رحلت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون وتركت مصر في الفترة من 1798-1801 في فوضى وتناحر على السلطة، وعندما وصلت أنباء الاضطراب في مصر إلى ألمانيا أثارت فضول الرحالة المستكشفين الألمان بالسفر إلى مصر. أراد هؤلاء الباحثون المشاركة في مشروع ما قبل الاستعمار الأوروبي، الذي كان جزءًا منه رسم خرائط لمناطق العالم بنباتاته وحيواناته.

ولأن ألمانيا قد انقسمت إلى إمارات متعددة ولكل إمارة حاكمها؛ لذا فكان الرحالة والمستكشفون الألمان لهم أمراء محليون يرجعون إليهم للحصول على التمويل اللازم لرحلاتهم واستكشافاتهم. كان الأمراء الذين يسمون بأمراء التنوير في هذا الوقت مهتمون بتمويل الرحلات الاستكشافية التي اتخذت من دعم العلم والمعرفة ستاراً لها كنوع من وجاهتهم الشخصية كحكام.

ولقد لعب تراجع سيطرة الدولة العثمانية على كثير من الدول العربية والتفوق العسكري الأوروبي معاً دوراً مهماً في تسهيل تلك الرحلات الاستكشافية الاستعمارية إلى العالم العربي. وكانت رحلة ياسبر أولريخ زيتسن الرحالة الألماني واحدة من تلك الرحلات.

فضول نحو الشرق

وُلد ياسبر أولريخ زيتسن لأسرة غنية في ييفر التي تقع على الساحل الشمالي لألمانيا في سنة 1767. التحق زيتسن بجامعة جوتنجن لدراسة العلوم الطبية سنة 1785. وكانت الدراسة في جامعة جوتنجن فرصة لزيتسن بأن يلتقي بكارشتن نيبور، الذي كان يحاضر في الجامعة كعضو في أكاديمية جوتنجن للعلوم آنذاك. وفي محاضرة له حضرها زيتسن تحدث نيبور عن رحلاته إلى الشرق بعد سنة 1763.

كان نيبور هذا قد قام برحلة استكشافية بأمر من ملك الدنمارك في الفترة بين 1761 و1767 وزار خلال هذه الرحلة كلاًّ من القسطنطينية وشبه الجزيرة العربية والعراق ثم عاد إلى الدنمارك مروراً بتركيا. وعندما عاد نيبور إلى الدنمارك كتب تقريراً عن تلك الرحلة وأصبح هذا التقرير معروفاً بعد ذلك. وربما عندما علم سيتزن عن تلك الرحلة اشتعلت عنده شرارة الفضول الأولى نحو الشرق.

بعد سنة 1800 وصلت ألمانيا معلومات عن رحلتين استكشافيتين ربما لعبتا أيضاً دوراً في إشعال رغبة زيتسن للقيام برحلته الاستكشافية. الرحلة الأولى فهي رحلة زميله الكسندر فون هومبولت التي قضى خلالها عدة أعوام لاستكشاف أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية وآسيا الوسطي، وكانت تلك الرحلة في الفترة من 1799 إلى 1804. أما الثانية هي رحلة مُعاصِره فريدريش كونراد هورمان الذي سافر إلى مصر في سنة 1797 ومنها إلى منطقة مرزوق في أقصى جنوب ليبيا تم تحرك بعد ذلك إلى النيجر، وربما توفي هورمان هناك بعد صراع مع المرض في سنة 1801.

وفي سنة 1789 حصل زيتسن على درجة الدكتوراه في الصيدلة. وبالتعاون مع بعض من زملائه الباحثين الشباب في هذا الوقت- وكان منهم العالم الألماني الشهير الكسندر فون هومبولت- قام بتأسيس جمعية جوتنجن الفيزيائية. وفي سنة 1794. قام زيتسن أيضاً بتأسيس مصنع لتقطيع الأخشاب وأسس تجارة لمواد البناء في مسقط رأسه ييفر. وفي خضم تلك الإنجازات والأحداث كان زيتسن يحلم بالقيام برحلة إلى الشرق وأفريقيا كعادة رحالة زمانه.

