وأنا أستطيع وأنا جالس في زنزانتي أن أعرف حالة الدولة في الخارج، الظلم الذي أراه هنا، الاستبداد، السرقة، الرشوة، استغلال النفوذ، المحسوبية، الرغبة في إذلال الناس، تحكم القوي في الضعيف، الطلاء الخارجي الذي يخفي الخراب الداخلي، النهب والتهليب، كل هذا صورة مصغرة لما يحدث خارج السجن.
مصطفى أمين، سنة ثالثة سجن، ص173

تبدو القصص في المحنة متشابهة وإن تبدلت الشخوص والأزمان، في كل محنة تمر على الوطن تنصهر حكايا المظلومين والظالمين والمهمشين والطغاة في بوتقة واحدة، ليولد الوطن من جديد، وليتأهب لمحنة جديدة.

في السجن، يصعب تبين الصدق من الكذب، الكل يحكي حكايته وكأنه المظلوم الوحيد، وسجون الوطن في أوقات محنها ليست أكثر من مرآة لما يحدث خارج القضبان على الحقيقة، لذلك فأدب السجون سجل فريد لما دار وما سيدور، سجل تمتزج فيه حكايا القهر والظلم والفقر والجهل مع أساطير الحرية والكفاح، وتتحطم فيه الفوارق الأيديولوجية والفكرية على صخرة معاناة الحصول على أوّليات الحقوق الإنسانية.

ورسائل مصطفى أمين التي دوّنها وهو أسير في سجون عبد الناصر على إثر خلاف وقع بينهما، هي نوع من هذه الأسفار الخالدة، دوّن فيها أمين ما عاين من ظلم وقهر، وما علم من طغيان إلى جانب قصص إنسانية مؤلمة وملهمة في آن.

استطاع أمين أن يهرّب مئات الرسائل وهو سجين، حتى أفرج عنه بعفو صحي أصدره السادات، تمكّن بعده من جمع رسالاته تلك وتنظيمها وطباعتها في ثلاثة كتب هي «سنة أولى سجن» و«سنة ثانية سجن» و«سنة ثالثة سجن»، ونحن نختار التعرض لآخر هذه الأجزاء «سنة ثالثة سجن» لتميّزه عن سابقيه بأن رسائله دُوّنت بعد نكسة 1967 مباشرة، فما أشبه الليلة بالبارحة، تكاد الوقائع في رسائل أمين تتماثل مع وقائع أيامنا، عندما تكون الجريمة الجنائية كاشفة عما نخر عظم البلاد من فساد أكثر من الجريمة السياسية.

في رسائل أمين تجد الفلاح الجاهل الذي سيعترف على نفسه بجريمة قتل لم يرتكبها طمعًا في أن يحصل أهله على راتب شهري من القاتل، وتجد الطالب الجامعي المعتقل سياسيًا الذي سيستخدم في تنظيف زنازين الليمان، ستجد المحب المغدور وستجد القاتل الشرس، ستجد المثقف والطبيب والضابط، وستجد المرشد الإخواني والمستشار حسن الهضيبي.


الهضيبي والكلاب

غلاف هذا الكتاب رسم رمزي للمستشار الهضيبي – المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الأسبق – وهو جالس بين الكلاب. كان الهضيبي، الشيخ السبعيني، زميلاً لمصطفى أمين في محبسه. وقد اختلس أمين ساعات يتبادل فيها الحديث مع المستشار، حكى فيها الهضيبي كيف تمّ تعذيبه أول الأمر بوضعه مع 15 كلبًا في زنزانة واحدة لأيام.

العجيب في هذه الرسائل التي كتبها أمين هو أن أبشع أشكال التعذيب والتنكيل التي ذكرها قد اقترنت بالإخوان المسلمين. حكى عن اغتصاب زينب الغزالي في السجن الحربي، وكيف أجبروها على المرور فوق جثث شباب الإخوان الملقاة في الممرات وتحت جثثهم المعلقة في أسقف الردهات. كيف مُنع الهضيبي من الدواء والثوب والفرش، وكيف عوقب كل مسجون حاول الحديث معه أو مساعدته. حكى عن أبشع أشكال التعذيب التي لا نتصورها في أصعب كوابيسنا وقد اقترنت جميعًا بالإخوان.

