في صباح مثل هذا اليوم 26 فبراير/شباط من عام 1980، وبينما كان الرئيس المصري الراحل «أنور السادات» يستعد لاستقبال أول سفير «إسرائيلي» في مصر، توجه أحد المزارعين المصريين إلى مبنى الوحدة المحلية (مبنى البلدية) في قريته، وأعلن احتجاز ثلاثة من موظفيها كرهائن حتى يتم طرد السفير وإغلاق السفارة.

كانت ثلاثة وثلاثون عامًا قد مرت على حرب عام 1948، حينما أضاع مزيج الفشل والخيانة من بعض الأنظمة العربية تضحيات وأرواح الآلاف من الأبطال العرب، وفي القلب منهم أبطال مصريون، كانوا قد هبوا للدفاع عن فلسطين وأهلها الذين كانت تجتثهم مجموعات المحتلين القادمة من أوروبا ودول العالم، تقودهم عصابات مسلحة ومدربة ومدعومة من أقوى الإمبراطوريات.

ثلاثة وثلاثون عامًا لم يتوقف خلالها احتلال الأراضي، والمذابح الممنهجة، وعمليات الاغتيال وإزهاق الأرواح، قُصفت خلالها المدارس والمصنع، واستشهد التلاميذ والعمال وذُبح الأسرى، حتى صار في كل بيت أم ثكلى، أو طفل يتيم، أو شخص مكلوم في جسده أو نفسه.

ثلاثة وثلاثون عامًا ذهبنا خلالها مع العرب إلى الحرب ثم تركهم السادات وحده وسار في درب التطبيع، ثم توغل فيه مقدمًا التنازلات المتتالية حتى افتتحت أول سفارة لدولة الاحتلال فوق أرض مصر بينما كانت لا تزال تعيث فسادًا فوق أراضي فلسطين وسوريا ولبنان وتغتال الشخصيات العربية حول العالم.

ثلاثة وثلاثون عامًا كان هو عمر المزارع المصري البسيط، سعد إدريس حلاوة، أول من أزهقت روحه رفضًا للتطبيع مع إسرائيل.

بكاء وصراخ المصريين أثناء افتتاح السفارة الإسرائيلية في القاهرة في فبراير 1980

بينما كان يدوي الصراخ والنحيب من الرجال والنساء المصريات وهم يرون علم إسرائيل يطعن سماء بلادهم، وفوق الأرض التي لم يجف عليها بعد دماء أبنائهم وإخوتهم. وبينما السادات يجهز نفسه لاستقبال إلياهو بن إليسار، السفير الإسرائيلي، كان سعد حلاوة يجهز حقيبته هو الآخر، والتي وضع فيها مدفع رشاش ومسجل صوت وعدة شرائط مسجل عليها أغانٍ وطنية بثها عبر مكبر صوت وجهه نحو منازل قريته تزامنًا مع إذاعة خبر استقبال السفير، من فوق مبنى الوحدة المحلية بأجهور الكبرى، إحدى قرى محافظة القليوبية.

لم يستغرق الخبر كثيرًا حتى وصل إلى علم السادات الذي أرسل، نبوي إسماعيل، وزير الداخلية إلى القرية بنفسه لإنهاء الأمر في أسرع وقت. وبالفعل أحضر الوزير والدة سعد، السيدة الريفية البسيطة، التي راحت تطالب ابنها بتسليم نفسه بينما كان الجنود يضعون السلاح في ظهرها، وما إن سمعها سعد حتى صاح في مكبر الصوت قائلًا: «ارجعي يا أمي وافتحي قبر والدي واعتبريني من الشهداء دفاعًا عن الوطن ضد الخونة»، ولم تمر دقائق حتى نالت منه رصاصات القناصة.

42 عامًا مضت منذ اغتيال سعد، لم تتوقف إسرائيل عن التهام الأراضي العربية، ولا إراقة الدماء العربية، وعلى الرغم من ذلك فقد راحت أعلامها تطعن العواصم العربية واحدة تلو الأخرى. كل تلك السنوات الطويلة لم يتعلم خلالها العرب كيف ينتصرون، ولا حتى كيف ينهزمون. قدمت الأنظمة التنازلات وراء التنازلات دون مقابل، حتى أصبحت تل أبيب أقرب للزعماء العرب من الجامعة العربية. تلك الأنظمة التي تسلمت مهمة إراقة دمائنا نيابة عن الاحتلال.

وقد كتب الشاعر السوري الكبير نزار قباني رئاءً مطولاً بعنوان «صديقي المجنون سعد حلاوة» قال فيه:

من هو سعد حلاوة؟
جمجمة مصرية كانت بحجم الكبرياء وحجم الكرة الأرضية
إنه خنجر سليمان الحلبي المسافر قي رئتي الجنرال كليبر
هو كلام مصر الممنوعة من الكلام
وصحافة مصر التي لا تصدر
وكتاب مصر الذين لا يكتبون
وطلاب مصر الذين لا يتظاهرون
ودموع مصر الممنوعة من الانحدار
وأحزانها الممنوعة من الانفجار

ثم يقول:

سعد حلاوة كان الأصدق والأصفى والأنقى، فهو لم يقتنع بأسلوب المقاومة العربية وبيانات جبهة الصمود والتحدي. فقرر أن يتصدى على طريقته الخاصة ويخترع مقاومته. إذا كان سعد حلاوة مجنونًا فيجب أن نستحيي من عقولنا. وإذا كان متخلِّفًا عقليًّا فيجب أن نشك في ذكائنا. هو قاوم افتتاح السفارة الإسرائيلية في القاهرة على طريقته الخاصة فقاتل وقُتل. في حين نحن لم نقاتل ولم نُقتَل. كل ما فعلناه أننا حملنا ميكروفوناتنا. وبدأنا البث المباشر … وعندما دخل السفير الإسرائيلي إلياهو بن اليسار إلى قاعة العرش وقدَّم أوراق اعتماده سفيرًا فوق العادة ومطلق الصلاحية إلى الملك محمد أنور بن فاروق بن فؤاد بن السادات، توقفنا عن إذاعة القرآن الكريم، ونصبنا الصلوات، وبدأنا نستقبل المعزين.