على الرغم من الأهمية البالغة التي يحظى بها مصطلح رجال الغيب في المُعتقد الصوفي الجمعي، باعتباره اسمًا جامعًا لأصناف مختلفة من الأولياء الذين مُنحوا قدرات ومواهب خاصة من لدن الله عز وجل، فإن الكثير من الجدل قد أحاط بهذا المصطلح عبر القرون، الأمر الذي ظهر بشكل واضح في الكثير من الكتابات والمؤلفات، سواء كانت تلك التي تم تصنيفها بواسطة كبار الصوفية من جهة، أو تلك التي تم تأليفها بواسطة علماء السنة وأهل الحديث من جهة أخرى.

العقل الصوفي الجمعي روَّج للكثير من أنواع الولاية الخاصة – ومن أهمها كل من: القطب، والإمامين، والأوتاد، والأبدال، والنقباء، والنجباء فجعل لكل منها سمات ووظائف محددة، وأوكل لهم بعض المهام المرتبطة بتصريف شئون الكون، كما نسب إليهم طائفة واسعة من أخبار الكرامات والخوارق التي اشتُهرت وذاعت بين الناس.

بين قبول الصوفية ونفي أهل الحديث

يقوم المُعتقد الصوفي التقليدي على أساس أن هناك مجموعة مميزة من الأولياء، أولئك الذين وهبهم الله قدرة خاصة على ممارسة بعض الأعمال الغيبية. من أهم الأدلة التي يسوقها الصوفية للتأكيد على ذلك المُعتقد، الحديث المرفوع الذي أورده الطبراني (المتوفى 360هـ) في المعجم الكبير: “إِذَا أَضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا، أَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ، فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، فَإِنَّ للهِ عِبَادًا لَا نَرَاهُم».

الحديث عن هؤلاء الرجال – الذين اصطُلح على تسميتهم برجال الغيب – ورد في الكثير من المدونات الصوفية المهمة، ومنها على سبيل المثال كل من «قوت القلوب في معاملة المحبوب» لأبي طالب المكي (المتوفى 386هـ)، و«طبقات الصوفية» لأبي عبد الرحمن السُلمي (المتوفى 412هـ)، و«كشف المحجوب» لأبي الحسن الهجويري (المتوفى 465هـ)، هذا فضلًا عن كتاب «الفتوحات المكية» للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (المتوفى 638هـ).

 وعلى الرغم من أن ترتيب طبقات رجال الغيب قد شهد اختلافًا وتضاربًا بين ما ورد في تلك المؤلفات بعضها وبعض، فإن أشهر ترتيب لهم كان ذلك الذي أورده ابن عربي في كتابه، إذ يذكر أن «المُجمع عليه من أهل الطريق أنهم – أي رجال الغيب – على ست طبقات أمهات: أقطاب، وأئمة، وأوتاد، وأبدال، ونقباء، ونجباء …».

على الرغم من أن هذا الترتيب الذي أورده ابن عربي في القرن السابع للهجرة قد اشتُهر وذاع بين أوساط الصوفية في كل مكان في العالم الإسلامي، إلا أنه قد تعرض للنقد اللاذع من جانب الكثير من علماء أهل السنة والجماعة، ولا سيما الحنابلة منهم، ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني (المتوفى 728هـ) في مجموع الرسائل، إذ قال: «… وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي يكون بمكة، والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة، فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضًا مأثورة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل … بل هذا الترتيب والاعتداد يشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم في السابق والتالي والناطق والأساس والحد، وغير ذلك من الترتيب الذي ما أنزل الله به من سلطان».

على قمة الهرم: القطب والإمامان

يُعد القطب، أهم وأعظم المراتب عند الصوفية، وقد عرفه ابن عربي بقوله: «القطب مركز الدائرة ومحيطها ومرآة الحق، عليه مدار العالم، له رقائق ممتدة إلى جميع قلوب الخلائق، بالخير والشر على حد واحد، لا يترجح واحد على صاحبه، وهو عنده لا خير ولا شر، ولكن وجود ويظهر كونها خيرًا وشرًّا في المحل القابل بحكم الوضع وبالعرض والعقل عند بعض العقلاء».

في السياق نفسه، بيَّن ابن حجر الهيثمي (المتوفى 973هـ)، معنى القطب، فقال: إنه هو «الغوث الفرد الجامع جعله الله دائرًا في الآفاق الأربعة أركان الدنيا كدوران الفلك في أفق السماء، وقد ستر الله أحواله عن الخاصة والعامة غيرة عليه، غير أنه يرى عالمًا كجاهل وأبله كفطن وتاركًا آخذًا قريبًا بعيدًا سهلًا عسرًا آمنًا حذرًا، ومكانته من الأولياء كالنقطة من الدائرة التي هي مركزها به يقع صلاح العالم».