والأهم أنه حكى عن الهضيبي، الشاب المجتهد الذي جاء إلى القاهرة ليدرس في كلية الحقوق ففتن بجارته وأحبها 6 سنوات، وخطبها 6 أخرى قبل أن يتزوجها. حكى عن مرشد جماعة الإخوان الذي قرأ لقاسم أمين وأعجب به وأهدى كتبه إلى زوجته، وفُتن بسعد زغلول وتنبأ بزعامته. حكى عن الشاب الذي انتظم في شيعة محمد فريد وقاوم السلطان والإنجليز، ثم عن الأب والزوج الذي شُرّدت بناته واعتقلت وضربت أمام عينيه.

تدفعك القصص لتسأل: هل كان ذلك إنصافًا من أمين أن يدوّن كل ما عرف عن عذابات مخالفيه، أم أن أسر الأيديولوجيا قد ذاب في بوتقة المحنة والعذاب، أم أن هذه الأيديولوجيات لم تكن قد تحجرت بعد؟ هل جمعتهم محنة الاحتلال، أم أن صلابة الأيديولوجيات الفكرية كانت لم تتبلور بعد ولم تضع الحدود الفاصلة بين التيارات، أم أنها لعبة السياسة وحسب؟


فاروق المسكين

أن يكتب أمين من داخل زنزانات عبد الناصر، لا يعني هذا أن الملك فاروق ستكون صورته جيدة. ربما سيكون اختلاف روايات أمين عن جيل كتّاب الثورة أنه لن يعمد إلى المعتاد منهم فيشوّه فاروق ويشيطنه. سيختار هذه المرة أن يجعله أحمق مندفعًا وراء نزواته وضعفه.

صحيح أن مصطفى أمين يستخدم كل ما عنده من معلومات سواء شهدها بنفسه من موقعه القريب للسلطة لسنوات، أو ما أرسله إليه تلامذته، أو قدرته على تحليل ما يصله من أخبار وما يقرأه في الصحف في إثبات فشل عبد الناصر وطغيانه وانفراده بالسلطة؛ لكن اللوم يلقى أكثر على معاوني عبد الناصر وأذرعه الممتدة في كل مكان.

في كل الأحوال، لم يكفر مصطفى أمين بالثورة كما هو واضح ولم يغضب عليها، بل حاول تكرارًا أن يثبت براءته من تهمة التخابر، ويثبت ولاءه للدولة وإن خالفها.


حب في الزنزانة

مصطفى أمين، رسالة بعنوان قرية ظالمة، ص201

هل خلا القلب من الحب يومًا؟ هل ينضب عنه يوم يُظلم؟

حكايا الحب في الزنزانة لا تميز فقيرًا وغنيًا، قتيلاً ومقتولاً، جاهلاً وعالمًا، الحب يعيش في زنزانات مصطفى أمين كما لو كان أشعة الضوء المتسللة من شقوق جدرانها، لكنها هذه المرة قصص حب ممزوجة بمعاناة التعذيب والقتل والجهل، قصص حب تكشف إلامَ صار حال المجتمع المصري، وكيف نخره سوس الفساد حتى كاد يدمره.

سجناء يملون خطاباتهم الغرامية عليه ليخطها لهم، فهم لا يجيدون الكتابة لكنهم يجيدون الغزل، وجوابات ينتظرونها شوقًا ولهفة لتأتيهم بوعود الوفاء مرة، وأخبار الغدر مرات. قاتل لأجل حبيبته، وقتيل لأجل الحب، قصص متناقضات متضاربات كحال أصحابها.

