لا يُمكن تعلم الفلسفة، بل التفلسف.
إيمانويل كانط

ينظر البعض إلى الفنان السبعينيّ «محيي إسماعيل» على أنه رجل مغرور، مُدعٍ، يبحث عن إثارة البلبلة واستقطاب انتباه كل من حوله؛ فيقوم ببعض الحركات الغريبة كأن يرتدي العباءة في افتتاح أحد المهرجانات السينمائية (بحكم خالف تُعرف)، أو يتفوه بكلمات غريبة، تنمُّ عن شخصية مغرورة (أليطة)، أو حتى عبارات غير مفهومة؛ كأن يقول إنه كان ينام داخل الدولاب، أو إنه أفضل من «آل باتشينو»، أو مقولته ذائعة الصيت «أجّلْ عمل اليوم إلى الغد».

ولكن ما لا يعرفه هؤلاء، أن كل تلك العشوائيات ليست سوى صورة نابعة عن مخزون ثقافي وافر يحظى به فنان رواقي، اطّلع على الفلسفة، تحديداً ما يخص فن العيش، فتغذت روحه بكل معاني الرضا والسمو، فتعالى عن الحاجة والسؤال، ولم تعد الدنيا أكبر همه، فلا عجب أن نراه يترك فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي ويختلي بنفسه بعيداً عن هؤلاء ليأكل (الزلابية).

الحمد لله أني لا أزال حيّاً

لا تطلب من الله أن يحفظ محفظتك.
لوكيوس سينيكا

في لقاء تلفزيوني، طرحت المذيعة سؤالاً على محيي إسماعيل، وكان حينئذ لا يزال شاباً:

المذيعة: عندك أحلام وطموحات؟

– أكيد طبعاً عندي أحلام وطموحات، مش بني آدم أنا ولا إيه؟!

المذيعة: ويا ترى حققت أي حاجة منها؟

– ولا حاجة… وعنها ما تحققت، الحمد لله إني لسه عايش.

رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على ذلك الحوار، فإن شباب السوشيال ميديا اليوم، أعادوا له الحياة، مُتفحصين إياه، مُبرزين كلمات الفنان، الذي يراه البعض نرجسياً، بعد دوره الصامت في «الرصاصة لا تزال في جيبي».

وهنا يكمن السر؛ فالشباب الذين أعادوا اكتشاف ذلك الرجل، كمثال حيّ لفلسفة العزاء في زمن الصعاب، مُنهزمون في وجدانهم؛ لأنهم فقدوا شغفهم في الحياة ودفنوا أحلامهم وطموحاتهم بأيديهم، مُعلنين الهزيمة، بحجة أنهم مجموعة من الفشلة لا يستحقون الحياة، فأبرزوا الأب الروحي «للروقان وتكبير الدماغ»، محيي إسماعيل؛ الذي يُعلمهم وإيانا أن الحياة لا تحتاج منّا تحقيق الأحلام والطموحات التي ترتكز على السعي وراء المكانة. ويُعلمنا أن النجاح في وصول تلك المكانة ليس شرطاً يُقاس عليه قيمة الإنسان؛ أنت جيّد، لأنك لا تزال حيّاً.

كما يُعلمنا الامتنان، فحين يقول «الحمد لله إني لسه عايش»، هنا يصف لنا أسمى معاني فلسفة «العيش» (تعلم الحياة)، عن طريق أسهل آلياتها؛ الرضا. أن تكون مُمتناً لحياتك، ولنفسك، ولله الذي وهبك تلك الحياة، فكان من المُمكن ألّا توجد، كما قال محمود درويش في قصيدته (لاعب النرد):

كان يُمكن ألّا أكون.

أنا أفضل من آل باتشينو

حين قابل محيي إسماعيل الرئيس الراحل محمد أنور السادات، ظن الرئيس المصري أن الممثل الشاب يُعاني بالفعل من صرع، نتيجة لإتقانه دور المريض في فيلم «الإخوة الأعداء»؛ فيستطيع أن يرتمي على الأرض، ويصرخ ويئن مُتألماً، وتزيغ عيناه، ويرتعش بدنه؛ كأن الروح تحاول الفرار من سجنها.

ألهذا الحد أتقن محيي إسماعيل الدور؟

الجواب: نعم، بل وأكثر من ذلك. إلى اليوم حين يخطر في بالنا صورة للجندي الصهيوني، لا تراودنا سوى صورة ذلك الضابط الصامت متجهم الوجه في فيلم «الرصاصة لا تزال في جيبي»، فمحيي إسماعيل استطاع أن يُقنعك بتلك الصورة النمطية من دون كلام أو ثرثرة. فقط هي النظرات.

حين سألته المخرجة «إيناس الدغيدي» في برنامجها «شيخ الحارة»، بحكم إتقانه لكل أدوار «السايكو – دراما»، عمّا إذا كان يرى نفسه أفضل من آل باتشينو، فكان الجواب صاعقاً: نعم، أنا أحسن منه.

