حسنًا، كيف بدأت السباحة؟، لقد نشأت حول حمام السباحة بجانب أخواتي، كنت دومًا هناك بينما تعومان. أمي وضعتني بعوامة لتشعر بالأمان، بينما شعرت أنا بالراحة في المياه، تعلمت بتلك الطريقة وبدأت أحب الأمر تدريجيًا.
السباح الأمريكي مايكل فيليبس

كانت تلك الإجابة التقليدية للمدمرة الأمريكية مايكل فيليبس بأحد المقابلات عقب تتويجه بثمان ميداليات ذهبية بدورة بيكين 2008 الأوليمبية؛ ليكسر بذلك الرقم المستعصي المسجل من عام 72 لأسطورة السباحة مارك سبيتز بفوزه بعدد ميداليات ذهبية بدورة واحدة.

الأرقام التي احتكرها فيليبس لذاته، والتي تشير بفوزه بالميدالية الذهبية الرابعة بأولمبياد ريو 2016 حتى كتابة تلك السطور، تقول بإن مايكل الفرد يمكنه أن يجابه دولا ذات مؤسسات ووزارات وميزانيات وينتصر عليها بسهولة حين يأتي الأمر لإحصاء عدد الميداليات الأوليمبية الذهبية؛ الأمر الذي دفع (الجارديان)، كبرى الجرائد الإنجليزية، إلى نشر تقرير بتاريخ 10 أغسطس الحالي تقول فيه بإن فيليبس يحل في المرتبة رقم 39 متساويًا مع إثيوبيا ومتجاوزًا الهند والمكسيك كما يطارد البرازيل، ربما لا داعي لمقارنات مع دول عربية من الأساس.

http://gty.im/454065294

المسيرة الحافلة للسمكة الطائرة، كما يلقب، أهلته لتجاوز السباحين الحاليين والسابقين وكذلك أبرز الأبطال الأوليمبيين، حررته من الزمان ودفعته إلى مواجهة محتدمة مع التاريخ الرياضي ككل، «إضاءات» تسعى بدورها إلى توثيق أبرز محطات فيليبس وعرض الأسباب والدوافع التي مكنته من تحقيق ما يبدو تحطيمه أمرًا مستحيلًا.


خارج عن السيطرة

بماذا يمكنك أن تنصح طفلًا محبطا، أو لم يجد شغفه حتى الآن؟، أعظم شيء تعلمته بعدما كُسِر معصمي هو عدم الاستسلام، الحياة بطبيعتها صعبة والأمر يعتمد فقط على قدرتك على مواجهة العوائق والتغلب عليها، إن فعلت فإنك بذلك شخص أقوى، كلما ارتكبت أخطاء بطريقك وتعلمت منها فإنك بذلك شخص أنجح.

فيليبس الذي أجاب عن ذلك السؤال بمخزون خبرته الثرية وتجربته الملهمة كان طفلا مهووسًا بالحركة لدرجة كانت كافية لدفع المدرسين والجيران والمحيطين بأسرته للتوجه لوالدته بالشكوى من نشاطه الدائم والزائد وقدرته الفائقة على الخروج عن السيطرة.

والدته، التي تشكل محورًا هامًا بحياته، لم تجد ما يمكن امتصاص حماسه بقدر الرياضة. يقول فيليبس إنه في سن صغير كان قد مارس البيسبول، كرة القدم كما رياضة لاكروس بجانب السباحة في آن واحد. يستكمل بأنه فضّل السباحة لعاملين هما الأبرز: الأول هو أنه يشعر بالراحة والأمان الشديدين في المياه، والثاني هو مدربه بومان الذي وثق بإمكانيات الصغير واستطاع سريعًا سبر أغوار شخصية فيليبس وفهم ميوله الجامحة نحو المنافسة ومطاردة الأهداف وشعوره بالملل كثيرًا خارج المياه.

