«مراد هوفمان» دبلوماسي ألماني مرموق، قضى فترة طويلة من عمله في أقطار إسلامية، وكان ذلك قبل أن يعتنق الإسلام، دون أن يتخلى عن عمله كدبلوماسي لبلاده.

وللرجل عدة كتابات تخص الشأن الإسلامي، محورها فلسفته ورؤيته للإسلام، وسيرته الذاتيه التي أدت به لأن يغير دينه، من بينها هذا الكتاب «الطريق إلى مكة» الذي يعتبر من كتب المذكرات، يحكى فيها الكاتب عن خواطره حول الإسلام وحول شعائر بعينها، وحول العالم الإسلامي، ومسلمو أوروبا.


«الحج أشهرٌ معلومات»

تبدأ القصة في الطائرة المتجهة من المغرب إلى جدة، تحديداً فى المطار، حيث تتعرض الرحلات دائماً في موسم الحج لتضارب في مواعيد الإقلاع تؤدي دوماً إلى ساعات طويلة من الانتظار.

رحلة «هوفمان» للحج رحلة تأملية عميقة على أعلى مستوى، ينتقل فيها من مستوى تأمل العبادات والشعائر التي يختص بها موسم الحج، إلى مستوى آخر من تأمل الحجيج وعلاقتهم ببعض، وتلقيهم الشعائر على اختلافات ثقافاتهم، إلى مستوى ثالث من تأمل علاقات الحجيج وممارساتهم في موسم الحج وبين التأثيرات السياسية والاقتصادية على تفاعلاتهم .

كل ذلك دون أن يحدث فصل بين روحانيات الموسم وما يشكله من أفكار ومعتقدات ودلالات، ودون أن ينقلك وأنت تتجول بين أسطر الفصل الأول من رحلة حج كاملة الأركان على الورق إلى عالم الفكر والفلسفة، إنها تجربة فريدة يشير إليها هوفمان بأنها تجربة ولادة لكل معنى، ولادة جديدة لمسلم جديد.

وبالنسبة للقارئ هي تجربة ثرية، يرى فيها حج الباكستاني المعدم المستلقي في عراء صحراء «منى» على قطعة من الكرتون، هي كل ما يملك في رحلته، والتي سيفقدها بعد دقائق عندما يستعيرها باكستاني آخر وأتى زوجته مخاضها في عراء صحراء مكة، وحج السفير الدبلوماسي، الذي سيتنقل في حجه بين الفنادق المكيفة والخيام المجهزة، واستضافة في قصر خادم الحرمين ليتناول من طعامه الفاخر.


«تلك عشرةٌ كاملة»

«الخمر، الجنس، الربا، اللحوم والأطعمة المحرمة، التشريعات الخاصة بالزواج – تحديداً تعدد الزوجات – الصيام، الصلاة، الحجاب، المساواة بين الجنسين، الجهاد»، هذه أمور لا يكاد يخلو كتاب أو نقاش حول الإسلام من التعرض إليها، ولا يكاد يدخل أحد إلى الإسلام حتى يمطر أسئلة حولها.

هوفمان يتعرض في الكتاب إلى هذه القضايا تعرضًا يمزج في السرد بين التجربة الشخصية والنظرة الفلسفية والعلمية، بل والرصد الاجتماعي لتعامل الشعوب الإسلامية المختلفة التي عاش في أوساطها مع هذه العبادات والقضايا، ويرصد الفارق بين نظرة المسلمين في أوروبا لمثل هذه القضايا ونظرة المسلم في الشرق .

ففي الفصل الذي يعقده عن رمضان والصيام ينتقل فيه من الحكي عن تجربته مع أول رمضان يصومه في المغرب وتجربة الصيام في دولة أوربية، ويفصل فيما جال في أعماقه من أفكار وفلسفات حول الصوم، لكن يخالط هذه التجربة ما مزج بها من تصورات وعادات الشرق في رمضان، التي تضفي عليه طابعًا خاصاً، يصعب بعد مدة التفريق بين ما كان من الشرع وما كان من عادات وتقاليد القوم.

هذه الآفة نالت هوفمان في كثير من تناوله، فكثير مما تلقى من تعاليم تلقاه باتباع لمسلمين مشارقة، مما أدى إلى امتزاج ما هو من الشرع وما هو من -قبيل العادة في نفسه وبدى أثره فى كتابته، لذا يعترف هو نفسه في الفصل الذي عقده عن مشكلة المسلمين في أوروبا، إذ يؤكد على ضرورة البحث الجاد لتنقية الإسلام مما علق به من تصورات محلية وعادات وتقاليد الشعوب التي تعتنقه .

ورغم انحياز هوفمان -مثلاً -لتعدد الزوجات وحديثه عن الحكمة من الحكم طبقاً لما يراه متسقاً مع الطبيعة البشرية، وأن تعدد الزوجات بالضرورة أفضل من تعدد العشيقات، إلا أنه يبدي موقفًا مغايرًا مع الحجاب على سبيل المثال، فهو يرى أنه عادة لا ترقى للفريضة غير أنها قد تسن.

