يقول ما يعتقده حقاً… وينزع إلى التجديد ويدعو إليه ويُحَرِّضُ عليه.. ويحترم الرأي الآخر، ويقدر الخصم ويناقش فكره دون التعرض لشخصه… ينفر من الانتماء الضيق، والآراء المملاة، والقيود المصطنعة، ويطلب لنفسه ولغيره حرية التفكير والتعبير…[1].

هذه بعض من الصفات التي وصف بها الدكتور حسن الشافعي، أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية ورئيس مجمع اللغة العربية السابق، الدكتور محمد سليم العَوَّا الذي حلت ذكرى ميلاده الثمانين منذ أيام، وهي صفات إلى جانب غيرها ترسم لوحة لمسيرة الرجل الفكرية والعملية.

العَوَّا هو مفكر إسلامي وأحد رموز مدرسة «الإسلام الوسطي» أو «المنظور الحضاري»، إلى جانب أسماء تعد اليوم رموزاً للفكر الإسلامي المعاصر كيوسف القرضاوي، طارق البشري، طه جابر العلواني، مالك بن نبي، راشد الغنوشي، فهمي هويدي، عبد الوهاب المسيري، حامد ربيع، محمد عمارة، منى أبو الفضل، سيف الدين عبد الفتاح، نادية مصطفى.

تركز مدرسة الإسلام الحضاري على قضية التدافع الحضاري بين الحضارة العربية/ الإسلامية والحضارة الغربية، وتعتبر أنّ ذلك التدافع في فترات ضعف الأمة الإسلامية يتطلب شكلاً منظماً للدفاع عن قيمها وموروثها الحضاري في مواجهة الوافد الذي من الممكن الاستفادة من منجزاته الحضارية على مستوى الوسائل التقنية والتنظيمية بل والقيم التي لا تتعارض والقيم الإسلامية الكبرى أو مقاصد الشريعة.

من داخل هذا المنظور، قدم العوا إسهامه الفكري الذي «امتاز بنزوعه التحديثي الواضح إلى استيعاب القيم الحديثة في المنظومة الإسلامية»[2]. ويشتمل الإنتاج الفكري للدكتور سليم العَوَّا على 26 كتاباً مؤلفاً، و46 دراسة باللغة العربية، وعشرة باللغة الإنجليزية، بخلاف تعقيباته وتخريجاته على بعض الكتب التي كان آخرها مؤلف الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر الأسبق[3]، إلى جانب شروحه وتعقيباته شديدة الأهمية على كتابي «إحياء علوم الدين» للإمام أبي حامد الغزالي ومقدمة العلامة ابن خلدون لكتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر».

وبالرجوع إلى صفات الرجل التي استخلصها الدكتور حسن الشافعي، فإن كتاباته ومسيرته تؤكدها؛ فالرجل ينزع إلى التجديد في مسائل الفقه السياسي عبر استيعاب قيم الحداثة خصوصاً الديمقراطية في منظومة القيم الإسلامية، ولا يساير هوى العامة أو الجمهور، حتى وإن كان هذا الجمهور نظرياً هو الجمهور الأقرب إليه أو المتوجه إليه بخطابه، كجمهور الحركات الإسلامية، وفي الوقت عينه لا يقيم معهم قطيعة كغيرهم من باقي أبناء المجتمع المصري وتياراته السياسية الذين كانوا من بين الحضور في صالوناته الثقافية التي كان يقيمها في جمعية مصر للثقافة والحوار التي كان يرأسها.

في هذا الصدد لم يساير العوَّا الإسلاميين في فكرة أن «الخلافة» هي النظام السياسي الذي أتى به الإسلام ويتعين على المسلمين العمل لاستعادته، ودعاهم لعدم الخلط بين «قيم الإسلام المستمدة من الوحي» و«التجارب التاريخية للمسلمين»[4]، معتبراً أن الشأن السياسي متروك للاجتهاد، وأن نظام الخلافة في مدلوله السياسي أو الدستوري ليس أكثر من عملية تنظيم رئاسة الدولة التي تشتمل على اختيار الرئيس وتحديد صلاحياته ومسؤولياته[5]. كذلك لم يساير نخب أو قادة تلك الحركات في مسألة وجوب سيطرة رجال الدين على الحكم أو ما نستطيع تسميته «ثيوقراطية الدولة»[6].

وعلى الجانب الآخر، لا يساير العوا الآراء العلمانية عن الدولة الحديثة وغاياتها التي تحددها نخبها السياسية، بل ينطلق من تصور فقهي يرى أن غاية «الحكومة في الدولة الإسلامية» هي إقامة الدين وتحقيق مصالح المحكومين، مسلمين وغير مسلمين؛ معللاً ذلك بقول الإمام العز بن عبد السلام: «ذلك أن الله، سبحانه وتعالى، قد رتب على طاعته واجتناب معصيته مصالح الدارين»[7].