وفي سنة 1800 وضع زيتسن خطة متعددة السنوات لرحلة استكشافية إلى الشرق. كانت تلك الرحلة لاستكشاف الأناضول وسوريا ومصر وشبه الجزيرة العربية، وتضمنت الخطة أيضاً، نيته الانطلاق من الجزيرة العربية إلى أفريقيا حيث يتمنّى استكشافها من شرقها إلى غربها.

وكعادة المشتغلين بالعلم في زمانه، كان زيتسن شغوفاً بالفلك. وكان ثمة مرصد فلكي من أكثر المراصد وقتها تجهيزاً بالتقتنيات اللازمة ملحقاً بقصر جوتا. كان فرانز إكسافير فون زاخ مسئولاً عن ذلك المرصد المسمَّى بمرصد زيبرج (German: Seeberg Sternwarte) منذ سنة 1787. خدم فون زاخ كضابط وفلكي عند الدوق إرنست الثاني الذي كان دوقاً لزاكسه جوتا ألتنبرج Saxe-Gotha-Altenburg.

في سنة 1801، أرسل زيتسن إلى فون باخ يخبره عن رحلته المزمعة إلى الشرق وعن رغبته في إجراء دراسات فلكية أثناء تلك الرحلة. تحمّس فون باخ لرحلة زيتسن وتوسَّط له عند الدوق إرنست الثاني كي يدعمه مادياً. وافق الدوق على دعم زيتسن وبناءً على ذلك وفد زيتسن على مدينة جوتا ليتلقى تدريباً على استخدام المعدات الفلكية التي سيتخدمها أثناء رحلته. وبعد ذلك وبالتحديد سنة 1802 انطلق زيتسن في رحلته إلى الشرق.

في القاهرة

في صيف سنة 1802 سافر زيتسن عبر فيينا والمجر منطلقاً نحو الشرق. في طريقه زار القسطنطينية واستقر لبعض الوقت في إزمير. ثم سافر إلى حلب سنة 1804 وهناك تعلَّم اللغة العربية وبين سنة 1805 وسنة 1807 أخذ يتجوّل زيتسن في سوريا وفلسطين فمرّ على القدس والبحر الميت وصولاً إلى شبه جزيرة سيناء ومن سيناء إلى القاهرة. عاش زيتسن في القاهرة في الفترة من 1807 إلى 1809 واستقر هذه الفترة في القاهرة حتى يشتري التحف والمخطوطات التي سيرسلها إلى ألمانيا.

سجَّل سيتزن في مذكراته الشخصية جانباً من فترة بقائه في القاهرة، تمثل تلك المذكرات مصدراً أولياً عن تاريخ تلك الفترة التي شهدت صراعاً بين محمد علي من ناحية والمماليك الجدد وضباط العثمانيين حول من سيحكم بعد هزيمة واندحار جيش الفرنسيين في مصر.

زيتسن شاهداً على مذبحة المماليك

عندما وصل زيتسن القاهرة سنة 1807 كان الإنجليز قد احتلوا الاسكندرية واصطف العثمانيون مع فرنسا ضد بريطانيا. استطاعت القوات المصرية إلحاق الهزيمة بالبريطانيين في الإسكندرية ولعب ذلك دوراً في إعلاء مكانة محمد علي في ذلك الوقت. واستطاعت قوات محمد علي أسر عدد من رجال الإنجليز وسجنهم في القلعة في القاهرة. قابل زيتسن هؤلاء الأسرى في محبسهم وتحدث إليهم كما تحدث عن ذلك في مذكراته. وفي سنة 1807 انجلى البريطانيون عن الإسكندرية وتم الإفراج عن الأسرى الإنجليز.

استطاع زيتسن أيضاً أن يلتقي عدة مرات قائد المماليك شاهين باي، وكان هؤلاء المماليك، كما ذكرنا سابقاً، في صراع على السلطة مع محمد علي. استطاع شاهين باي السيطرة على الفيوم وذلك قبل أن يُسمح لزيتسن بالزيارة. كتب زيتسن في مذكراته، أن حكم محمد علي كان مستقراً، وأنه كان بالفعل قريباً من الانتصار في صراعه مع المماليك.

