كنت في الصف الخامس الابتدائي حين ذهبتُ إلى معلمة الدراسات الاجتماعية لأسألها: لماذا لا يتكاتف حكام العرب للدفاع عن فلسطين؟ وكان ردها يشير إلى أنهم يهوِّشون الاحتلال أمام الرأي العام ويصافحونه من الخلف. وكان عصِيًّا عليَّ أن أفهم – حينئذٍ – تلك الجملة؛ لكنها ظلت عالقة في ذهني ولم تبارح وجداني.

وفي يوم من الأيام، وأنا أتجاذب مع أمي حديثًا لا ينقطع من الصباح إلى المساء، باغتتني فكرة أن نشاهد فيلمًا عن القضية الفلسطينية؛ فرشحت لي فيلمًا اسمه «ناجي العلي»، للفنان الراحل «نور الشريف» والمخرج «عاطف الطيب».

لم أكن أتجاوز وقتها أربعة عشر عامًا، وكان هذا هو تعارفي الأول على تلك الشخصية التي كانت تحمل تحت جلدها قضايا وهموم وطنها وتنقلها من خلال فن الكاريكاتير. فقد كان ناجي العلي ينقل أوجاع وآلام الشعب الفلسطيني من خلال فنه، كما لو أنه يفتح قفصه الصدري ويتركها تقفز على الأوراق.

أحببت كثيرًا تلك الشخصية التي أدركت أن الحرية هي الرئة الوحيدة التي تتنفس بها الأوطان؛ فقررت الاعتكاف على القراءة عنه والانشغال بالنظر إلى الماضي، وأغمضت عينيَّ قليلًا عن الحاضر، لمحاولة التركيز على تلك الفترة من الزمان، واشتريت كتبًا لأفهم كيف كان يُستخدَم سلاح الفن في إيصال الرأي المُشفَّر، ويأسِر العالم في مخيم فلسطين.

فنان بالفطرة .. وشعوب تشتهي الحرية

حين اعتقلته القوات الإسرائيلية في طفولته بسبب نشاطه ضد الاحتلال، كان يقضي وقته في السجن بالرسم على الجدران. وابتدع شخصية «حنظلة»، والتي تمثل صبيًّا في العاشرة من عمره، وهو رمز للفلسطيني المتألم، والقوي رغم كل المعوقات التي تواجهه، فهو دائر ظهره للعدو، وأصبح بمثابة توقيع «العلي» على رسوماته.

حنظلة بريشة «ناجي العلي»

وعن هذه الشخصية قال في حوار أجرته معه الكاتبة المصرية الراحلة «رضوى عاشور» عام 1984 في بودابست إنها رمز لطفولته؛ حيث ترك فلسطين في هذه السن، وذكر أن تفاصيل هذه المرحلة لا تغيب عن ذاكرته، وأسماه حنظلة، كرمز للمرارة.

وأضاف حين سألته هل سيكبر حنظلة؟ أنه سيظل في العاشرة حتى يعود الوطن، عندها فقط يكبر حنظلة، فقوانين الطبيعة المعروفة لا تنطبق عليه، إنه استثناء، لأن فقدان الوطن استثناء، وستصبح الأمور طبيعية حين يعود الوطن، ويمكن رؤية وجه حنظلة عندما تصبح الكرامة غير مهددة، وعندما تُستَرد إنسانية الإنسان العربي.

وورد في كتاب «أكله الذئب: السيرة الفنية للرسام ناجي العلي» للكاتب «شاكر النابلسي»، أن بطلنا كان لا يرسم ما يجري في صالونات السياسة بقدر ما يرسم ما تريده الناس، وكان أيضًا على عكس معظم رسامي الكاريكاتير، لا يرسم بعد أن يسمع نشرة أخبار المساء والتعليق السياسي ليرى أين تتجه البوصلة، ولكن رسمه هو الذي يُحدِّد البوصلة صباح كل يوم.

وقال عنه مرة الشاعر الفلسطيني «محمود درويش» في مقدمته لمجموعة العلي الكاريكاتيرية التي صدرت في 1976:

ناجي العلي يلتقط جوهر الساعة الرابعة والعشرين وعصارتها، فيدلني على اتجاه بوصلة المأساة وحركة الألم الجديد الذي سيعيد طعن قلبي.

كانت هذه هي رسالته الأولى: إن الشعوب العربية – شئنا أم أبينا – ستتخلص من الرواسب التي تتكاثف في أعماق الشعور، وستطلق الوحوش الكاسرة التي احتُبست في أنفاسها من خلال الفن والفنانين الصامدين بمختلف أدواتهم.

في الفن والصحافة .. لا مكان للجبناء

يصل الكاريكاتير في كثير من الأحيان إلى درجة من الأهمية يصبح فيها أحد الأركان الأساسية والرئيسية في حلبة الصراع السياسي. وعند ناجي العلي يعتبر الكاريكاتير مهمة تحريضية وتبشيرية، تُبشِّر بالأمل والمستقبل، وعليها واجب كسر حاجز الخوف بين الناس والسلطة، ومهمة «الكاريكاتيري» تعرية الحياة بكل معنى الكلمة، فالكاريكاتير ينشر الحياة دائمًا على الحبال وفي الهواء الطلق وفي الشوارع العامة.