إن تلك الأفكار التي عرضها العَوَّا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، تتمثل أهميتها من السياق الذي طُرحت فيه، فمن خلالها يقيم العَوَّا قطيعة مع الخطاب «القطبي» داخل الحركة الإسلامية القائم على «نظرية الحاكمية الإلهية» التي ترى في الإمام/الخليفة/ رئيس الدولة حاكم ثيوقراطي يستمد سلطته من الله وليس من المحكومين؛ كونه نائب الله على الأرض[8]. وفي نفس الوقت يقيم نفس القطيعة مع النخب العلمانية أو الشعبوية العربية التي حددت للدولة غاياتها وأخفقت في تحقيق الحد الأدنى من برامج التحديث والتحرر الوطني والرفاه، التي طرحتها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

لذا عَمِلَ العَوَّا على توضيح أن هناك قيماً حاكمة أو عليا توجه الحكومة وتكون شرطاً سابقاً على قيامها حتى لا تنزلق إلى ما انزلقت إليه النظم العربية في الخمسينيات والستينيات، وشدد على حق الأمة في مطالبة حكامها بهذه «المبادئ الدستورية أو القيم السياسية»، بل اعتبر أن من واجب الأمة وأفرادها التمسك بتلك المبادئ والاحتكام إليها[9].

إن تلك القيم الحاكمة يتم استمدادها من الأحكام العامة للقرآن الكريم والسنة النبوية، وتتأسس على فاعلية الأمة، التي يستلزم تحقيقها وحمايتها إقرار مبدأ التعددية السياسية، تلك القيم هي:

  • الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: مع التأكيد على ضوابط تلك القيمة أثناء الممارسة كما حددها الفقهاء وتوضيح المشاكل التي نتجت من افتئات بعض الجماعات عليها.
  • الشورى: باعتبارها ملزمة للحاكم وليست معلمة.
  • العدل: الشامل لعلاقات الحياتية كلها والمسيطر عليها، سواء بين الحكام والمحكومين أو بين عامة الناس.
  • الحرية: التي هي بمثابة أصل عام يعمل في نطاق العقيدة وتتفرع عنها الحريات السياسية.
  • المساواة: عدم جواز التمييز بين الناس بسبب نسب أو حسب أو دين أو لون أو جنس.
  • مساءلة الحكام وطاعتهم: حيث إن الحاكم في الفقه الإسلامي ليس فوق المساءلة، كما ذهب خليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبو بكر الصديق في قوله: «… إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني».

أخذ العَوَّا خطوة إصلاحية شديدة الأهمية في مجال الفقه السياسي في ما يتعلق بحق المشاركة السياسية للمرأة وغير المسلمين، وتوليهم المناصب العامة داخل الدولة، حيث أجاز الأمر معتبراً أن العالم الإسلامي خرج من إطار نظام الخلافة التي عرفناها في تاريخنا إلى إطار الدولة المدنية الحديثة، التي يجوز فيها أن يتولى المناصب العامة والسياسية أي إنسان مسلم أو مسيحي، أو أي مواطن في الدولة ذكراً أو أنثى؛ مرجعاً الأمر لطبيعة الحكم الحديث التي تتوزع فيه المهام على مؤسسات دستورية مختلفة ولا يقوم بها شخص واحد، وكذلك طبيعة المناصب فيها التي تعتبر وكالة عن المواطنين لا ولاية من أي نوع كان[10].

العَوَّا أثراً

إن محاولة تعقب أثر الدكتور العَوَّا الاجتماعي والتربوي والثقافي والسياسي ليست من السهولة بمكان، ذلك لأن نشاط الرجل وتأثيره، لم يتسنّ حتى الآن معرفة حدوده، فالرجل مثقف «غير تقني» منخرط حتى أخمص قدميه في شؤون أمته ومجتمعه، وهو في الوقت عينه مُربٍ فاضل تلحظ في كتاباته التوجيه والإرشاد بخاصة لفئة الشباب، فضلاً عن دوره في حياة تلاميذه والمحيطين به.

تجلى أثَّر الرجل في مؤسسي حزب الوسط وكان بمثابة مرجعيتهم الفكرية، والمنافح عن مشروعهم الذي يراه حلقة في سلسلة الإصلاح التي افتتحها الأفغاني وعبده، وهاجم خصومهم من الإخوان الساعين لعرقلة مشروعهم السياسي[11]، ودافع عنهم أمام المحاكم، وكان بمثابة المربي الموجه لعدد من أعضاء الحزب.

