ربما لم تسمع من قبل بما يعرف باليقظة الذهنية اصطلاحًا، ولكنك في الأغلب قد تعرف ما يعنيه ذلك المصطلح إذا فهمت فحواه، اليقظة الذهنية (Mindfulness) هي وسيلة من وسائل العلاجات النفسية انتشرت في العالم الغربي مؤخرًا، وبدأت في التسرُّب إلى عالمنا العربي أيضًا ولو بدرجة أقل، وتتمحور حول الضبط النفسي للإنسان في مواجهة ضغوطات الحياة الحديثة من خلال أنشطة تأملية وفكرية تهتم برؤية البشر لذواتهم كأساس لها.

أخذت اليقظة الذهنية مساحة هائلة من المجال العام خلال السنوات الأخيرة بالنظر إلى أمواج المديح الجارف الذي حظيت به من قبل شخصيات ذات ثقل أمثال الإعلامية الأميركية الشهيرة «أوبيرا وينفري» والممثلة الأميركية «جولدي هاون»، فضلًا عن الدور الكبير الذي بات يلعبه ممثلو اليقظة الذهنية، فقد أصبح من الطبيعي أن ترى مدربي اليقظة الذهنية في منتدى الاقتصاد العالمي بدافوس بجوار الرؤساء التنفيذين لكبرى الشركات العالمية.

بالطبع لم تمر تلك الحركة مرور الكرام على النقاد الغربيين، فقد تطرق أستاذ الإدارة بجامعة سان فرانسيسكو «رونالد بيرسر» إلى هذه الظاهرة الجديدة نسبيًا من خلال كتابه الذي نُشر عام 2019 تحت عنوان «كيف أصبحت اليقظة الذهنية الروحانية الجديدة للرأسمالية؟»، والذي حلل فيه العلاقة التي تجمع نمط الحياة الرأسمالية الحديث بحركة اليقظة الذهنية، وكيف يمكن أن تخلق الرأسمالية دينًا جديدًا يناسب آلياتها وتطلعاتها.. وهو ما سنتحدث عنه بشيء من التفصيل في السطور التالية.

الثورة ضد الذات

لا يمكن بالطبع إنكار أن الهدف المعلن من ممارسة اليقظة الذهنية هو تخفيف معاناة البشر في ظل عالم جديد تحكمه الشكوك والتقلبات التي لا تتوقف، ولكن ما يجب التساؤل حوله هو مدى فاعلية تلك الحلول، وهل هي حقًا تقود المجتمع إلى الطريق الذي يجب عليه أن يسلكه؟

تنطلق حركة اليقظة الذهنية من أساس واحد يتفرع عنه كافة التعاليم التي تقدمها للمجتمع، ألا وهو أن المشكلة تكمن داخل رؤوسنا، في رسالة مفادها «أنت المسؤول الأول والأخير عن معاناتك»، لتبدأ من خلال ذلك المعطى في تقديم الحلول المرتبطة بتدريب الناس على التفكير الإيجابي والتخلص من مسببات الإزعاج والقلق عن طريق ممارسات أشبه بالطقوس الدينية البوذية.

فبدلًا من توجيه المجتمع باتجاه أصل المشكلة الحقيقي، وهو النظام النيوليرالي الحديث الذي بات يتحكم في كافة جوانب الحياة، وتمارس من خلاله كافة أشكال التلاعب والتخريب، أصبح على الإنسان الآن التقوقع حول ذاته، والعمل على الاندماج مع آليات الرأسمالية الحديثة كفرد منضبط ومطيع.

هكذا أصبحت الثورة الحقيقة التي ينبغي على البشر القيام بها هي الثورة ضد الذات وليس ضد النظام، بعد أن فصل الدين الجديد للرأسمالية بين معاناة الإنسان والسياقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لحياته، حيث لم يتبقَ له إلا أن يعالج أزماته على نحو فردي، تلك الفردانية التي تعد ركنًا أيديولوجيًا أساسيًا للمخيال السياسي الخاص باليبرالية الجديدة، والتي أسهمت حركة اليقظة الذهنية على تعزيزها وتثبيت أقدامها داخل عقول أفراد المجتمع بخبث شديد، ليس كعنصرٍ أيديولجي، بل كدواء للداء الذي يعانون منه.

ماكدونالدز للجميع

مَن منّا لا يعرف مطعم المأكولات السريعة الأميركي الشهير «ماكدونالدز»؟!

في الأغلب لا توجد دولة في العالم لا يوجد بها فروع لإمبراطورية البرجر العملاقة، والتي تسوق لنفسها بأن ما يميزها الخلطة السرية اللذيذة التي تستطيع أن تجدها في أي مكان وبأسرع طريقة ممكنة، وللجميع، شطيرة بمذاق جيد تأكلها في دقائق وتتخلص من الجوع نهائيًا.

تمامًا كاليقظة الذهنية، والتي تشغل نفس المساحة التي تشغلها المأكولات السريعة على غرار ماكدونالدز، بفارق واحد، أن شطائر البرجر تستقر في معدتك، بينما تعاليم اليقظة الذهنية والانضباط النفسي يكون مستقرها هو ذهنك.

تقدم اليقظة الذهنية مجموعة من التعاليم البسيطة والسهلة التي تصلح لأي مكان ولأي فرد. هل تشعر بالقلق الذي يدفعك للجنون أحيانًا لأنك تخشى فقدان وظيفتك في أي وقت؟ أو لأن أطفالك لا يمتلكون تأمينًا صحيًا؟ أو لأن مدخراتك التي بالكاد تؤمن مستقبلك قد تقلصت قيمتها نتيجة للتضخم؟ حسنًا لا عليك، هذه المشاعر طبيعية وصحية، كل ما في الأمر أنه يتوجب عليك التركيز على أهدافك وعملك ووضعك الراهن، وعدم التفكير في المستقبل.