أحد المصطلحات الصوفية المشهورة المتفرعة عن مصطلح القطب، هو مصطلح «الأقطاب الأربعة»، وهو من بين المصطلحات الصوفية الحديثة نسبيًّا، وتُقصد به الإشارة إلى أربعة من كبار الأولياء المتصوفة عند أهل السنة والجماعة، والذين ظهروا تباعًا في الفترة الواقعة بين القرن الخامس الهجري والقرن السابع الهجري، وهم على الترتيب، عبد القادر بن موسى بن عبد الله، المشهور بعبد القادر الجيلاني، الحنبلي المذهب، والذي ولد في عام 470هـ بمدينة جيلان في إيران، وتوفي في عام 561هـ بمدينة بغداد في العراق، وتُنسب له الطريقة القادرية؛ وأحمد بن علي الرفاعي، الشافعي المذهب، والذي ولد في مدينة البصرة في العراق في عام 512هـ، وتوفي في عام 578هـ بمدينة بغداد، وتُنسب له الطريقة الرفاعية؛ وأحمد بن علي بن يحيى البدوي، المشهور بالسيد البدوي، الشافعي المذهب، والذي ولد في مدينة فاس بالمغرب في عام 596هـ وتوفي في مدينة طنطا بمصر في 675هـ، وتُنسب له الطريقة الأحمدية، وأخيرًا، القطب الرابع، إبراهيم بن عبد العزيز أبو المجد بن قريش، المشهور بإبراهيم الدسوقي، الشافعي المذهب، والذي ولد في مدينة دسوق بمصر في عام 633هـ وتوفي بالمدينة نفسها في عام 653هـ، وتُنسب له الطريقة البرهامية.

الكثير من الصوفية يعتقدون أن لهؤلاء الأولياء الأربعة قدرات إعجازية وكرامات خارجة عن المألوف، كما يؤمن البعض بأن هؤلاء الأقطاب قد وُهبوا القدرة على التصرف في الكون، وعلى التحكم في جميع مقاديره، إذ حُكيت عنهم كرامات وخوارق كثيرة في هذا المعنى، ولا تزال تلك القصص – رغم غرابتها وقربها من حكايات الخيال الشعبي – باقية حتى الآن في الذهنية الصوفية الجمعية في كل من مصر والشام والعراق. بحسب المعتقد الصوفي، فإنه يكون لكل قطب اثنين من الأولياء المساعدين له، ويعرفان باسم الإمامين، وهما كالوزيرين اللذين يشيران على القطب ويساندانه في الأعمال الموكلة إليه، ويحتلان المرتبة الثانية في التراتبية الصوفية.

باقي المراتب: الأوتاد والأبدال والنقباء والنجباء

بعد مرتبة الإمامين تأتي مرتبة الأوتاد، وقد جاء وصفهم على لسان ابن عطاء الله السكندري، إذ قال: «الأوتاد هم أهل الاستقامة والصدق لا يغيرهم الأحوال وهم في مقام التمكين».

ابن عربي أفرد مساحة كبيرة للحديث عن الأوتاد، فقال إنهم أربعة، وإن كل واحد منهم مختص بناحية من نواحي الدنيا، ففي الشرق يوجد الوتد المُسمى بعبد الحي، وفي الغرب يوجد الوتد المُسمى بعبد العليم، وفي الشمال يوجد الوتد المُسمى بعبد المريد، أما في الجنوب فيوجد الوتد المُسمى بعبد القادر.

بحسب ابن عربي، فإن هؤلاء الأوتاد نواب لأربعة من الأنبياء، الذين قُدر لهم طول الحياة، وهم إدريس وإلياس وخضر وعيسى، وقد ذكر ابن عربي وظيفة كل وتد من الأوتاد الأربعة، فقال: «فبالواحد يحفظ الله الإيمان، وبالثاني يحفظ الله الولاية، وبالثالث يحفظ الله النبوة، وبالرابع يحفظ الله الرسالة، وبالمجموع يحفظ الله الدين الحنيف».