حياة الطفل لم تكن نموذجية على الإطلاق، يعرف المتابعون لمشوار والدته ديبي فيليبس كما أخواته اللائي تبدو عليهن جميعا المعايشة والتأثر الواضح أثناء سباقات مايكل، فقط قليلون من يتعرفون على والده فرِد قليل الظهور، يرجع ذلك بسبب الخلافات بينه وبين ديبي التي انتهت بالطلاق حينما كان يبلغ مايكل 9 سنوات فقط.

حياة فيليبس هي عبارة عن تسلسل دائم لأسباب نجاحه الفذ، طاقة متفجرة بالطفولة تجد ضالتها بالرياضة ثم دوافع أسرية بلورت فكرة ضرورة تحقيق أهدافه، ثم مدرب كـبومان سينجح خلال بضع سنوات في تحويل الطفل المشاغب إلى مدمرة كاسحة تغزو أرقام الأساطير.

http://gty.im/93313019


لا كريسماس ولا أعياد ميلاد

يجلس (بوب بومان) في ستوديو cnn مبتسمًا بهدوء يشاهد لقطات أرشيفية من تدريب مايكل، يبدو فيها الأول كالمايسترو المهندم شديد الصرامة والانضباط، ينظم حركة فيليبس في الماء بالصافرة وينقلب هدوؤه إلي ثورة عارمة حين يخطئ لاعبه.

بومان على وشك أن يخبر الإعلامي أندرسون كوبر ببعض الحقائق التدريبية التي ستنال دهشة الأخير.

–فيليبس تدرب 5 أعوام كاملة بدون انقطاع. –
هل تعني 360 يوم كاملة بالعام الواحد؟!. -نعم، بلا انقطاع. –حتى بالكريسماس؟. -نعم. –ماذا عن عيد ميلاده؟!. -في عيد ميلاده نضاعف التدريبات.

بومان أدرك طبيعة فيليبس فكان أن مرر أهدافه التدريبية نحوها، حتى الأهداف المستعصية كان يؤهله نفسيًا لتجاوزها، كالسباحة مسافة 10 آلاف متر متواصل لمدة وصلت لساعتين ونصف.

موهبة فيليبس وإمكانياته محظوظة بأن يشملها مدرب كـبومان غرس في لاعبه قيم الالتزام في كل شيء من التدريب والسعرات الحرارية بالوجبات وحتى التأقلم مع أي ظرف، كما سيكون بومان موجودًا في أزمة ما بعد بيكين 2008!.

http://gty.im/144370298


فيليبس كعلامة تجارية VS مزيدًا من الدهب

جولة سريعة على السجاد الأحمر بهوليود، لقاء حصري بالبرنامج الشهير (تو نايت شو)، شرف افتتاح البورصة الأمريكية صباح اليوم التالي، الاتفاق المبدئي على أول إعلان لمنتج قبل وعد شبكة CNN بلقاء، ثم صداع عقود الرعاية المعروضة على وكيله، هكذا استقبلت أمريكا أعظم بطل أوليمبي عقب دورة بكين، لكن فيليبس صاحب 23 عاما حينها يمكن بسهولة أن ينجرف إلى مسار خاطئ، وهو ما تم!.

للمرة الأولى التي يشعر فيها مايكل بأنه لا يتوجب عليه الذهاب لحمام السباحة بشكل دوري ودائم، العروض تزداد بمرور الوقت ولديه من المال ما يكفي، عاش فترة بحياة الصخب والاحتفال ثم التفكير الجاد بالاعتزال وأخيرًا التردد حول مصيره، وأخيرًا إيقاف مدة 3 شهور من اتحاد السباحة بسبب التدخين.

بومان كان يدرك أن لاعبه لن يقاوم هجرة السباحة، فأقنعه بعد مدة بقدرته على العودة من جديد في لندن 2012 والرد على المشككين بأن ظاهرة فيليبس تنطفأت للأبد.

ركز مايكل خلال تلك الفترة على التدريبات البدنية القاسية وعلى السباقات التي يمكن له أن ينال بها المراكز الأولى بعد 16 ميدالية من أولمبياد 2004 و2008.