إلا أن تلك العلاقة، ومن قبلها القيم التي ينادي بها الطرفان، تعرضت لاختبار في عام 2012، عندما رشح العَوَّا نفسه في الانتخابات الرئاسية بدعم وتشجيع من بعض أعضاء الحزب وقياداته، قبل إجراء الحزب لاستفتاء داخلي بين الأعضاء لاختيار مرشح يدعمه الحزب -كون الحزب شهد طفرة في العضوية حينها، ولارتفاع أسهم أبو الفتوح الذي يمثل نفس الاتجاه[12].

سارع العَوَّا، عندما علم باتجاه قواعد الحزب إلى تفضيل دعم أبو الفتوح، إلى حل قيادة الحزب من أي التزامات قطعوها على أنفسهم بدعمه[13]، وكما يبرز هذا الموقف التزام الرجل بحرية التفكير والتعبير، فإنه يبرز في الوقت نفسه ثمرة غرسة في التزام أبنائه بالمبادئ التي رسخها فيهم ولو على حساب شخصه.

وختامًا، فالدكتور سليم العَوَّا مثقف من طراز فريد فهو على الرغم من كونه محافظاً اجتماعياً، فإنه مارس نقداً جذرياً لكثير من الأوضاع القائمة في العالم العربي والإسلامي ومصر، نقداً تجاه السلطة والمؤسسات الدينية خصوصاً، محاولاً إلزام قيادات الأخيرة بوظائفهم الدستورية والحضارية ومستحثاً إياهم على الخروج من أثر التوجهات السياسية والأمنية للنظم السياسية والمؤسسات الأمنية[14]، ومارس نقداً تجاه الحركات الإسلامية التي اتخذت العنف طريقاً للتغيير السياسي وقوم تصرفاتها والإخوان المسلمين الذين سعوا لإفشال تجربة حزب الوسط السياسية، ونقد الحركات العلمانية والتغريبية، وكذلك قيادات الكنيسة. ارتكز الرجل في نقده هذا على وظيفة المثقف الكفاحية أو الرسالية محاولاً ترسيخ قيم حاكمة دستورية يراها أصيلة تقوم على تراث حضاري إسلامي يتسع لكل ما هو جديد وفق تطور الظروف الاجتماعية والسياسية لبلدان العالم الإسلامي.

المراجع
  1. حسن محمود عبد اللطيف الشافعي، كلمة المجمع في استقبال الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا، مجلة مجمع اللغة العربية، العدد 118، نوفمبر 2009، ص 193.
  2. محمود هدهود، تيار الوسطية: نصف قرن من البحث عن الذات، إضاءات، 17 إبريل 2016، تاريخ الاطلاع: 27 ديسمبر 2022، الساعة 03:30.
  3. سليم البشري، الفتاوى البشرية.. فتاوى الإمام الأكبر شيخ الأزهر وشيخ المالكية بمصر العلامة الشيخ سليم البشري، تحقيق: محمد سليم العوا وحسن الشافعي، (الأردن: دار الرباحين للنشر والتوزيع، 2022).
  4. محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، (مصر: دار الشروق، الطبعة الثامنة 2006)، ص108.
  5. في النظام السياسي، ص109.
  6. في النظام السياسي، ص121.
  7. في النظام السياسي، ص126-127.
  8. يراجع في ذلك مجمل أطروحات أبو الأعلى المودودي عن الحكومة الإسلامية، وسيد قطب في معالم في الطريق وعبد السلام فرج في الفريضة الغائبة، وفتحي يكن في مشكلات الدعوة والداعية. يراجع في ذلك محمد جمال باروت، يثرب الجديدة.. الحركات الإسلامية الراهنة، (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1994)، ص ص 19-49.
  9. في النظام السياسي، ص134.
  10. محمد سليم العوا، الفقه الإسلامي في طريق التجديد، (القاهرة: سفير الدولية للنشر، الطبعة الثالثة 2006)، ص75.
  11. محمد جبريل، حزب الوسط المصري إذ يدور في فلك جماعات الإسلام السياسي، حفريات، 26 مايو 2019، تاريخ الاطلاع: 28 ديسمبر 2022، الساعة 01:00.
  12. حزب الوسط المصري يدعم أبو الفتوح على حساب العوا، العربية، 30 إبريل 2012، تاريخ الاطلاع: 28 ديسمبر 2022، الساعة 01:30.
  13. محمد شوشة، العوا: أحل حزب الوسط من وعده بدعمي وضغوطهم عليَّ للترشح للرئاسة، الشروق، 05 إبريل 2012، اريخ الاطلاع: 28 ديسمبر 2022، الساعة 01:30.
  14. محمد سليم العوا، أزمة المؤسسة الدينية، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الثالثة 2003)، ص13 وما بعدها.