الفن في أبسط تعريفاته هو: «الخلق الواعي لشيء جميل أو مفيد باستخدام المهارة والخيال».

إذن، الفن هو خلق ذاتي يستجد نتاجه عن طريق حالة شعورية وفكرية ما للفنان، قد يساهم في تكوين تلك الحالة بعض من الأحداث اليومية المؤثرة في حياة هذا الفنان، سواء على الصعيد الشخصي أو العام، لذلك يقولون أيضاً إن الفن مرآة الشعوب والمجتمعات، لكن ماذا إن تحولت هذه المرآة إلى مرآة مسحورة كتلك التي تملكها زوجة والد سنو وايت الشهيرة؟

تأخذنا هذه المرآة وتنقل لنا المستقبل وتحكي لنا عمَّا سيتم، لكننا بحمق وتعالٍ نعتقد أن هذا درب من دروب خيال المؤلف. تمر السنوات ويتحقق ما أوشت به مرآة الفن، لكن بغياب الحكمة عندنا يكون الأوان قد فات.

اسمحوا لي أعزائي القرَّاء أن أصحبكم في رحلة نطوف خلالها بين فيلمين، صُنعا في عقدين متعاقبين من الزمان، ومن خلال تلك الرحلة ستعرف وحدك أين الخيال وأين الحقيقة، وستعرف أيضاً أن هناك كتابات لم تُكتب عبثاً أو بهدف الترفيه فقط، لكن لتدق ناقوس الخطر وتحذرنا من الهاوية التي تقف على حافتها البشرية في كل مكان، وتقول لنا احذروا أنتم على وشك الانزلاق.

المحطة الأولى

تحوي الفقرات التالية على حرق لأحداث الفيلم الأمريكي Life، من إنتاج عام 2017. لذا وجب التنويه.

سنعود للخلف عدة أعوام، تحديداً في عام 2017، في هذا العام بدأ عرض الفيلم الأمريكي Life في دور السينما، وهو من ﺇﺧراﺝ «دانيال إسبينوزا» وﺗﺄﻟيف «ريت ريز». يبدو الفيلم للوهلة الأولى أنه فيلم تقليدي، حصل على تقييم 6.6 على موقع IMDb، أي صاحب تقييم متوسط. ويُصنف ضمن فئة «الخيال العلمي والرعب».

تبدأ القصة بتناول الأبحاث المضنية التي استغرقت حوالي ثلاثين عاماً، وأكثر من 200 مليار دولار أمريكي صرفت على وكالة فضائية متعددة الجنسيات، لإثبات أن هناك حياة أخرى على كوكب غير الأرض، وينجح فريق الأبحاث في أخذ عينة من كوكب المريخ وتحليلها ليجدوا في التربة بعض الخلايا الخاملة.

ينجح فريق البحث في تحويل خلية خاملة لكائن حي بعد أن وفِّر له على متن السفينة الفضائية المناخ المناسب وبعض المعززات والمحفزات للنمو الغير الطبيعي، فكانت النتيجة مذهلة حين تحرك الكائن وأصبح مخلوقاً ينمو يوماً بعد الآخر، وأطلقوا على هذا المخلوق اسم «كالفين».

وهو المخلوق الذي يُذكرنا بأزمتنا الكبرى التي نعيشها حالياً، فيروس «كوفيد 19»، هذا الوحش الذي يعد أكبر تهديد للجنس البشري على الكرة الأرضية، كلاهما أصله من الطبيعة كائن ضعيف صغير لا يُرى بالعين المجردة، لكن أيادي البشر هي المسئولة عن تطويره وتحويله لوحش كاسر يهاجم الإنسان بشراسة، ولا يهدأ إلا حينما يُقضي عليه.

نعود للفيلم مرة أخرى، بدأ «كالفين» في النمو، لكن فريق البحث اكتشف أنهم سيكونون هم الطعام الذي سيتغذى عليه وليدهم، وبالفعل أبدى ذكاءً خارقاً يتفوق على ذكاء البشر والذكاء الاصطناعي معاً، خرج من معمل الأبحاث الذي صُمم داخله بعد أن حطمه بالكامل، وبدأ في مطاردتهم ومحاصرتهم واحداً تلو الآخر، وحينما يُوقع بفريسته يمتص منها الحياة ثم يتركها وقد تضاعف حجمه وتعاظمت قوته.