لم يكن العلي متحجرًا؛ بل كان مرنًا ومولعًا ولعًا شديدًا بالتطلع إلى الأفكار الجديدة، فكان يهتم بالفكرة أكثر من اهتمامه بالتشكيل، وتأثر كثيرًا ببعض المدارس الكاريكاتيرية المصرية، فنرى الابتدائية في الخطوط واقتراب النسيج العام للوحة الذي كان متأثرًا فيه بمدرسة رسَّامي مجلتى «روز اليوسف» و«صباح الخير» المصريتين، وهو تأثير واضح، حتى إن ناجي نفسه أكَّده أكثر من مرة بقوله إنه «تأثر في مقتبل حياته بالمدرسة الفنية لرسامي هاتين المجلتين، من أمثال بهجت عثمان وأحمد حجازي وصلاح جاهين وغيرهم».

وفي أثناء زيارة الأديب «غسان كنفاني» لمخيم عين الحلوة (الذي مكث فيه ناجي العلي مع أسرته)، اطلع على بعض رسومات ناجي الكاريكاتيرية وأعجبته كثيرًا؛ فقرَّر أن ينشر له بعض رسومه، وبالفعل نشر أولى لوحاته، وهي عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوِّح، وقد نُشرت في مجلة «الحرية»، العدد 88، في 25 سبتمبر/أيلول 1961.

وكان يعلم العلي علم اليقين حينما يرسم رسوماته الكاريكاتيرية اليومية في الصفحة الأخيرة من جريدة «القبس» الكويتية، وقبل ذلك في «السفير» اللبنانية و«الطليعة» و«السياسة» في الكويت، بجانب الرسومات التي كان يرسلها للنشر مجانًا في الصحف الفلسطينية الصادرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

كان العلي مُدرِك أنها تُقرِّبه من نهايته؛ ليبلغنا في رسالته الثانية: أننا إذا انشغلنا بردود الأفعال، فسوف نُنتج فنًّا باهتًا يعتريه التردد، فالفن كسائر الأعمال المحفوفة بالمخاطر وكذلك الحال مع الصحافة والأدب.

عندما تُبرَّر الخيانة وتصبح وجهة نظر

مُنعت رسومات ناجي العلي تمامًا من النشر في مصر، في أيام حكم السادات وحسني مبارك، وكذلك في معظم الدول العربية، ورغم دفاعه عن القضية الفلسطينية فإنه وهو يدافع عنها كان يدين الاستبداد العربي من الحُكَّام العرب ويدين مهادنة إسرائيل.

وكان موقف العلي صارمًا من التطبيع، حتى إنه وصف الظهور العربي في وسائل الإعلام الإسرائيلية بـ «الخيانة»؛ لأنه يمثل اعترافًا ضمنيًّا بشرعية الوسيلة الإعلامية التي تمثل دولة مغتصبة. وكان يخشى أن يُمهِّد أي تطبيع جزئي مع الكيان الصهيوني إلى تطبيع عام، فكان عادة ما يقول عن المطبعين:

لا يستحقون إلا اللعنة والقذف بالحجارة.

وكل من دافع عنه دفع ثمن هذا غاليًا، فمثلًا الفنان الراحل نور الشريف تعرَّض لحملات شرسة من الانتقاد في الصحف المصرية، وذلك بسبب فيلمه عن ناجي العلي، ووصل الحد إلى اتهامه بالعمالة لأمريكا، وقال إنه تفاجأ من اتهام البعض له بأنه تقاضى 3 ملايين دولار مقابل عمل الفيلم من أمريكا، مؤكدًا أن الأمر كان أشبه بالمذبحة عليه.

ويبدو أن سر الهجوم على نور الشريف كان حماسته الشديدة للعمل، خاصة مع مساهمته في إنتاج الفيلم، ليدخل في صراع قوى مع كُتَّاب كبار في عالم الصحافة، منهم الكاتب «إبراهيم سعدة» رئيس تحرير جريدة «أخبار اليوم» آنذاك، الذي هاجمه بشدة بسبب موقف الفيلم من الرئيس السادات.

لتصل إلينا الرسالة الثالثة: أنه عندما يُهاجم الساسة الفنانين ينضم جميع المنافقين إلى الركب. وأن التطبيع عار وخيانة. ولا فرق بين العدو الإسرائيلي والعدو العربي.

الحياة هي مجرد قنطرة

عفوًا، فإني إن رثيتُ فإنَّما أرثي بفاتحة الرثاء رثائي عفوًا، فإني مَيِّتٌ يا أيُّها الموتى، وناجي آخر الأحياء.

هكذا رثى الشاعر العراقي «أحمد مطر» ضمير الثورة الفلسطينية ورسَّام الفقراء والمقهورين «ناجي العلي»، الذي كانت حريته هي القيد الوحيد الذي يُحدِّد حركاته ونشاطه.

وقف العلي في وجه أعتى موجات الظلم وانتقد الأنظمة العربية بطريقته الخاصة، فكشف قبح طغيانها، وسخر من ممارساتها، بكلمات سهلة وسلسة، لكنها كانت أشد وقعًا من الرصاص، فشاعت رسوماته وذاع صيته، حتى أصبح مُطارَدًا ومُهددًا بالقتل.

وقد أُطلق عليه الرصاص في أحد شوارع لندن بالقرب من مكتبه في جريدة «القبس الدولية» في 29 أغسطس/آب 1987، عن عمر يناهز 51 عامًا. ليُخلِّف سحابة من الحزن خيَّمت على الشعوب العربية بأكملها.

رحل ليُبلِّغ الجميع في رسالته الأخيرة أن: الحياة هي مجرد قنطرة، وعلى الناس ألَّا يغتروا بها، وألَّا يخشوا الحُكَّام.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.