على النقيض من باقي المراتب المعروفة في التراتبية الصوفية التقليدية، فإن رتبة الأبدال هي الرتبة الوحيدة التي ورد ذكرها بشكل صريح في بعض المدونات الحديثية. على سبيل المثال، ورد ذكر الأبدال في مُسند الإمام أحمد بن حنبل (المتوفي 241هـ)، في مجموعة من المواضع، منها رواية على لسان الرسول نفسه، قال فيها: «الأبدال في هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم خليل الرحمن، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلًا»، كما جاء في رواية أخرى منسوبة إلى علي بن أبي طالب، أن بعض جنده قد طلب منه أن يلعن جند الشام الذين خرجوا لقتاله في موقعة صفين 37هـ، ولكن الخليفة الرابع رفض طلبهم، وفسر موقفه بقوله: «إني سمعت رسول الله يقول: الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلًا، كلما مات رجل، أبدل الله مكانه رجلًا، يُسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب».

أيضًا ينقل ابن أبي الدنيا (المتوفي 281هـ) في كتابه «الأولياء» عن علي بن أبي طالب أنه قد سأل الرسول عن الأبدال، فقال له: «هم ستون رجلًا … ليسوا بالمتنطعين، ولا بالمبتدعين، ولا بالمتعمقين، لم ينالوا ما نالوا بكثرة صيام، ولا صلاة، ولا صدقة، ولكن بسخاء النفس وسلامة القلوب والنصيحة لأئمتهم، إنهم يا علي من أمتي أقل من الكبريت الأحمر».

التناول الصوفي المبكر لمصطلح الأبدال، عمل على شرح هذا المصطلح في ضوء بعض التعاليم الأخلاقية التي حض الإسلام عليها، ومنها ما نُقل عن السري السقطي (المتوفي251هـ): «أربع من أخلاق الأبدال، استقصاء الورع وتصحيح الإرادة وسلامة الصدر للخلق، والنصيحة لهم»، وما ورد عن يحيى بن معاذ الرازي (المتوفي 258هـ): «إذا رأيت الرجل يعمل الطيبات فاعلم أن طريقه التقوى، وإذا رأيته يحدث بآيات الله فاعلم أنه على طريق الأبدال».

في كتابه «الفتوحات المكية» حدد ابن عربي عدد الأبدال بأربعين، وذكر أن منهم الرجال ومنهم النساء، كما قرر أن منهم سبعة موكلون بحفظ أقاليم الأرض السبعة، وشبههم بالأنبياء، إبراهيم وموسى وهارون وإدريس ويوسف وعيسى وآدم، وذكر أن هؤلاء الأبدال السبعة «عارفون بما أودع الله سبحانه في الكواكب السيارة من الأمور والأسرار في حركاتها ونزولها في المنازل المقدرة». ابن عربي فسَّر تسميتهم بالأبدال بطبيعتهم الخارقة، فهم «إذا فارقوا موضعًا ويريدون أن يخلفوا بدلًا منهم في ذلك الموضع … يتركون به شخصًا على صورته لا يشك أحد ممن أدرك رؤية ذلك الشخص أنه عين ذلك الرجل وليس هو بل هو شخص روحاني يتركه بدله …».

أما عبد الوهاب الشعراني (المتوفي 973هـ) ومحمد عبد الرءوف المناوي (المتوفي 1031هـ) – وكلاهما من أكابر الصوفية الذين اهتموا بسرد سير الشيوخ والزهاد – فقد رويا في مصنفاتهما العشرات من القصص الخارقة عن الأبدال، والتي جاءت متوافقة مع ما صرح به ابن عربي في فتوحاته، ومنها ما ذكره الشعراني في ترجمة الشيخ محمد الحضري بأنه «كان يُرى في كذا كذا بلدًا في وقت واحد»، حتى إنه خطب الجمعة ذات يوم في بلده «ثم جاء بعض أهل البلاد المجاورة فأخبر أهل كل بلد أنه خطب عندهم وصلى بهم، قال: فعددنا له ذلك اليوم ثلاثين خطبة، هذا ونحن نراه جالسًا عندنا في بلدنا».

بعد طبقة الأبدال تأتي الطبقة المعروفة باسم النقباء، وقد قيل إنهم ثلاثمائة، وإنهم يسكنون بالمغرب؛ وقيل بل هم اثنا عشر على عدد بروج الفلك، وإن كل نقيب منهم عالم بالخصائص والأسرار المستودعة في برجه، وقد شرح ابن عربي سماتهم ووظائفهم، فقال: «… واعلم أن الله قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها»، كما ذكر أنهم – أي النقباء – يعرفون الكثير عن إبليس، كما يعرفون مصائر الناس وأحوالهم، فيميزون بين الشقي والسعيد. أخيرًا، وفي قاعدة هرم الولاية الصوفية، يأتي المعروفون باسم النجباء، وقد قيل إنهم «مشغولون بحمل أثقال الخلق»، وإنهم يسكنون مصر.