«محيي الدين اللباد» الذي رأى أن الصورة هي اللغة العالمية الموحدة، والتي تستطيع أن توحد العالم تحت سقف لغة مختزلة بلا كلمات. فانطلق يجمع الرسائل البصرية من صور وشعارات من أغلفة عبوات زهرة الغسيل ومانشيتات الصحف وأفيشات إعلانات المنتجات المحلية وكروت البريد وتذاكر وسائل المواصلات، ثم أعاد إرسالها للعالم مرة أخرى في صورة أعمال إبداعية أثرت المكتبة العربية وعيون الأطفال ووجدان العالم.


مجلة أطفال واحدة مدهشة

ولد «محيي الدين اللباد» في 25 مارس عام 1940، وعاش بالقرب من مسجد «السلطان حسن» بحي القلعة، وقد ألقى هذا الزخم الفني والتراثي للمكان بظلاله على تكوينه النفسي وشحذ لديه ملكة الملاحظة أو كما أسماها هو «النظر».

يحدثنا اللباد عن التأثير الفني الأول في حياته في كتابه «كشكول الرسام» فيقول: «عندما كنت في الثامنة كانت تصدر لنا مجلة أطفال واحدة مدهشة، كُنا ليلة صدورها ننام نومًا قلقًا ونتعجل الصباح، كانت أختي تنتظر في الشرفة، وتسألني من أعلى بلهفة عما في العدد الجديد».

في هذه السن الصغيرة بدء محيي الدين اللباد مشروعه الفني الذي بناه على الكثير من الملاحظات والخبرات البصرية المتراكمة، التي استمدها من الصور والرموز والشعارات والشخصيات التي تحيط بعالمه اليومي، مثل ماركات السجائر، شخصية ميشلان التي قال عنها: «ميشلان بالنسبة لي شخصية خيالية ومرحة، كأنه خارج من كتاب للأطفال». حتى عناوين الصحف وطريقة كتابتها أثارته فيقول عنها: «أتذكر أيضًا اهتمامي بطريقة كتابة عناوين الأخبار في الصحف، وما كانت تحمله من رسائل بصرية قوية باللون الأسود، حيث كانت تكتب بخطوط يدوية سخية وبسيطة على ورق الجرائد الخشن».

في 1952 عام صدرت مجلة «السندباد» التي كان يرسمها الفنان «حسين بيكار»، ويقول عنها اللباد «كانت رسوم بيكار الرائعة، الدافع الحاسم في اتخاذ قراري بالاتجاه للرسم، وبالتحديد الرسم المطبوع، إن أعمال بيكار غيرت حياتي تمامًا مثل تجربة الحب الأول العنيف، وهذا ما جعلني اتجه بعد ذلك لدراسة الفنون الجميلة».

وبحلول عام 1954 كان قد بدء رسم الكاريكاتير وراسل نادي الرسامين في مجلة «صباح الخير».


الخروج من عباءة الأساتذة

بعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة عام 1962 عمل في «صباح الخير»، المجلة الأكثر احتفاءً بالرسم الصحفي على صفحاتها، ولكن بحلول هزيمة عام 1967، تغيرت رؤاه الفنية وخصوصًا للكاريكاتير. وعن تأثير موقفه السياسي على رسومه في هذه الفترة يقول اللباد: «كان اهتمامي في البداية هو الخروج من عباءة صلاح جاهين، وسعيت لتكوين ثقافة عامة بالكاريكاتير كفن، وكنت قد عانيت من جمود مناهج الدراسة التقليدية في كلية الفنون الجميلة، لذلك حاولت التغلب على هذه المسألة، وجمع ثقافة عامة عن الكاريكاتير في مصر والعالم مع موقف أكثر يسارية وراديكالية من المواقف التي يتخذها أساتذتي».

في هذه الفترة تداخل توجهه نحو رسوم الطفل مع الكاريكاتير وتصميم الجرافيك والكتابة الصحفية. وعن هذه الفترة الأكثر حرجًا يقول: «هناك العديد من المشروعات التي طالما تشوقت لتنفيذها، ولكنني على وعي تام بعدم قدرتي على اختيار مجال واحد للعمل فيه، فقد اخترت الرسم، وتصميم الجرافيك، والكاريكاتير، والكتابة – من كتابة صحفية إلى تأليف كتب الأطفال – وكنت مدركًا منذ البداية لعجزي عن تغليب مجال منهم على الآخر، حيث كانت تلك هي معركة سن الثلاثين، فلم يكن يشغلني وقتها سوى محاولة اكتشاف الشخصية الثابتة المحورية في أعمالي برغم تنوع مجالاتها، فستجد بعض أفكار الكاريكاتير السياسي مستمدة من قصص الأطفال، وعلى العكس، اعتمدت كثيرًا على أفكار ومداخل جرافيكية لرسم الكاريكاتير السياسي».