هذا بالضبط ما يحدث حولنا الآن، بالحديث عن الموجة الثانية للفيروس، والتي ستكون أشد فتكاً من الموجة الأولى، والسبب في ذلك أن الفيروس أصبح أكثر شراسة بعد أن استمد قوته الإضافية من مهاجمة البشر ونجح في القضاء على بعضهم.

في نهاية الفيلم تحدث المفاجأة؛ حيث خرج عن المألوف وحطم نظرية البطل الأمريكي الخارق الذي يستطيع دائماً وأبداً إنقاذ البشرية، بل ينتصر المخلوق «كالفين» ويصل للأرض بعد تدمير الوكالة والمركبة الفضائية وبعد القضاء على طاقمها، ليستعد للقضاء على البشر أجمعين بعد أن انهزم العلم والذكاء والتطور والتقدم أمامه، وفشلت جميع القوى العظمى في القضاء على هذا المخلوق.

تبدو هذه من النهايات الصادمة غير المرغوب فيها، فلم تنل رضا الجمهور وقت عرض الفيلم، لكن ما رأي الجماهير الآن وهي تعيش نفس حالة الرعب والعجز أمام مخلوق آخر استطاع تهديد البشر أجمعين، ولم ينجح العلم ولا الذكاء ولا التقدم ولا حتى المال في القضاء عليه؟

نعرف جميعاً أن الفن ليس الحقيقة، إنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة.
الرسَّام الإسباني «بابلو بيكاسو».

المحطة الثانية

تحوي الفقرات التالية على حرق لأحداث الفيلم الأمريكي The Manchurian Candidate، من إنتاج عام 2004. لذا وجب التنويه.

نترك الفضاء لنعود إلى الأرض التي تمتلئ عن آخرها بأشخاص لا يعبئون إلا بمصالحهم فقط، ومستعدون لفعل أي شيء أخلاقي أو غير أخلاقي لتحقيق هذه المصالح ولإرساء سيادتهم وبسط سلطتهم عل الكرة الأرضية بكاملها، هذا ليس رأيي الشخصي بينما هو رأي صُنَّاع فيلم The Manchurian Candidate، من إنتاج عام 2004.

في الأصل The Manchurian Candidate هي رواية سياسية من تأليف «ريتشارد كوندون»، صدرت عام 1959، وتم تحويلها إلى فيلمين أمريكيين يحملان نفس الاسم، النسخة الأولى أُنتجت عام 1962 للمخرج «جون فرانكنهايمر» وسيناريو وحوار «جورج اكسيلورد»، بينما النسخة الثانية أُنتجت عام 2004 للمخرج «جوناثان ديمي» وسيناريو «جورج اكسيلورد» كاتب السيناريو الأول، وبطولة «دينزل واشنطن»، و«ميريل ستريب»، و«ليف شريبير».

قرر المخرج جوناثان ديمي استدعاء القصة وتقديمها للجمهور مرة أخرى لشعوره بأن المجتمع الأمريكي والعالم أجمع لم يعِ الدرس الذي قدم له في ستينيات القرن الماضي، لكنه قدم تصوراً عصرياً للقصة فجعلها تدور حول حرب الخليج بدلاً من الحرب بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وبذلك تبنى وجهة النظر التي تقول إن المؤامرات الهدامة تُحاك في الداخل وليس من جانب العدو الخارجي.

تدور أحداث الفيلم حول كتيبة أمريكية في الكويت بقيادة القائد «بينيت ماركو» (دينزل واشنطن)، يتم نصب كمين لها فيلقى جنديين حتفهما، ويُصاب الجميع ما عدا الرقيب «رايموند شو» (ليف شريبير) الذي ينجح في صد الهجوم وحده ويدافع عن باقي زملائه المصابين، وعندما يعودون يتسلَّم رايموند شو ميدالية الشرف، وهي أعلى وسام يتلقاه أي جندي. تلك القصة يعرفها كل من كان بالكتيبة، ولكن تبدأ المشكلات حين يتم ترشيح رايموند شو لمنصب نائب رئيس الولايات المتحدة وتتولى الحملة الانتخابية والدته السيناتور «إيلينور برينتس شو» (ميريل ستريب).