«فيليبس أعظم أوليمبي في التاريخ، مايكل يخرس المشككين»، كان ذلك عنوان الديلي ميل نهاية يوليو 2012 حين أثبت الأمريكي قدرته على مواصلة المسيرة والفوز بـ 4 ميداليات ذهب جديدة بجانب ميداليتين فضيتين.

http://gty.im/149769435

الهزة النفسية التي تعرض لها قبل البطولة عن احتمالية عرقلة مجده بينما لم يتجاوز ال23 من عمره مع الحقيقة التي توصل لها أن الحياة بعيدًا عن صرامة التدريب ومشقة السباحة أسوء من آلاف الساعات من التدريب المصحوبة بشغف منصات التتويج.


معضلة المقارنات

أحيانًا عندما يخبرني بومان بشكل التدريبات أظن أني لن أستطيع أن أقوم بذلك، لكنه يقنعني بأني سأتجاوز التدريب بنجاح، هذه الثقة التي أكتسبها رغم بشاعة التدريب.

لا يقع الحكم المطلق على تجربة فيليبس بكونها الأفضل في التاريخ الأوليمبي تحت مبالغة، السباح ذو ال31 عاما نجح في كسر أرقام لعبته، احتكار صدارة الأفراد الحاصلين على ميداليات، كما الانتصار على التاريخ حين نجح في تحقيق 13 انتصارا بدورة واحدة متخطيًا بذلك العداء اليوناني ليونايدز الذي كان قد حقق 12 انتصارا نحو عام 152 قبل الميلاد!.

لكن السؤال المتكرر على صفحات الجرائد وبالمنتديات الرياضية عن مدى استحقاق فيليبس ليكون الرياضي الأفضل في التاريخ، لا يجد له إجابة نهائية إلى الآن.

صحيح أن لكل رياضة ظروفها الخاصة وبناء على ذلك معايير للنجاح والإخفاق كما بلورة نجومها وأساطيرها، لكن المقارنات في النهاية ستتم بأي شكل.

قدرة الرياضي على الاحتفاظ بدوافع الاستمرار أطول فترة ممكنة هي ما تتيح له التواجد بميدان مجاله والمحاولة الدؤوبة على تحقيق أرقام جديدة، تلك القدرة هي أحد أهم المحددات والمعايير في المقارنة بين الرياضيين.

ميسي مثلًا لا يزال يصارع لأجل تحقيق لقب لبلده، يوسين بولت كفيليبس قد يكون أفضل عدّاء بالعالم لكن دوافعه المتعلقة بالإضافة لبلد تعيش على الهامش كجمايكا لم تحصل على ميداليات كالولايات المتحدة لا تزال باقية.

فيليبس اكتفى من الميداليات، حفظ خطوات التتويج، رأى الفخر في عيون أمه وزوجته وأخواته عشرات المرات، يستقبله الجمهور وتطارده وسائل الإعلام طوال 12 عامًا، إجابة سؤال ماذا سيفعل فيليبس عقب الاعتزال والتي لا يمتلك أحد إجابتها سواه هي ما ستضع حدًا للمقارنات أو ربما تزيدها تعقيدًا.

قراره حتى الآن بعدم العودة في أولمبياد 2020، ربما يتجه نحو التدريب ويحلم بخروج مايكل فيليبس آخر من مؤسسته؟، هل هناك احتمالية للاستثمار في تطوير لعبة السباحة في دول فقيرة؟.

كل الاحتمالات مفتوحة، أضعفها هي العودة لممارسة اللعبة، لكنها لا تزال موجودة.

الأمريكي شخص ولع بالتحديات وبالمنافسة على الأهداف، يوما ما أخبره السبّاح الأسترالي أيان ثورب بأن رقم مارك سبيتز يستحيل تحطيمه، فما كان من فيليبس سوى أن كتب التحدي في ورقة وقام بتعليقها على خزانته لحين بكين 2008، ماذا سيكتب مايكل كهدفه في قادم السنوات؟.