«تركيا الحديثة:جمهورية أتاتورك وإينونو»، كان هذا هو الثلث الأول من مشهد تاريخ تركيا الحديثة، منذ قُبيل سقوط الخلافة العثمانية بالاتفاق بين الحلفاء الأوروبيين «انجلترا وفرنسا وإيطاليا واليونان وأميركا» وبين كمال أتاتورك حول شكل الدولة التركية الحديثة، إعلان الجمهورية، وإلغاء كافة الشعائر والمظاهر الإسلامية والعثمانية من الدولة، وبداية رحلة الحزب الديكتاتوري الواحد «حزب الشعب الجمهوري» الذي لم يسمح من خلاله أتاتورك ومن خلفه إينونو، بأن يظهر على الساحة غيره منافسًا، ولو أدّى ذلك إلى ضرب الديمقراطية في مقتل، أما الثلث الثاني من هذه الحقبة فيُستكمل فى الخمسينات والستينات والسبعينات التى نرى فيه أول انقلاب عسكري في تاريخ هذه الدولة.


صعود نجم «عدنان مندريس»

في عام 1949م، جرت انتخابات نيابية شفافة انهزم فيها الحزب الحاكم «حزب الشعب الجمهوري» وفاز فيها الحزب الديمقراطي، وانتهى بذلك حكم الحزب الواحد، وأصبحت الجمهورية نيابية، حيث ضمّ المجلس الوطني التركي عدة أحزاب متنافسة على الحكم، وقد كان الحزب الديمقراطي الذي أسسه محمود جلال بايار أحد رجالات حزب الشعب وأحد المؤمنين المخلصين بأفكار أتاتورك.

أعاد عدنان مندريس تشكيل حكومته، وأعلنت هذه الحكومة انحيازها إلى الغرب، وانضمت إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو» في سنة 1952م.

وعلى الرغم من أن الحزب الديمقراطي كان يتكئ على الأفكار ذاتها التي كان يأخذ منها حزب الشعب، فإن اختيار الناس له كان كراهية لاستبداد وتسلّط حزب الشعب الذي ظلّ يحكمهم لسبع وعشرين سنة متصلة. وحين جرت الانتخابات الرئاسية التركية عقب تلك الانتخابات النيابية فاز محمود جلال بايار برئاسة الجمهورية فكان ثالث رؤساء الجمهورية بعد أتاتورك وإينونو، وعُهد بتشكيل الوزارة إلى عدنان مندريس في 23 مايو/آيار 1950م، وفي العام التالي أعاد عدنان مندريس تشكيل حكومته، وأعلنت هذه الحكومة انحيازها إلى الغرب، وانضمت إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو» في سنة 1952م، وعقدت معاهدة صداقة مع عدوتها اللدودة اليونان، ثم مع يوغسلافيا، وترتب على هذه التحالفات ظهور ما سُمي باسم «حلف البلقان» في مواجهة الاتحاد السوفيتي. في عام 1957م، تمكن عدنان مندريس من تشكيل وزارته الخامسة، لكن الأوضاع الاقتصادية في البلاد كانت تمرّ بحالة من التأزّم الشديد، الأمر الذي استغلته المعارضة لصالحها، فقوي أمر حزب الشعب من جديد، فاضطرت الحكومة إلى إلغاء هذا الحزب وصادرت أملاكه ومؤسساته، واضطرت إلى العمل على كسب ثقة المسلمين الناقمين على السياسة الكمالية العلمانية وحزب الشعب، فأخذ الحزب الديمقراطي بقيادة مندريس إلى التراجع عن عدائه للإسلام، فسمح بقراءة القرآن الكريم بالإذاعة، وكان محرّمًا قبل ذلك، وقام بافتتاح بعض المدارس الشرعية، وأنشأ الكلية الإسلامية في مدينة أنقرة، ولاحت معلومات تفيد بأن ثمة تحرك عسكري يهدف لقلب نظام الحكم، فزجّت هذه الحكومة بأعداد من الناس في السجون ممن تورطوا في هذه التحركات. لكن في 27 مايو/آيار 1960م، انقلب الوضع السياسي التركي رأسًا على عقب حين تدخل قائد الأركان التركي اللواء «جمال كورسيل» في الشأن السياسي.


