على مدار تاريخ «محمد خان» الكبير، كان مخلصًا للقاهرة بكادراته التي تجدها حية على الشاشة، بشخوص أبطاله المقهورين أحيانًا، والمُنعمين نادرًا، فكيف إذن قرّر أن يخرج خان بأبطاله من القاهرة؟

مرّات قليلة تلك التي خرج خان بأبطاله من القاهرة، فكيف كانت؟

في فيلميه «خرج ولم يعد» و«مشوار عمر»، خرج بطلاه عطية وعمر من القاهرة، لكلٍ منه دوافعه التي أجبرته على ذلك، فالخروج من القاهرة لدى خان يكون إجباريًا.

عطية وعمر وجهان لا يلتقيان

بدايةً لا شيء يجمع بين عطية وعمر سوى العيش في القاهرة. فعطية موظف حكومي يسكن في بيت متهالك، في حي شوارعه مُقفرة وعشوائية، يستيقظ على صوت ماكينة بناء ضخمة مفزوعًا، قبل صوت المنبه، ينتظر ليروق الماء العكر ليغسل وجهه ويذهب إلى العمل، والذي يستقبله بأتربة السلم المتناثرة في الهواء جرَّاء الكنس الصباحي.

بينما عمر يستقبل صباحه على قبلة من فتاة جميلة في سيارته الفارهة على صوت راديو مونت كارلو، يُحرِّك مفتاح سيارته المُعلّق في ميدالية من الذهب منقوشة باسم عمر، ويسير في شوارع القاهرة -الأخرى- الجميلة في صباح ناعم، يُوصِّل الفتاة الجميلة لبيتها ثم يذهب لبيت والده الفاخر لينام. بينما عطية يبدأ يومه قلقًا من طلب مديره له.

بقراءة سريعة قد ترى أن خروج عطية من القاهرة هو فوز له، ولكن ماذا لو أخبرتك أن عطية لم يكن يرغب؟

سفر «الخروج من القاهرة»

للقاهرة سحر، إنها كالمرض الحميد، منْ يعيش فيها يتشبّث بها، تربطه بها، وهي [أي القاهرة] لا تقبل بأي أحد يعيش فيها مُهمّشًا كان أو منعمًا، فلا رمادية في القاهرة سوى لعوادم السيارات. فلا بد أن يكون لك هدف كي تستمر في القاهرة، حتى لو كان هدفك «البقاء في حد ذاته».

ولنقتبس شخصية أخرى من شخصيات خان، وهو عبد الله (نجاح الموجي في الحريف). كان سعيدًا يأكل مع أولاده، ويذهب وراء صديقه «فارس» لرد دين كان عليه، ثم نجده بعدها يتشاجر مع زوجته، ثم يقتل، ثم يلقي بنفسه من فوق السطح. إنه عجز عن تحقيق الهدف، فعاقبته القاهرة، أجهزت عليه.

كان لدى عطية أهداف وأسباب للبقاء، كذلك كان عمر؛ فعطية يريد أن يكون مديرًا عامًا كما وعد والده بذلك، لديه خطيبة منذ ٧ سنوات، يريد أن يتزوجها، بينما عمر يبقى لأنه مُرفه يرى نعيم القاهرة، صخبها ولذّاتها، شهواتها ونزواتها، يمكث في كنف أبيه الثري تاجر المجوهرات.

لذلك كان الخروج من القاهرة صعبًا، لكنه حتمي؛ فعطية يريد أن يبيع قطعة أرض اشتراها والده آملًا في العيش فيها عند خروجه على المعاش والقدر لم يمهله، وعمر الذي استقبل يومه (يوم الخروج) بإلحاحات من والدته أن يقف بجوار والده في العمل ولا يتركه، وحينما ذهب لوالده أعطاه علبة مجوهرات ثمينة وطلب منه أن يذهب بها لتاجر في طنطا، فأذعن بالموافقة.