دخل زيتسن مدينة القاهرة عبر باب الفتوح ووصف القاهرة بأنها مدينة مليئة بالأطلال والآثار المحطّمة، وكان ذلك في أعقاب الغزو الفرنسي لمصر. في القاهرة عاش زيتسن مع كارلو روزيتي (قنصل إمبراطورية هابسبرح في القاهرة) في حي الموسكي. عاش روزيتي في القاهرة عدة عقود كقنصل لمختلف القوى الأوروبية وكتاجر كذلك.

كان روزيتي، الذي بلغ سبعين عاماً عند التقائه بزيتسن، عنصراً مهماً في السياسة المصرية وقتئذٍ.

عمل روزيتي أيضاً مستشاراً لمحمد علي باشا، وكان عوناً له في صراعه مع أتباع العثمانيين منه جهة وصراعه مع قوات المماليك الجدد من جهة أخرى.

كانت قوات المماليك تحاول استغلال الأوضاع غير المستقرة بعد جلاء الفرنسيين للسيطرة على الدولة.

وهنا يرى البروفيسور ألبرشت فوس أن ثمة احتمالاً بأن زيتسن قد سمع روزيتي وأوروبيين آخرين يتحدثون عن خطة محمد علي للتخلص من المماليك الجدد وتحويل مصر إلى دولة أوروبية حديثة وفاعلة.

كتب زيتسن في مذكراته ما نصه:

«يا له من نجم مشئوم يسطع على هذه الأرض المباركة، فإنه لا يمكن أن يكون هناك سلام مستقر حتى يُقضى على المماليك الجدد وتُعين حكومة من الأسرة الحاكمة».

هذا ما قاله زيتسن قبل سنتين من مذبحة محمد علي للقوات المماليك الجدد بعد دعوتهم إلى القلعة. يبدو أن تلك الفكرة كانت مترددة في الأوساط التي يخالطها زيتسن من الدبلوماسيين الأوروبيين، كما يذهب إلى ذلك البروفيسور ألبريشت فوس في محاضرته.

زيتسن والوهابيون

لاحظ زيتسن أيضاً الظهور الوهابي على مصر وسوريا. وصف زيتسن الوهابيين في مذكراته بأنهم قومٌ متزمتون ويتبعون نهجاً مخالفاً للإسلام التقليدي. ومن الانتقادات الموجّهة للوهابيين، التي سمعها زيتسن أنهم يعتبرون النبي محمد رجلاً عادياً وليس بالشخص المُقدّس. يرى زيتسن أن المسلمين السنة يحبون محمداً كما يحب المسيحيون الكاثوليك مريم. يكتب زيتسن في مذكراته أنه في سنة 1807 أرسل قائد الوهابيين إلى محمد علي يطلب منه الخضوع للدعوة الوهابية، لكن باشا مصر لم يرضخ لذلك.

ويرى زيتسن أنه لم يكن هناك تهديداً مباشراً من الوهابين على مصر، لكنه رغم ذلك اعتبر أنه إذا لم تسقط مصر في أيدي الأوروبيين في السنوات المقبلة، فإنها سوف تسقط في يد الوهابيين في وقت ما.

استيلاء أوروبي على مخطوطات القاهرة

كان من أهداف رحلة زيتسن إلى القاهرة شراء الكتب المخطوطة وإرسالها إلى ألمانيا. لاحظ زيتسن أن كثيراً من المخطوطات المتاحة في سوق الكتب هي من تلك الكتب التي كانت محفوظة بالجامع الأزهر. وكان الفرنسيون قبل رحيلهم قد أحدثوا دماراً واستولوا على كثير من الكتب والمخطوطات من الجامع الأزهر.

يعتقد زيتسن في مذكراته أن تلك المخطوطات الأزهرية التي كانت تعرض للبيع قد خرجت من الجامع في أثناء تلك الفوضى التي أحدثها الفرنسيون. ويرى زيتسن أن المصريين استغلوا الفوضى وأخرجوا تلك المخطوطات ليبيعوها، خصوصاً وأنهم قد وجدوا إقبالاً كبيراً من المستشرقين الأوروبيين على شراء كميات كبيرة منها.

