مما لا شك فيه أن مختلف المذاهب الإسلامية العقائدية – الكلامية، قد تطورت نتيجة عدد من عمليات التشابك والتلاقح المستمرين بين الأفكار والمعتقدات المجردة من جهة، والظروف والسياقات السياسية والمادية والاجتماعية من جهة أخرى.

الباحث في تاريخ المذاهب الإسلامية يمكنه رصد بعض المحطات المهمة على طريق هذا التطور، والتي يظهر فيها التأثير الكبير الذي أحدثه اختلاف الآراء حول بعض المسائل الدقيقة في تغيير الصورة النهائية المعتمدة لكل مذهب.

من تلك المسائل الدقيقة، الاختلاف في النظرة إلى العقل، ورتبته ومكانته، وعلاقته بالشريعة والنص، وهو الاختلاف الذي سيصبح أحد اللبنات المهمة في البناء الفكري لكل من الأشاعرة، والمعتزلة، والشيعة الإمامية.

معنى العقل بين اللغة والاصطلاح

أوردت المعاجم اللغوية الكثير من التعريفات لكلمة العقل، فعلى سبيل المثال، عرَّفه ابن منظور المتوفى 711هـ في كتابه «لسان العرب» بأنه «التَّثَبُّت في الأُمور»، وكان مما ذكره في شرح معناه «والعَقْلُ: القَلْبُ، والقَلْبُ العَقْلُ، وسُمِّي العَقْلُ عَقْلًا لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه، وقيل: العَقْلُ هو التمييز الذي به يتميز الإِنسان من سائر الحيوان …».

أما في معجم المصطلحات الفقهية، فقد ورد أن العقل هو الإدراك والوعي، كما نُصَّ على أن العقل المشترط في العقود هو عدم الجنون.

إذا ابتعدنا عن المعاجم اللغوية، وبحثنا عن المعنى الاصطلاحي للعقل في كتابات الأصوليين والكلاميين، فسنلمس الاختلاف الكبير الدائر بينهم حول فهم هذا المصطلح.

فعلى سبيل المثال، يقول أبو بكر الباقلاني، المتوفى 402هـ، في كتابه «التقريب والإرشاد»: «اختلف الناس فيه – أي العقل – فقال قائلون: هو قوة يُفصل بها بين حقائق المعلومات. وقال آخرون: مادة وطبيعة. وقال قوم: جوهر بسيط. وقال الجمهور من المتكلمين: هو العلوم الضرورية. والذي نختار أنه: بعض العلوم الضرورية …».

أما إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، المتوفى 478هـ، فقد عرَّف العقل في كتابه «البرهان في أصول الفقه»، فقال إن العقل هو «صفة إذا ثبتت تأتَّى بها التوصل إلى العلوم النظرية ومقدماتها من الضروريات التي هي مستند النظريات». في السياق نفسه، عمل أبو حامد الغزالي، المتوفى 505هـ، في كتابه «المستصفى في علم الأصول» على التوفيق بين رأيي الباقلاني والجويني، فقال:

«اسم العقل مشترك يطلق على عدة معانٍ، إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية، ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم النظرية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى إن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقلًا …».

هذا في الوقت الذي ذهب فيه فخر الدين الرازي، المتوفى 606هـ، لوضع تعريف مختصر للعقل، فوصفه بأنه «العلم بوجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات»، وذلك بحسب ما ورد في كتابه «محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين».

المعتزلة: تقديم العقل على الشرع

ظهر المعتزلة على الساحة الفكرية الإسلامية في أواخر القرن الأول الهجري، وكانت بداية أمرهم على يد كلٍّ من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وقد عرفوا بمنهجهم المؤيد لحجية العقل ودوره المهم في التمييز والإدراك.

المعتزلة الذين اعتمدوا خمسة أصول لمذهبهم، أعلوا من شأن أصل العدل الإلهي، والذي يعني أن الله عز وجل عادل، لا يقبل الظلم، ولا يعامل العباد إلا بالعدل، فيمنحهم القدرة على خلق أفعالهم بأنفسهم، ليكون من العدل أن يحاسبهم عليها بما يستحقون فيما بعد.