في اللحظتين على اختلافهما، اضطر عطية أن يأخذ إجازة من العمل والبعد عن خطيبته، واضطر عمر للذهاب إلى مشوار والده وعدم قضاء الليلة مع صديقه العائد لتوه من لندن وأصدقائه الآخرين واحتساء زجاجة الخمر الفاخرة التي أتى بها الصديق من الخارج.

في الطريق إلى الخروج، ربما كانت في نفسيهما رغبة في كسر الرتابة رغم كل شيء.

خروج… فعقاب… فمقاومة

يخرج عمر وعطية من القاهرة، ولنتخيل أنهما خرجا في نفس اللحظة، متخذين طريقيهما بعيدًا عنها. ويبدأ عقاب القاهرة على الخروج:

ففي الطريق الزراعي، وبينما عطية بجسده الممتلئ محشور جانب السائق في عربة ال «بيجو ٧ راكب» ولا يعرف أين سينزل تحديدًا، كان عمر يقود سيارته بجنون دون وقود كافٍ، ليتعطل وينام ليلته وسط الأراضي الزراعية.

وتتواصل عقابات الخروج، بطلا قصتنا كانا يريدان إنهاء رحلتيهما سريعًا والعودة للقاهرة، لكنها لا تعترف بذلك: إنك خرجت، فعليك غضبي. فالقاهرة تُعذِّب من يخرج منها، وكأنها هي الحياة.

فعندما استيقظ عمر وذهب للبحث عن بنزينة ليُغذي سيارته، أتاه عامل البنزينة بسولار فلم تعمل، وتعطّل عمر، وعندما عاد للبنزينة أشار عليه صاحبها بالركوب في عربة نقل مع سائقها ليحضر البنزين من منيا القمح، فذهب عمر معه.

أمّا عطية، فبات ليلته في بيت قروي صغير، قام من نومه مفزوعًا خائفًا من فأر، المشتري المقترح ماطل معه في الحسم، فاضطر عطية للبقاء في القرية عدة أيام. وعمر بعد أن أتاه السائق بالبنزين، طمع فيه وسرقه وكاد أن يقتله، لولا أن أنقذه عامل البنزينة.

وبعد أن اضطر عطية للبقاء في القرية، وتناول الأكل الفلاحي الثقيل أُصيب بتلبك معوي، وذهب للمستشفى، أثناء ذلك كان بيته المتهالك في القاهرة قد وقع، وظنّت خطيبته وأهلها أنه مات.

في كل لحظة رغم العذابات المتلاحقة، كانت القاهرة حاضرة في ذهني بطلينا، لم ينسياها؛ فعمر عندما أنقذه عامل البنزينة عرض عليه أن يعود معه إلى القاهرة والعمل لديه، وعطية حاول الاتصال بخطيبته في عملها، وردت عليه صديقتها وأغلقت الهاتف لأنهم كانوا يعتقدون أنه مات.

لكن ثمة لحظة واحدة فقط، ربما تُنسى خلالها القاهرة، كما فعل عطية وعمر، إنها تلك اللحظة التي تظن فيها أنك ستحقق إنجازًا ما، أنك ستكون ما ترغب في أن تكونه، أن ثمة ما يربطك بوجودك خارج القاهرة، أنك بطل لأحدهم، بل أنت البطل الأوحد، حينها فقط ستنسى هدف الخروج، والذي كان دافعه الأساسي هو العودة.

فعطية عندما اضطر للبقاء والاختلاط أكثر بعائلة «كمال بك» المشتري المفترض لأرضه، انجذب لابنته الكبيرة، «خوخة»، ووجد كمال بك يطلب منه أن يتولى مسئولية أراضيه الزراعية عندما علم أن عطية على معرفة كبيرة بأمور الزراعة من قراءاته المتعددة فيها، فشعر عطية لأول مرة أنه مرغوب ومحبوب بشكل حقيقي.

أمّا عمر، فبعد ذهابه مع عامل البنزينة لسكنه، عاد العامل ومعه فتاة لعوب تُدعى «نجاح»، كانت جارته وطلب من عمر أن يوصِّلها للزقازيق لتستقل من هناك سيارة تذهب بها إلى بورسعيد، وكانت الفتاة قد ركبت مع عمر عربة النقل الكبيرة من قبل.