وفي رحلته للاستحواذ على المخطوطات القاهرية قابل زيتسن المستشرق والدبلوماسي جان لويس أسيلان دي شيرفي، الذي كان ينافسه في الاستحواذ على أكبر قدر من المخطوطات. وكان أسيلان قد وقع على نسخة من «ألف ليلة وليلة» لم يكتبها فقط مؤلف واحد بل كتب مؤلفها فقط 200 ليلة وملأ باقي الكتاب بقصص معروفة نقلها من كتب أخرى. وذكر زيتسن في هذا السياق أن أسيلان أخبره عن نسخة من كتاب ألف ليلة وليلة كان يعمل عليها المؤرخ الكبير عبدالرحمن الجبرتي.

كما رأى زيتسن نسخة من تاريخ الغزو الفرنسي لمصر بخط الجبرتي في حوزة أسيلان. يعتقد زيتسن أن تلك النسخة التي كتبها الجبرتي ستكون محل جذب كبير لانتباه الأوروبيين إذ إنها مصدر أولي عن الغزو الفرنسي لمصر.

سيتزن يلتقي الجبرتي والميقاتي

التقى سيتزن عدة مرات بالفلكي والمؤرخ المعروف عبدالرحمن الجبرتي وكان الجبرتي يسكن بالقرب من الجامع الأزهر. لم يكن الجبرتي فقط مشتغلاً بالعلم بل كان أيضاً بائعاً للكتب وكانت تلك الكتب التي يبيعها مرتفعة الثمن كما سجَّل ذلك زيتسن في مذكراته. يذكر زيتسن أن الجبرتي قد باع أحد كتب السبكي الجميلة لرجل جاهل- على حد وصف زيتسن- وكان سعر الكتاب ثلاثة آلاف قرش وكان هذا الرجل يُدعى محمد أفندي. ويشعر زيتسن حينها بالخزي لأنها كان يريد هو شراء ذلك الكتاب، كما وصف ذلك في مذكراته.

 التقى زيتسن أيضاً بالفلكي عثمان الميقاتي وجرت بينهما نقاشات وتبادل للمعرفة فقد كان زيتسن أيضاً مولعاً بالفلك. أوضح زيتسن للميقاتي الكثير حول التقنيات الفلكية التي يعرفها. كان الميقاتي متعجباً من إقبال زيتسن على حصد كثير من المخطوطات الشرقية وإرسالها إلى ألمانيا وفي يوم سأله: «ما الذي تنتوي فعله بكل تلك المخطوطات العربية في أوروبا؟».

يقول زيتسن: «طمأنته بأننا نحاول في أوروبا عرض كل تلك الأعمال وترجمة أجزاء منها وطباعتها وإتاحتها للمجتمعات العلمية خصوصاً في تخصصات التاريخ والجغرافيا». وكان ذلك مقنعاً للميقاتي. ولكن الميقاتي كان ما زال يتساءل: «وأي استخدام لتلك المخطوطات الدينية لماذا تحرص على شرائها وتثمينها؟» . أجاب زيتسن بأن الغرض من ذلك هو إتاحتها للباحثين في تعاليم الأديان حتى تتاح لهم فرصة المقارنة بين مختلف الأديان.

وبعد رحلته في القاهرة سافر سنة 1809 زيتسن إلى شبه الجزيرة العربية حيث زار مكة والمدينة ثم انطلق بعد ذلك إلى اليمن. وفي آخر خطاب أرسله إلى ألمانيا تحدث زيتسن عن خطة العودة بعد انتهاء رحلته في اليمن وذلك من خلال ميناء المخاء Mokha وأنه سيكون معه من المقتنيات الثقافية التي استحوذ عليها ما يزن حمل 17 بعيراً. وكان هذا آخر ما يُعرف عن رحلة زيتسن ولا توجد معلومات دقيقة حول مصيره بعد هذا الخطاب. يذكر البروفيسور ألبرشت فوس أنه من المحتمل أن يكون زيتسن قد قُتل في اليمن في سنة 1811.