غير أن مراد هوفمان يحاول فى كل ما يورد من آراء أن يؤكد على تقبل تعدد الآراء، واحتواء الإسلام لها، وأن الخلاف فى الفروع مقبول ما لم يمس جوهر الدين. وعلى هذا يسير فى مناقشات لقضايا كالجهاد والربا وغيرها فى فصول مختلفة من الكتاب.


مسلم «منزوع الإضافات»

في خضم تعرض الكاتب لأوضاع المسلمين في أوروبا، والتي يعلم الله وحده كم تغيرت بعد مرور أكثر من 20 عاما على كتابة هذا الكتاب، ينتقد الكاتب بشدة حالة التفكك التي أصابت مسلمي أوروبا، والتي هي تبع لما أصاب المسلمين من تفكك في المشرق. فلا يمكن لمسلم في أوروبا أن يعرف نفسه بمسلم وفقط، فعليه أن يكون مسلما بإضافة شيء، مسلم وسني ، مسلم وشيعي، مسلم وصوفي، مسلم وأصولي.

هذه الحالة أيضاً يرصدها الكاتب في الدول العربية التي عمل بها، وبالرغم من الآثار العنيفة للتداخل السياسي في تسيير هذه التكتلات والجماعات، يرى هوفمان أن آثارًا أكثر ضرراً تقع على مسلمي أوروبا جراء هذا التشتت، تكمن في عدم وجود إتحاد إسلامي يطالب بحقوق المسلمين، والذي إن وجد لصار الإسلام دينًا معترفًا به اليوم في أوروبا بشكل رسمي في كافة المجالات.

يتابع هوفمان رصد أحوال الإسلام والمسلمين في أوروبا، وتقسيماتهم، وأسباب تحولهم للإسلام وما يتعرضون له من اضطهادات وإعاقة لممارسة الشعائر، ويسأل عن حال المجتمع المسلم في أوروبا وكيف يلجأ إلى العزلة وإبراز تمايزه عن الأوروبي بإظهار انتمائه للشرق باللباس والحديث، وكيف سيكون من المفيد وجود نسخة من المسلمين قادرين على الاندماج في المجتمع الأوروبي وتبادل الإفادة معه؟


الإيمان على مسرح الباليه:

هوفمان يتعرض فى الكتاب إلى هذه القضايا تعرضًا يمزج في السرد بين التجربة الشخصية والنظرة الفلسفية والعلمية، بل والرصد الاجتماعي لتعامل الشعوب

كيف آمنت؟ يسأل هوفمان!

عن النقطة التي أوصلته لإيمانه، يرى أن الإيمان لا يحدث فجأة بأن يستيقظ المرء مسلماً، الإيمان تراكم من المعانى والقناعات لا حصر له، وهو قد يبدأ، لكنه لا ينتهى بحال .

هوفمان كان مؤمناً من البداية، عندما وجد نفسه يرفض معتقدات التثليث، لقد وقر في صدره أن ثمة إلها للكون، ليس فقط علة أولى، فلسبب ما، أو ربما لأسباب متعددة وحوادث كثيرة مر بها ، صار يؤمن ألا مجال للصدفة في هذا الكون، وأن ثمة إلها متحكما في دقائق الأمور.

ربما كان هذا عندما عمل في الجزائر في فترة استعار الحرب، ففي كل لحظة كانت تمر رصاصة بجواره ولا تصيبه كان يزداد يقينه أن الأمر ليست مصادفة، أن يبقى حياً في بلد أعلنت أن «القتل للجميع».

عندما عاد لزيارة عدة بلاد إسلامية أدهشه المعمار الإسلامي، قدرته على التجريد، وتداخل عناصر الديانة في كل خط يرسم على جدران اللمساجد

ومع هذا كان يدهشه تصرف المسلمين جراء كل هذه الاعتداءات، وتجاه الأجانب في بلادهم، تحديداً عندما أسعف زوجته التي تنزف سائق عربي مسلم وتبرع لها بدمه في اللحظة التي كانت تقطع فيها قوات من المتمردين الفرنسيين الطريق أمام وصول سيارة الإسعاف.

من هذه اللحظة قرر هوفمان قراءة القرآن، ليتعرف أكثر على دين هؤلاء، الذين يواصلون القتال رغم كل ما أصابهم من ويلات الحرب، دون أن يفقدوا إنسانيتهم.

لأعوام ظل يقرأ القرآن، حتى في الفترة التي ترك فيها العمل الدبلوماسي واتجه للفن، عشق الباليه وفنون الحركة، وعمل ناقداً له ومدبراً لفرقة باليه، كان يدرك أن الفن التجريدي يدهشه، ويملك عليه نفسه، عند هذه اللحظة تحديداً كان الإيمان يرسخ فى نفسه.

عندما عاد لزيارة عدة بلاد إسلامية أدهشه المعمار الإسلامي، قدرته على التجريد، وتداخل عناصر الديانة في كل خط يرسم على جدران المساجد والحوانيت والحمامات والأسواق.أدهشته الأسواق الإسلامية الممتلئة إنسانية في مقابل جمود الأسواق الأوروبية، وأدهشته سكينة مساجد الشرق وتجانسها مع الطبيعة في مقابل كنائس أوروبا شديدة التعقيد.

المهم أنه عند لحظة ما وجد نفسه مسلماً، وعند لحظة ما وجد الطريق تقوده إلى مكة.