عمل بعد ذلك في مجلة «سمير» بدار الهلال وقدم رسوما مبهرة للأطفال بقيت في ذاكرة من عاصروها من الأطفال وعنها يكتب د. أحمد خالد توفيق فيقول: «عرف من كانوا أطفال جيلي اسم اللباد مقترنًا بالإبداعات التي نسيها الزمن في مجلة «سمير»، طريقته المميزة شديدة البساطة في الرسم، والتي تحمل طابعًا محليًا قويًا لكنه كذلك يذكرك بالرسامين الغربيين. شخصياته اللينة الشبيهة بأعواد المكرونة المسلوقة وحلوله البصرية البارعة التي تبسط أعقد الأشياء».

محيي الدين اللباد – من كتاب “مائة رسمة وأكثر”

ظل الاهتمام بالطفولة همه الأول، فقد سائه غياب البطل العربي من رسوم الأطفال واحتلال النماذج الغربية مثل سوبرمان وغيرها مخيلة أطفال العرب. كما نقد هذه الظاهرة في مقالاته واقترح لها حلولًا فنية مستلهمة من تراثنا، فاستبدل بات مان وسوبر مان والخوارق المزيفين بأبطال السير الشعبية مثل أبي زيد الهلالي والملك الظاهر.


صانع الكتب الفقير الحقير المعترف بالعجز والتقصير

محي الدين اللباد
محي الدين اللباد

اعتز اللباد دائمًا بوصفه «صانع الكتب»، وعلى مدى ما يقرب من العشرين عامًا أثرى المكتبة العربية بنوع نادر من الأعمال التي كانت تفتقر لها. بدأها عام 1985 بسلسلة كتب «نظر» المكونة من أربعة ألبومات، والتي يبدؤها ببيت شعر كتبه بشارة الخوري «إن عشقنا فعذرنا | أن في وجهنا نظر»، وتعد مرجعًا لمتذوقي الفن التشكيلي والرسوم الكاريكاتيرية وفنون الجرافيك في مصر والعالم، والتي قال عنها د. أحمد خالد توفيق: «نظر مرجع يعلمك كيف تستعمل عينيك، وترى القبح الذي صار قضية مسلمًا بها وتقاومه،هو رحلة ممتعة في الشعارات البصرية للشركات والأختام الحكومية بالغة القبح ورموز المرشحين، وإعادة استكشاف للفنانين الكبار».

محي الدين اللباد
محيي الدين اللباد – من كتاب “كشكول الرسام”

مرورًا بعد ذلك بكتبه «تي شيرت»، و«لغة بدون كلمات»، و«حكاية الكتاب من لفافة البردي إلى قرص الليزر»، و«مائة رسم وأكتر» وهو كتاب جمع فيه عام 2006 مجموعة رسومه الكاريكاتيرية التي رسمها للمجلة الفرنسية «Lomde Diplomatique» في طبعتها العربية.

حتى كتابه «كشكول الرسام» الذي صدرت منه طبعات باللغات الفرنسية والألمانية والهولندية، وقد حاز على جائزة التفاحة الذهبية في «بينالى براتسلافا الدولي» لرسوم كتب الأطفال، وجائزة «الأوكتوجون» من المركز الدولي لدراسات أدب الطفولة في فرنسا، والذي أمهره بتوقيع مرسوم ومكتوب، جاء فيه «الذي رسمه الفقير الحقير المعترف بالعجز والتقصير محيي الدين اللباد من تلاميذ الأستاذ خليل مراد معلم الرسم بمدرسة القبة الثانوية سابقًا».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. أسرة الفنان محي الدين اللباد من خلال محاورة مع المحررة
  2. وداعًا أيها الشيخشاب مقال – د. أحمد خالد توفيق – الدستور – سبتمبر2010
  3. محيي الدين اللباد : الكاريكاتير فن يسارى يعيش بالوهم حوار للفنان بمجلة نصف الدنيا ملحق النصف الآخر عدد – 33- نوفمبر 2003
  4. «الشيخشاب» حوار مع محيي الدين اللباد
  5. فيديو للفنان في مرسمه من برنامج «ألوان» انتاج التلفزيون المصرى