بناءً على تلك القاعدة فإن المعتزلة ذهبوا لما يُعرف بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين، والتي تعني أن الأشياء تكون في ذاتها قبيحة أو حسنة، وأن العقل قادر على أن يميز القبح أو الحسن فيها بدون الرجوع للشرع، وعلى ذلك فإن الثواب والعقاب الإلهيان مرتبطان – في المقام الأول – بالعقل، فبه يعرف الناس الحق من الباطل، وبه يميزون ما فيه صلاحهم، وما يؤدي لفسادهم.

هذا الاعتقاد همَّش من مركزية الشرع/ النص عند المعتزلة، لدرجة أن الكثير من علمائهم قد قالوا بأن الأمم التي عاشت ولم يرسل لها الأنبياء والرسل – والتي تُعرف عادةً باسم أهل الفترة – فإنها سوف تعاقب وتحاسب؛ لأن الحجة قد قامت عليها لكونهم قد مُنِحوا العقل، الذي هو آلة الإدراك والوعي، وفي ذلك المعنى يقول جار الله الزمخشري، المتوفى 538هـ، في كتابه الكشاف: «… الحجة لازمة لهم – أي أهل الفترة – قبل بعثة الرسل؛ لأن معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه …».

ولما كانت نظرية المعتزلة في اعتبار حجية العقل وتقديمه على الشرع/ النص قد اصطدمت بظاهر بعض الآيات القرآنية، ومنها على سبيل المثال، الآية الخامسة عشرة من سورة الإسراء، والتي جاء فيها: «… وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا»، فإنهم قد عملوا على تأويل معاني تلك الآيات، فذهب بعضهم إلى أن الرسول المُشار إليه في الآية السابقة هو العقل، في حين أكد الزمخشري أن بعثة الرسل هي عامل مساعد ليس أكثر، فهي «من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة، لئلا يقولوا: كنا غافلين، فلولا بعث إلينا رسولًا ينبهنا على النظر في أدلة العقل».

المعتزلة فسَّروا النبوة وإرسال الرسل من خلال قاعدة اللطف الإلهي وقاعدة الصلاح والأصلح، إذ ذهبوا إلى أنه لما كان من الواجب على الله عز وجل أن يفعل الأصلح لعباده، فإنه لما عرف أن الأمور الشرعية – التي لا تعرف بالعقل – فيها صلاح العباد، فإنه قد أرسل الرسل لكي يُعرِّف الناس بتلك الأمور.

وفي ذلك يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي، المتوفى 415هـ، في كتابه شرح الأصول الخمسة: «ووجه اتصال بعثة الرسل بباب العدل هو أن الكلام في أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا يتعلق بهذه الشرعيات، فلا بد أن يعرِّفناها، لكي لا يكون مخلًّا بما هو واجب عليه، ومن العدل أن لا يخلَّ بما هو واجب عليه»، ومن هنا فقد قال المعتزلة إن النبوة واجبة، وكانوا يقصدون بالوجوب الملازمة وضرورة الوقوع.

الأشاعرة: تقديم الشرع على العقل

في نهايات القرن الثالث الهجري ظهر خط عقائدي-كلامي جديد على الساحة الإسلامية، وذلك عندما أعلن أبو الحسن الأشعري، المتوفى 324هـ، عن تحوله إلى المذهب الحق، وتوبته عن جميع المعتقدات المعتزلية التي كان يقول بها فيما سبق.

الأفكار التي قال بها الأشعري، والتي ستُعرف لاحقًا باسم الأشعرية، سرعان ما ستتمكن من الانتشار والذيوع عبر القرون، بعدما وجدت مجموعة من العلماء الأفذاذ الذين عملوا على تأصيلها وإثباتها وحمل راية الدفاع عنها، وكان من أهم هؤلاء كلٌّ من أبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، وفخر الدين الرازي.