كيف جرؤ على ذلك، أو لم يعرف أن العرب –مع الأسف– يغلُب عليهم النموذج الانهزامي. فيرون أنفسهم أحط وأقل من غيرهم. لكنه لم يعتدّ بذلك، ورأى أن الفارق بينه وبين الإيطالي آل باتشينو الفرصة والمكان؛ فمحيي إسماعيل يُقدم أفلاماً في مصر، حيث لا يوجد دعم للفن ولا يتوفر المكان الصحي الذي يُهيئ الممثلين نفسياً للإبداع، على عكس أمريكا، رغم ذلك يُقدم لنا أدواراً بأداء لا يقل عن ممثلي الغرب. وقد يتعداهم، في حال توفرت له تلك الشروط سالفة الذكر.

قد يظن البعض أن ذلك الأمر غرور واضح، لكن الأحق أن نسميه اعتداداً بالنفس، حيث يقول محيي إسماعيل:

إحنا ليه بنقلل من قيمة نفسنا. ليه منكونش زيهم وأحسن. هو بيشتغل (يقصد أل باتشينو) في جو صحي… أنا لا، هو بيأخد ملايين… أنا لا، يبقى أنا الأحسن.

يتفق ذلك مع قول أحد الفلاسفة الرواقيين:

أنت تكون كيفما ترى نفسك.

الروقان وراحة البال

كحال غيره من الشباب الذين يعانون مما سماه الفيلسوف البريطاني «آلان دو بوتون» بـ«قلق السعي نحو المكانة»، علّق شاب حديث التخرج على جملة محيي إسماعيل (إن شا الله عنها ما اتحققت… الحمد لله إني لسة عايش)، قائلاً: «شكراً أستاذ محيي».

ذلك الشكر والعرفان عند الشباب تجاه ذلك الفنان «الرايق»، ليس سوى تعبير واضح عن القلق المُزمن الذي يجتاحنا في ذلك العصر؛ عصر خيبات الأمل، عصر ما بعد الحداثة، أو ما بعد المابعديات كلها، عصر السوشيال ميديا، عصر تسوده الشهرة والمال، وانقلاب المعايير؛ فأنّىَ تحققت الشهرة تحقق النجاح في مِخيال المجتمع المَضيْم! فأين الفرد من كل هذا؟ هكذا يسأل المرء نفسه؟

يقول محمود درويش:

إن كان لا بُدَّ من حُلُم، فليكُنْ
مثلنا… وبسيطاً
كأنْ: نَتَعَشَّى معاً بعد يَوْمَيْنِ
نحن الثلاثة،
مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين.

فالحياة لا تنتظر تحقيق أحلام فُلان ولا عِلان، ولا بلوغ منصبِ كذا أو كذا؛ فهي أمور لا تخص ولا تعني الحياة بقدر ما تعني أوهامك وأفكارك تجاه نفسك، ولكن ما يحكم الحياة أن تتعلم كيف تعيشها، ففلاسفة العيش، كحال اسبينوزا وفولتير وشوبنهاور ونيتشة قطعوا شوطاً طويلاً للتحرر من أسر الماضي وخوف المُستقبل، والتركيز على الحاضر؛ حيث تكمن اللحظة، بكل ما فيها من انجراف للحياة، فليس طول الحياة ما يهمك (العمر)، وإنما عرضها (أفعالك).

وكما نُصور الحياة بالنهر، فعليك أن تسبحَ فيه، والسبّاح الماهر ليس من يُصعّب الأمور على نفسه، فيغرق حين تخر قواه، وتضمر عضلاته، بل منْ يُدرك كثافة الحياة (النهر)، فيترك نفسه للأمواج مع بعض الضربات المُتناسقة ليتقدم نحو الأمام.

كذلك هو محيي إسماعيل، فليس شرطاً أن تكون الفنان رقم واحد، وليس شرطاً أن تكون مثالياً في حواراتك كالنموذج الفيكتوري لبعض الممثلين المتشدقين بالأخلاق والقيم، بل عليك معايشة الحياة والتأقلم معها، فلا يوجد فرصة أُخرى لتعوّض ما فاتك، أو تسترجع لحظةً ولّت أن تحفظها في الذاكرة.

لذا، وجد الشباب مثالاً مقبولاً، في الفنان العشوائي، المُتفلسف، الذي لا يرى أن عليه إرضاء المُجتمع، فيكون بلغة سارتر «كائناً» -في أعين الناس- منزوعَ الشخصية، مأزوم الهوية، بل عليه إرضاء نفسه، بما في متناول يديه، دون البحث عن آمال كاذبة لا تتحقق أبدًا.

فليس عليه أن يُصارع الواقع، بل يُجاريه، فاليوم يُعيد الشباب نشر وُمشاركة حوارات مُحيي إسماعيل، ليس عن واقع السخرية، بل عن واقع يعكس اللاوعي الشعوري عندهم، واقع الإلهام، فالرجل صار مُلهماً لهم، بأسلوبه العفوي السريالي الساخر. عِش كما أنت، لا كما يريدك الآخرون، أو كما قال سينيكا:

هل ما زلت حيّاً؟ إذن تعلم كيف تعيش.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.