يتزامن هذا الترشيح مع دخول القائد ماركو في كوابيس بشعة، يرى فيها يوم الكمين بصورة غير التي يتذكرها، وشيئاً فشيئاً تتضح الكوابيس ويستطيع تمييز رايموند شو وهو يقتل بيده جندياً من جنود الكتيبة.

تحيل الكوابيس هذه حياة ماركو إلى جحيم ويصبح على شفا جرف الجنون، فيبدأ بالبحث عن جنوده ليكتشف أن منهم من يعاني من الكوابيس ذاتها، وفي يوم يرى في المرآة جرحاً صغيراً في كتفه من الخلف، يفتح هذا الجرح ويجد شريحة معدنية صغيرة مزروعة داخله.

بعد نزع الشريحة يهدأ ماركو ويتذكر حقيقة ما حدث تلك الليلة، وهي أن الكتيبة تم خطفها وزرع تلك الشرائح داخلهم لعمل ما يشبه غسل مخ عن طريق التحكم في ذاكرتهم لجعلهم أدوات في أيدي جهة ما وتحت سيطرتهم في أي وقت، ولهذا قتل رايموند شو الجندي بأمر من الطبيب المتحكم بهم، لكن لم يكن رايموند وحده القاتل، بل إن ماركو هو من قتل الجندي الآخر بيده وليس العدو، واكتشف زيف البطولة التي تم الترويج لها وبعدها شكَّك في جميع الانتصارات المزمعة.

استطاع ماركو أن يصل لمخترع هذه الشريحة، دكتور نويل، ورآه وهو يشرح فوائدها للمتلقي حيث قال:

إنها طفرة نحو المستقبل، وبالإضافة إلى فوائدها الطبية والعلمية، إلا أنهم يستطيعون عبرها التحكم في الذاكرة، وذلك لتحرير الناس من أعبائهم الفظيعة.

هل تشعر عزيزي القارئ أنك سمعت هذا الحديث قريباً؟

بالطبع سمعناه جميعاً خلال المؤتمر الذي عقده رجل الأعمال «إيلون ماسك»، مؤسس شركة نيورالينك، في 28 أغسطس/آب 2020. هزَّ هذا المؤتمر أرجاء المعمورة، حيث تم فيه الكشف عن أضخم اختراع سيقفز بالبشرية نحو المستقبل بنحو مذهل، أزال النقاب عن شريحة تُزرع داخل الإنسان متصلة بالحواسيب والهواتف الذكية عبر أذهانهم، وبذلك يُرسي مبدأ يستطيع من خلاله أن يتفوق الإنسان على الذكاء الاصطناعي وليس العكس، حيث قال إيلون ماسك:

إن هذه الشريحة الإلكترونية تعد تطوراً جامحاً، حيث إنها تعمل على علاج أمراض النخاع الشوكي والأعصاب وغيرهم، وأيضاً يستطيع منْ يضع هذه الشريحة التحكم في الذكريات.

الهبوط ونهاية الرحلة

هل يعقل هذا التشابه الحاد الذي يقارب حد التطابق؟

المقصد من هذا المقال ليس توزيع اتهامات جزافية لا تستند إلا على التشابهات بين نصوص الأفلام وبعض الحقائق، والتي قد تكون من قبيل المصادفة أو حدس قوي لدى المؤلف، بينما المقصد هنا التأمل والتعلم، حيث إنه لا شرر بلا نار كما يُقال، دائماً هناك مقدمات لكن لا يراها ولا يستشعرها إلا بعض ممن يملك الخيال الخصب الذي يستطيع من حدث صغير أن يرسم تطوراته كما ستحدث فيما بعد.

أصبح الفن هو آلة الزمن التي لطالما حلم بها الإنسان، فيستطيع التجول من خلال الأعمال الفنية بين الماضي والحاضر، ويتمكن من رؤية المستقبل وهو جالس على مقعده، أصبحنا جميعاً نملك المرآة المسحورة، لكن ليس كل عين ترى.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.