكراته، وكان القمر ساطعًا يضيف كثيرًا من الروعة على المشهد.

وفي اليوم التالي الأربعاء 17 نوفمبر، في الساعة الثامنة صباحًا، تم افتتاح قناة السويس رسميًّا، ومر موكب من حوالي 70 باخرة من مختلف الجنسيات بقيادة يخت الإمبراطورة أوجيني، وذهبت اليخوت كاملة إلى الإسماعيلية بعد نحو 12 ساعة من بدء الاحتفال، وبعد ذلك بوقت قصير خرجت الإمبراطورة أوجيني برفقة ديليسبس وقد ركبا عربة تجرها الأحصنة طافا بها شوارع المدينة، التي تحولت في الليل إلى سرادقات مليئة بشتى صنوف الطعام والنبيذ، وقد وصف «كوسيل» المشهد بأنه من أروع المشاهد التي رآها في حياته.

أوبرا عايدة: وصف لا يتناسب مع الحماس

ربما لم تظهر حماسة «كوسيل» في انتظار أي حدث من الأحداث التي رافقت رحلته في مصر، مثل إظهاره لحماسة انتظاره لما سُمي بعد ذلك بـ«أوبرا عايدة»، وذلك منذ أن علم بأن الخديوي إسماعيل كلف الموسيقار الإيطالي فيردي بكتابة أوبرا يكون موضوعها عن مصر.

قال الرجل إنه كان من المتوقع أن يأتي فيردي إلى القاهرة لتقديم العرض الأول للأوبرا بنفسه، ولكن مع الأسف منعه رعبه وخوفه من البحر من قبول دعوة إسماعيل. ويشير «كوسيل» إلى أنه حضر الحفل، حيث كان الجمهور في دار الأوبرا قد بلغ الألفين تقريبًا بحضور الخديوي وجميع الأمراء والأميرات، وقد غطيت المقصورات التي جلسن فيها بمشربيات شبكية رفيعة يمكن من خلالها رؤية أشكال مشوشة لسيدات يرتدين قطعًا كثيرة من الألماس والأحجار الكريمة المتلألئة، كذلك حضر القناصل وزوجاتهم والوزراء وضباط الأركان.

وبقدر حماسة «كوسيل» في تمهيده للحفل، لم تظهر فيما يبدو حماسته في وصف العرض، حيث اكتفى بذكر المشاهد السابقة، ولم يكتب عن العرض إلا عن أسماء طاقم العمل. ربما لم يدرك الرجل أهمية العرض وموضوعه، بل من الوارد أنه لم يحضره في الأساس!

الثورة العرابية: سردية «كارهة» متوقعة

استطاع «كوسيل» أن يقترب من دوائر صنع القرار في عهد الخديوي توفيق، مع صعود واضح للأجانب في مراتب الدولة العليا، إذ تم تعيينه مراقبًا عامًّا للجمارك المصرية في يناير 1880، مكتسبًا من ثقة السلطات المصرية الكثير، لدرجة أنه كتب في مذكراته بفخر شديد عن توسطه لدى تلك السلطات من أجل الإسراع بالموافقة على تصدير مومياوات وآثار مصرية مختلفة إلى الخارج، حتى تكون بحوزة الذين اشتروها، وقت عمليات الشراء الكبرى للآثار، قبل صدور قوانين حمايتها من يد التجار الأجانب.

وموقف «كوسيل» من أحمد عرابي واضح للغاية، فهو موقف الكاره الحاقد، تمامًا مثله مثل موقف الكثير من المؤرخين الأجانب الذين كتبوا عن هذه الفترة، وقد تحدث «كوسيل» عن عرابي بنبرة متعالية ومتسائلة عن سر قوته وشعبيته لدى عموم المصريين، فأظهره «كوسيل» في مذكراته شخصًا لا يمتلك جاذبية على الإطلاق، ولم يحصل إلا على قدر ضئيل من التعليم، لكنه يجيد التلاعب بالألفاظ، ويجعل الأكاذيب منطقية، بل – وكما وصفه الرجل الإنجليزي – يستطيع استغلال الدين كسلاح للهجوم والدفاع.

يُحمِّل البارون الإنجليزي، عرابي، مسئولية إشعال ثورة الإسكندرية ضد الرعايا الأجانب، وما تلاها من أحداث كانت نتيجتها اشتعال الحرائق في المدينة، ولعل أخطر ما يذكره الإنجليزي «كوسيل» في مذكراته بخصوص عرابي، بل يؤكد شهادته عليها، أنه استطاع إحباط محاولة تهريب بالغة الإثارة، إذ أتاح له موقعه على رأس هيئة جمرك الإسكندرية أن يحول دون وصول آلة قيل إن عرابي استقدمها من الولايات المتحدة الأمريكية بغرض تفجير السفن البريطانية والفرنسية تحت الماء على شاطئ الإسكندرية!

هذه الرواية ليست شهيرة، بل على العكس مهجورة للغاية، ولكنها إن صحت، وفقًا لرأي مراجع المذكرات وليد كساب في مقدمته للكتاب، كانت كفيلة بتجنيب مصر ويلات الاحتلال.

قراءة المذكرات عمومًا مهمة، لكن التعامل معها بتسليم وتقديس أمر مرفوض، فمذكرات «كوسيل» قدمت بالفعل وصفًا تفصيليًّا للكثير من الأحداث التي عاصرها الرجل، ولكن الملاحظ فعلًا، كما قال مراجع المذكرات إن الرجل دائمًا ما يريد أن يُخبر القارئ بأنه يعيش في بؤرة الأحداث، وذلك رغم غيابه شبه التام عن كتب المؤرخين لهذا العصر.

كما يبدو «كوسيل» وكأنه يسعى بشتى الطرق في ألا يتبنى وجهة نظر المحتل، إلا أنه في أحداث الثورة العرابية تحديدًا، ظهرت انحيازاته كاملة، والتي لا تبتعد كثيرًا عن وجهة نظر المؤرخين الأجانب، الذين دائمًا ما هاجموا الثورة العرابية، ولوثوا صورة الرجل، في سبيل مدح كبير لدولة أبناء محمد علي باشا، والتي خصص «كوسيل» لهم فصلًا مادحًا في نهاية مذكراته.