الانقلاب الأول وترسُّخ التبعية الأمريكية

كانت عودة المظاهر الإسلامية على استحياء وفي إطار الصراع الانتخابي بين الحزب الديمقراطي وحزب الشعب والمتحالفين معه، سببًا قويًا في تحرك الجيش التركي لعزل عدنان مندريس وحكومته، وقد قُبض عليه وعلى اثنين من وزرائه هما وزير الخارجية فاتن رشدي زرلو ووزير المالية حسن بولاد كان، ورئيس الجمهورية محمود جلال، وقد حُكم على الجميع بالإعدام، وخفف الحكم عن رئيس الجمهورية لكبر سنه واستبداله بالسجن المؤبد، وأُسدل الستار على الحكم الديمقراطي لتركيا التي كانت قد بدأت تتنفَّسَ الصُّعَداء جراء جمهورية كمال أتاتورك العلمانية القاهرة!

شكَّل الجنرال المنقلب كورسيل الوزارة بعد أيام لتسيير شئون البلاد، وكانت خطة الضباط من البداية ترتكز على إعادة السلطة إلى المدنيين خلال ثلاثة شهور، لكن هذه المدة زادت إلى سنة ونصف، «والحق أن الغاية من الحركة الانقلابية كانت خطوة لإنقاذ «إصلاحات» أتاتورك، وإعادة الكرامة للدولة من وجهة نظر الانقلابيين» الذين رأوا تعاطف مندريس مع الإسلام. وما يؤكد ذلك تلك الإجراءات والخطابات التي ألقاها كورسيل في تلك الشهور الانتقالية، ففي 5 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1960م، عند زيارته لمعهد الدراسات الإسلامية باسطنبول قال: «إن القرآن يجب أن يُتلى بالتركية، وبأن الأذان يجب أن يكون أيضًا بالتركية». صدق الانقلابيون الأتراك بوعودهم فلم يقفوا بوجه العمل السياسي المدني؛ إذ رخّصوا بإنشاء حزب جديد هو «حزب العدالة» بزعامة العميد المتقاعد راغب جوموسيالا، واختير مجلس ممثلين كهيئة تأسيسية وكلف خمسة أعضاء منه لوضع مسودة للدستور التركي، وانتهوا من العمل منه، وتم الاتفاق عليه في عام 1961م، ونصّ هذا الدستور الانقلابي الذي عُدّ بديلاً لدستور 1923م على أن «تركيا جمهورية وطنية علمانية اشتراكية تقوم على مراعاة حقوق الإنسان وحكم القانون. وتتكون الجمعية الوطنية الكبرى من مجلسين أحدهما للنوّاب والآخر للشيوخ». وبهذه المادّة وغيرها مكّن العسكريون سطوتهم ونفوذهم داخل الحياة السياسية عبر عدد من المواد الدستورية الجديدة المختلفة. جرت الانتخابات النيابية في سنة 1961م، وحصل حزب الشعب الجمهوري على أغلبية المقاعد تلاه حزب العدالة الذي عُدّ وريثًا للحزب الديمقراطي، وشكل عصمت إينونو الرئيس الثاني للجمهورية التركية الوزارة هذه المرة، معترفًا هذه المرة بالقوة الأمريكية في حلف الأطلسي وتابعًا لها، وكان اللواء المنقلب جمال كورسيل قد أصبح رئيسًا للجمهورية وحاميًا لأركان الكمالية. وفي سنة 1965م، فاز حزب العدالة بالانتخابات النيابية وشكل سُليمان ديميريل الحكومة الجديدة في 27 أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، وكان جمال كورسيل قد أُصيب بالمرض، فجرى انتخاب رئيس آخر مكانه هو «جودت صوناي». يقول المؤرخ محمود شاكر الحرَستي: عقب هذا الانقلاب «توطدت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وثبّتت دعائم نفوذها، ولم تعد تخشى على السياسة التركية من الخروج عن دائرة فلكها، ولا العودة إلى النظام الإسلامي الذي هجره أصحاب السلطة فيها».