أعُجب عمر بالفتاة، أغوته، وبعد أن ذهبا للزقازيق، وكانا يتناولان الطعام في أحد المطاعم، تصادف وجود سائق النقل هناك (والذي كاد أن يقتل عمر)، قامت الفتاة بضرب السائق، ولمّت عليه الناس.

أراد عمر أن يفوز بالفتاة، ولكنه شعر بتعلق العامل به، أعجبته الغواية وأعجبته القيادة، إنها معادلة عمر المفضلة: هو وفتاة والسيارة.

قرّر عمر أن يُوصِل الفتاة لبورسعيد بسيارته بدلًا من الذهاب إلى مشوار أبيه، وذهبا إلى فندق للاستراحة، هناك دخل عمر حجرة الفتاة، وبعدما خرج وقاد عمر السيارة، وأخرج زجاجة الخمر فشربا، وبلغ العبث مداه عندما قادت الفتاة السيارة، قبلها كانت قد رأت الذهب الذي سيُوصِله عمر فأخذته، وخرجت من السيارة ورقصت عليها.

كيف ستنتهي الأمور؟

إن أخذت قرارًا فعليك أن تكون على قدره. عطية بعد أن عرض عليه البك أن يبقى معه تردّد وطلب مهلة للتفكير، أمّا عمر فقادتهم قيادة الفتاة إلى حادث جديد عطّل السيارة، ليفقدا الوعي.

في اللحظة التي تظن أنك لن تتحقق خارج القاهرة، تشتاق إليها، تتذكرها بأي شيء، تقدم لها قرابين الندم والرغبة في الرجوع.

فها هو عطية يُفتضح أمر خطوبته السابقة بعد أن كان قد ترك دبلته ولم يلبسها لفترة، فاكتشفت أم خوخة الدبلة وعلموا أنه مخطوب، فغضبت خوخة وتركت عطية وحيدًا عندما ذهب لها، هنا عاد عطية وتذكّر القاهرة وأنه لن يستمر في القرية بعد أن قرر البقاء، فنادى بصوت عالٍ:

جايلك يا أحمد يا عدوية.

أمّا عمر، فكان سائق العربة يتتبعه، وبعد فقدانهم الوعي سرق السائق السيارة، وذهب بها إلى السويس، وما إن أفاق عمر واكتشف ما حدث، ظل يبكي، وتوسل إلى منْ حوله أن يساعدوه وعرض عليهم الذهب الذي كان سيوصله إن لحقوا بالسائق واسترد سيارته.

بقدر صدقك ستكون نجاتك

كان عطية صادقًا في رغباته جميعها؛ رغبة البقاء في القاهرة، كذلك رغبته في البعد عنها بعد ذلك، كان صادقًا بحلمه في منصب المدير العام وفاءً لرغبة أبيه، كما كان صادقًا في حبه لخوخة، وإعجابه بوالدها.

لذلك عندما ركب السيارة الأجرة ليعود للقاهرة، قطعت عليه خوخة الطريق الزراعي الضيق ممسكة بحبل مربوط فيه عجل من مواشي والدها، فنزل عطية من السيارة، وسار معها عائدين إلى القرية، هي تمسك طرف الحبل، وعطية ممسك بالطرف الآخر.

بينما عمر كان في أشد لحظاته ضعفًا، فبعد أن تتبعوا السيارة، وجدوها مهشّمة فوق صخرة جوار البحر، يحرسها عسكري، وسائق النقل قد مات، ولم يجدوا الذهب داخلها. ورحلت نجاح تاركةً عمر وحيدًا، يجلس داخل سيارته المتهالكة، يتذكر القاهرة في وجه رجل عجوز يعبر إشارة مرور، كان قد رآه عمر قبل الخروج.

إن كنت من ساكني القاهرة، أو مُحبيها، أو مرتبطًا بها: هل كنت لتخرج مثل عطية؟ أم ستذهب إلى مشوار كعمر ولا تعود؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.