الأشاعرة رفضوا قاعدة العدل الإلهي التي قال بها المعتزلة، فقالوا إن العدل ليس له وجود مستقل بذاته، وإنه إنما ينحصر في كل ما فعله الله أو أمر به، ومن ثم فقد رفضوا قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وقالوا إن المقياس الوحيد الذي يُمكِّننا من إدراك الحُسن والقبح هو الشرع لا العقل.

تأسيسًا على ما سبق، فقد رفض الأشاعرة اعتقاد المعتزلة بأن أهل الفترة سيخضعون للحساب، وأنهم سيتعرضون للثواب والعقاب، إذ قالوا بأن التكليف واجب بالشرع لا بالعقل، واحتجوا بظاهر الآية القرآنية «… وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا».

وفي ذلك يقول الإمام النووي، المتوفى 676هـ، في شرحه لصحيح مسلم: «اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب، ولا إيجاب ولا تحريم، ولا غيرهما من أنواع التكليف، ولا تثبت هذه كلها ولا غيرها إلا بالشرع». وفي السياق نفسه، أكد شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، المتوفى 728هـ، أن الاعتقاد بأن العقوبة لا تستحق إلا بالشرع، كان الاعتقاد الشائع في أوساط علماء أهل السنة عمومًا – ومنهم الأشاعرة – عندما ذكر في مجموع الفتاوى «أن جمهور أهل السنة قالوا: الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول …».

ويشرح الدكتور محمد مصطفى الزحيلي اعتقاد الأشاعرة في تلك المسألة في كتابه «الوجيز في أصول الفقه الإسلامي» بقوله:

«… لا يأثم الإنسان إلا إذا بلغته دعوة نبي، فالواجب ما أوجبه اللَّه تعالى ومنح الثواب عليه، والحرام ما حرمه اللَّه تعالى، وتوعد بالعقاب على فاعله، وأما قبل البعثة فلا يحرم كفر ولا يجب إيمان …».

ورغم الأهمية الكبرى التي تشغلها منزلة النبوة في النسق الأشعري، إلا أن المتكلمين الأشاعرة قد اتفقوا على عدم وجوب إرسال الرسل والأنبياء، لأنه لا يليق أن نقول بأنه يجب على الله عز وجل شيء، فإرسال الرسل يكون من باب المِنّة والفضل ليس أكثر.

فعلى سبيل المثال، يقول الشهرستاني، المتوفى 548هـ، في كتابه «الملل والنحل»: «وانبعاث الرسل من القضايا الجائزة لا الواجبة ولا المستحيلة»، في حين يذكر الآمدي، المتوفى 631هـ، في كتابه «غاية المرام»: «مذهب أهل الحق – يقصد الأشاعرة – أن النبوات ليست واجبة أن تكون، ولا ممتنعة أن تكون، بل الكون وأن لا يكون بالنسبة إلى ذاتها وإلى مرجعها سيان، وهما بالنظر إليه سيان».

الشيعة الإمامية: تطوير قاعدة اللطف الإلهي

يُعرف الشيعة بأنهم ذلك الحزب الذي أيد حق علي بن أبي طالب وأبنائه في الخلافة، وعلى الرغم من أنهم قد ظهروا على الساحتين السياسية والمجتمعية منذ فترة مبكرة، فإن ظهورهم على الساحة العقائدية-الكلامية كمذهب متمايز عن بقية المذاهب قد تأخر لفترة.

يمكن القول إن الشيعة الإمامية – إجمالًا – قالوا بنفس العقائد العامة التي قال بها المعتزلة، ولا سيما أصل العدل الإلهي، الذي أخذ به الإمامية، حتى عُرفوا مع المعتزلة باسم العدلية، تمييزًا لهم عن الخط السني العام الذي لم يعطِ الأهمية نفسها لمفهوم العدل الإلهي.

الافتراق بين الشيعة الإمامية والمعتزلة وقع في بدايات القرن الرابع الهجري، عندما عمل الإمامية على استحداث مجموعة من القواعد والأصول الكلامية التي تبرر دعواهم السياسية في تعاقب اثني عشر رجلًا نُصَّ عليهم على مقام الإمامة.