شلبية الفتاة الريفية التي ستقتل قاتل حبيبها ليلة زفافها عليه، لا لتنتقم منه فحسب، لكن لتنتقم لشرف قريتها كلها، ثم تنتظر صديقه ليتزوجا بعد أكثر من عن 15 عامًا. آخر يدفع عمره لأجل سعادة زوجه، فيأتيه خبر خيانتها وهو حبيس القضبان، فينتقم على هذه الحال انتقامًا لم تكن لتتخيله في أبشع أحلامك. وخطيبة تفقد خطيبها ليلة الزفاف، فتنتظر دون أن تعلم مكانه عقودًا. وطالب يحب على استحياء.

في كل مرة، يلقيك أمين في بئر من الصدمة والفزع وبشاعة التعذيب والقتل والقبح، ثم يرفعك لتحلّق معه في سماء الحب والمودة والوفاء. في كل مرة، يُشهدك على اختفاء معاني الخير والنبل والإحسان، ثم يغمرك بقصص الطاهرين الأنقياء النبلاء. تضطرب مشاعرك مع هذه الصفحات اضطرابًا، وينفعل العقل مع كل ما يقدّم إليه فتصنع منك كل رسالة حالاً لا تشبه سابقتها. ويبقى عشق أمين الأول والأخير حيًا ينبض بين جدران زنزانته، عشقه الصحافة.


بطل من ورق

إننا نستطيع أن نصمد في المحن ، إذا وجدنا قلبًا نستند إليه، ولكن يوم تفقد الحب نتهاوى ويسهل كسرنا.

لا نعرف بالضبط ما مرّت به هذه الرسائل من ضبط وحذف وتنقيح قبل أن تصل إلينا، لكن بقليل نظر، يمكنك أن تدرك أن أمين وهو يكتب هذه الرسائل كان ينتوي نشرها، فهو لا يظهر نفسه أبدًا على الصفحات في صورة المهزوم المخذول، تكثر شعاراته وكلماته الرنانة عن الحرية والأمل والحياة، كأنه يكتب من مكتبه في أخبار اليوم، وليس في زنزانة سحيقة يصفها هو بالقذارة.

لا تشعر في رسائله التي صدّرها بكلمة «عزيزتي» أن هذا خطاب لأنثى محبوبة، ولا لزوجة حتى، فهو هنا لا يضعف، لا يظهر حاجاته الإنسانية، لا يطلب سجائر وطعامًا وملابس، وكأن عزيزته تلك هي الصحافة نفسها، المهنة التي نضح إيمانه بها من بين السطور، أو هي الورقة التي كانت عملة نادرة يصعب الحصول عليها، ومع ذلك كان لا يدخرها بل يملأها أحاديث وتأملات عن حاله وحال كل من حوله. وكأن أمين كان يدير رحى معركة صحفية من مكتبه، يرسل إليه تلامذته الأوفياء كل جديد في البلاد، فيحلل ويكتب ويرسل من جديد.

لا تبدو حالة أمين بالمقارنة بما كان يحكي عنه من معاملة للمسجونين حالة مهينة سيئة، يبدو سجينًا مرفهًا يستطيع أن يحتفظ ببعض الأوراق والأقلام خلسة، وتهرب إليه الكتب والجرائد، صحيح يضيق عليه كل فترة، لكن 15 عشر كلبًا لم يشاركوه زنزانته يومًا، فقط سُلّط عليه مسجون جنائي ليقتله.

رغم أسلوب مصطفى أمين الخطابي في أكثر رسائله، لا تستطيع أن تنكر بديع صنعته ككاتب يلعب بك بكلماته، ينقلك مما هو خاص وإنساني كالحب فجأة إلى ما هو عام قومي كالحرب، ويجعلها ظواهر متقاطعة، يحكي لك قصة عادية جدًا ليحلل بها قصة وطن بأكمله، يبحث عن الأمل في كل كلمة ويعتذر إن كتب رسالة لا تحمل أملاً، يعتذر لأخيه ويخاطبه باستمرار، ويخبرك برسائل مهربة خلسة أن إرثًا إنسانيًا ضخمًا تخفيه القضبان.