يا لها من خلطة ذهنية سحرية يمكنها أن تكون طعامًا للجميع، فبدلًا من الحديث عن السياسات المالية التي تتحكم بمجتمعك وحقوق العمال التي تتجاهلها المؤسسات الكبيرة لمضاعفة أرباحها، والدخول في تلك التفاصيل الدقيقة التي تتطلب قدرًا من المجهود والتفكير، أصبح الأمر يتعلق فقط بما يدور داخل عقلك أنت، فببساطة أنت السبب في القلق والتوتر الذي تعاني منه لأنك تنظر إلى المشهد من الاتجاه الخطأ، والخلاصة أن جودة الحياة ليست إلا مسألة مهارات فردية عليك أن تنميها لتنعم بالسعادة.

وكما الحال في مطاعم ماكدونالدز، حيث البرجر والبطاطس المقلية والمشروبات الغازية هي نفسها في جميع الفروع وبجميع البلدان، كذلك اليقظة الذهنية من خلال نزع الإنسان من محيطه السياسي ومحدداته الاجتماعية أصبحت تقدم نفسها منتجًا يمكن بيعه للجميع دون التقيُّد بالواقع المتغير الذي يعيشه المرء، والذي يتحكم في حياته وأزماته بالضرورة.

الترس الأمثل

تقدُّر حجم صناعة اليقظة الذهنية اليوم بأكثر من 4 مليارات دولار، فهناك أكثر من 60 ألف كتاب على متجر «أمازون» تتضمّن عناوين مرتبطة باليقظة الذهنية، على غرار: الأكل اليقظ والأبوة اليقظة والتدريس اليقظ والعلاج اليقظ وغيرها على نفس المنوال، فضلًا عن الورش والدورات والمحاضرات والمساقات التعليمية، والمؤتمرات الضخمة التي تنظمها شركات «وول ستريت» و«سيلكون فالي» وحتى المؤسسات الحكومية لموظفيها من أجل تعلم تقنيات اليقظة الذهنية.

هذا الاندفاع الكبير نحو التوسع في تمرير حركة اليقظة الذهنية للعاملين بالمؤسسات والشركات الرأسمالية الكبيرة يؤكد أن هذا التوجه يعمل على النحو الأمثل مع آليات النظام الرأـسمالي، ولا يمثل أي خطر على الوضع الراهن، بل بالعكس، ما يفعله هو أنه يسهم في تقليل السخط والحقد تجاه السياسيات الظالمة للنظام النيوليبرالي، ويرفع من كفاءة الأفراد في التكيف مع السباق المحموم الذي يخسر فيه الجميع وينتصر النظام والقائمون عليه وحدهم.

وبلا شك، تدرك المؤسسات الرأسمالية العملاقة أن المجتمع يعاني من السياسات الظالمة والمجحفة للنظام الاقتصادي العالمي المعاصر، تلك المعاناة التي ربما لن تبقى في طور السكون طويلًا، فإما ستتطور لانفجار مزلزل، أو يتم احتواؤها داخل نسق اقتصاد السوق نفسه، لذلك كانت حركة اليقظة الذهنية بقدرتها التسويقية الواسعة والعابرة للحدود والثقافات والمتماشية مع العولمة الترس الأمثل الذي كانت تحتاج إليه الآلة الرأسمالية خصوصًا في السنوات الأخيرة.

تجلي العقيدة

يُعرّف عالم الاجتماع الماركسي «بيير بورديو» النيوليرالية بأنها برنامج يهدف إلى تدمير أي بنية جماعية قد يكون من شأنها أن تعارض منطق السوق، وربما يكون هذا التعريف هو أدق وأعمق التعريفات الممكنة للنظام النيوليرالي، حيث تحاول النيوليبرالية دومًا تصدير فكرة أن اقتصاد السوق يقدم فرصًا متساوية للجميع بشرط واحد هو الإيمان بقدراتنا الفردية وقيمتنا النابعة من ذواتنا.

وبالطبع يقوم منطق السوق على مبدأ المنافسة الذي يتدرّج نزولًا من التنافس الرأسمالي الضخم بين الشركات العملاقة إلى التنافس بين أفراد المنظومة على فرص العمل وما تقدمه من ميزات خاصة بالترقي الطبقي والرفاهية الفردية وخلافه، ذلك التنافس الذي يخلق بالطبع الضيق والقلق الذي يعاني منه إنسان العصر الحديث.

ولإبقاء الحل داخل منطق السوق أيضًا، ظهرت اليقظة الذهنية كأداة فاعلة للنيوليرالية تتجلى من خلالها العقيدة الأهم وهي الالتفاف حول الفردانية وتحطيم كافة الأشكال الممكنة للوعي الجماعي الذي من شأنه أن يعطل دوران الآلة الرأسمالية، حيث أصبح المجتمع الذي يعاني من التوتر والقلق والاكتئاب لا يحتاج إلى تغيير، بل يحتاج إلى علاج نفسي.

وختامًا، ليس المقصود طبعًا هو الهجوم على العلاجات النفسية، ولكن فقط الإشارة إلى أن ذلك الاتجاه المتنامي مؤخرًا يمكن أن يأخذ مسارات أخرى تستغل معاناة البشر لتسوق لهم الوهم، وتسهم في تثبيت دعائم الأنظمة القائمة التي تتحمل مسؤولية اضطرابات المجتمع الحديث، بدلًا من محاولة تغييرها أو حتى إصلاحها.