الشيعة الإمامية الذين أخذوا بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين من المعتزلة، أعلوا من قيمة العقل بوصفه قادرًا على التمييز والإدراك، ولكنهم طوروا قاعدة اللطف الإلهي التي عرفها الأصوليون بأنها «ما يقرب المكلَف معه من الطاعة، ويبعده عن المعصية، ولا حظ له في التمكين، ولم يبلغ الإلجاء»، ومدوا الخط على استقامته، فقالوا بوجوب الإمامة، وأن الله عز وجل قد نص على اختيار مجموعة من الرجال ليتعاقبوا على منصب الإمامة، وفي ذلك يقول السيد علي الميلاني في كتابه «الإمامة في أهم الكتب الكلامية»:  «إن الإمامة  نيابة عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وخلافة عنه في كل ما لأجله بعث، فهي من توابع النبوة وفروعها، فكل دليل قام على وجوب بعث النبي وإرسال الرسول فهو دال على وجوب نصب الإمام النائب عنه والقائم مقامه في وظائفه …».

ومُتابعةً لذلك الطرح ذهبت الأغلبية الغالبة من علماء الشيعة الإمامية إلى عصمة الأئمة الاثني عشر، وفي ذلك يقول محمد رضا المظفر في كتابه «عقائد الإمامية»: «ونعتقد أن الإمام كالنبي، يجب أن يكون معصومًا من جميع الرذائل ما ظهر منها وما بطن، كما يجب أن يكون معصومًا من السهو الخطأ والنسيان؛ لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه، حالهم في ذلك حال النبي».

نتائج صراعات العقل

مما سبق نلاحظ أن اختلاف وجهات النظر حول دور العقل، ومرتبته، وعلاقته بالشرع، كانت من أهم أسباب ظهور التعددية المذهبية-الفكرية في الإسلام، كما أن ذلك الاختلاف قد نجم عنه العديد من النتائج الخطيرة التي أثرت كثيرًا في الصورة النهائية المعتمدة لكل مذهب.

من تلك النتائج أن قبول المعتزلة لقاعدة التحسين والتقبيح العقليين، ودفاعهم المستميت عنها، قد اضطرهم – بالتبعية – للتشدد في مسألة الحكم بالإيمان والكفر، فقربهم كثيرًا من فكر الخوارج المتساهل في الحكم بالتكفير، الأمر الذي يتعارض بشكل واضح مع النظرة المعاصرة السائدة في الكثير من الأوساط الحداثية، والتي لا ترى في العقلانية المعتزلية إلا الجانب المضيء الذي يدعو للتسامح والإخاء.

أيضًا كان إصرار الأشاعرة على رفض قاعدة التحسين والتقبيح العقليين قد دفعهم للقول بأن أفعال الله لا تعلل بالأغراض والعلل، الأمر الذي دفعهم – فيما بعد – للقول بالجبر، مما هيَّأ الأجواء المناسبة لاستبداد الحكَّام والسلاطين بالسلطة المطلقة في البلاد الإسلامية، وهمَّش من دور العامة والرعية.

أخيرًا، كان تطوير الشيعة الإمامية لقاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وما انبثق عنها من نظرية اللطف الإلهي، ومحاولتهم العمل على الاستفادة منها في تجربتهم السياسية، قد تسبب في ظهور بعض الأفكار الجديدة، والتي تتناقض مع أولوية العقل، ومنها على سبيل المثال الاعتقاد بالنص على الأئمة الاثني عشر، وهو القول الذي أخرج الرعية بالكلية من معادلة السلطة، وكذلك الاعتقاد بعصمة الأئمة، وهو الاعتقاد الذي تسبب في إنتاج تصورات شبه إلهية عن الأئمة.

وعلى هذا نجد أن العقل الذي اتكأ عليه الشيعة في أول أمرهم، قد أوصلهم لمجموعة من النتائج غير العقلية، والتي ظهرت بوضوح في الادعاء بطول عمر المهدي، والذين لا يزالون ينتظرون ظهوره بعد ما يزيد عن الألف عام من غيبته.