الظهور الأول لـ«نجم الدين أربكان»

كان غرض الحركة الانقلابية اتخاذ خطوة لإنقاذ «إصلاحات أتاتورك، وإعادة الكرامة للدولة من وجهة نظر الانقلابيين» الذين رأوا تعاطف مندريس مع الإسلام

أقال الجيش «سُليمان ديميريل» حين ضاق به ذرعًا في مارس/آذار سنة 1971م. فقد كان ديميريل يتخطى – من وجهة نظر الجيش حارس العلمانية- الحد المسموح له في بعض الأوقات، وكان الانقلاب الثاني الذي يقوم به الجيش في أقل من عشر سنوات، واتفق الجيش مع الأحزاب المعارضة وهي العدالة والشعب الجمهوري والديمقراطي على تشكيل حكومة إئتلافية برئاسة نهاد إيريم، وتعدّ هذه الإقالة بمثابة الانقلاب العسكري الثاني من الجيش على الديمقراطية التركية.

أقال الجيش سُليمان ديميريل حين ضاق به ذرعًا في مارس/آذار سنة 1971م لأنه كان يتخطى الحد المسموح له سياسيًا في بعض الأوقات.

اتسمت الفترة ما بين عامي 1971م إلى عام 1980م، بحدوث انشقاق في حزب الشعب الجمهوري في بعض الأوقات، والسماح بإنشاء حزب السلامة الوطني الذي يحمل طابعًا إسلاميًا، وهذا الحزب يُعد الأول من نوعه في منذ إنشاء الجمهورية التركية الكمالية، لكن في المقابل رسّخ الجيش أقدامه وسيادته بحماية العلمانية حين انتهت فترة رئاسة «جودت صوناي»؛ إذ تسلّم الرئاسة بعده مرشح العسكريين فخري كورتورك. وقد اتسمت هذه الفترة بانشقاقات حزبية طاحنة أودت باستقرار تركيا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، فانتشرت أعمال العنف والإرهاب بين نشطاء الفكر اليساري ثم امتدت إلى المجموعات اليمينية والقومية، وكان الصراع (العلوي – السني)، و(الكردي – التركي) عوامل محفّزة أيضًا لتفاقم الفوضى إلى الحدّ الذي أصاب الحكومات بالعجز، وسرعة التغيير والتبديل. في انتخابات عام 1973م، فاز حزب السلامة الوطني بزعامة نجم الدين أربكان وحصل على 49 مقعدًا في البرلمان حيث حلّ في المركز الثاني، الأمر الذي تمكن معه أربكان لأول مرة في تاريخ الإسلام السياسي في تركيا أن يتولى منصب نائب رئيس الوزراء، وأن يتولى حزبه سبع حقائب وزارية في ظل زعامة حزب الشعب الجمهوري برئاسة بولاند أجاويد. لقد كان لحزب السلامة الوطني بقيادة أربكان دوره المتنامي في الساحة السياسية التركية في السبعينات خصوصاً فيما يتعلق بمناصرة قضايا القبارصة الأتراك الذين كانوا يتعرضون لمذابح مروعة من القبارصة اليونان منذ الستينات دون أن يُحرّك الشعب الجمهوري أي ساكن، وكان أربكان وحزبه يريان ضرورة ضم الجزء الشمالي من الجزيرة إلى تركيا، لكن هذا الدور المتنامي عجّل بانهيار الحكومة الائتلافية بسبب نقمة أجاويد على منافسه الجديد ونائب رئيس وزرائه. كان دخول حزب السلامة الوطني في تحالف مع حزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل قد ساعد على استقرار الوضع الاقتصادي في البلاد، وفتح المجال أمام الحريات، وعودة بعض الأنشطة الدينية في المساجد والمدارس الشرعية التي وجدت، ولم يتمكن حزب الشعب الجمهوري في هذه الفترة من الاستمرار في الحكم لأكثر من أحد عشر شهرًا، حتى إنه ظل في الحكم لشهر واحد فقط (يونيو – يوليو) (حزيران – تموز) في سنة 1977م! أمام هذا المد من الحريات السياسية والدينية، وهذا النشاط المتنامي لحزب السلامة الوطني ذي التوجّه الإسلامي برئاسة نجم الدين أربكان، فإن مأساة مندريس عادت إلى الظهور مرة أخرى بانقلاب «كنعان إيفيرين»، وهو ما سنبدأ به العرض في المقال الثالث القادم.

كل أجزاء سلسلة «موجز تاريخ تركيا الحديث»هنا